متعة الحديث
إن أمتع ما يُمتعني في الحياة هو حديثٌ يجري مع صديق أو أصدقاء، نعلو فيه إلى ذروةٍ يتحول عندها إلى فنٍّ بديع؛ هو الفن الذي يسوق به الإنسان مشاعره الدفينة في عبارةٍ نقيةٍ واضحة، فإذا المشاعر التي بَدأَت عند صاحبها إحساسًا مُبهمًا غامضًا قد تَحوَّلَت بالحديث إلى قولٍ معقولٍ مفهوم؛ فالعلاقة قويةٌ وثيقةٌ بين العقل والنطق، حتى لقد سُمِّيَ الإنسان بالحيوان الناطق حين أرادوا وصفه بأنه الحيوان العاقل. «في البدء كانت الكلمة» وأول الآدمية كان الكلام.
وإنما تَذكَّرتُ متعة الحديث عندما ذَكَرتُ سقراط؛ هذا الفيلسوف الذي ارتفع بفن الحديث إلى أَوْجٍ رفيع؛ فلم يكن حديثه لهوًا ولا لغوًا، لكنه كان الأداة التي يُولِّد بها الحقائق من ضمائر حاملِيها؛ ففي جوف الإنسان ذخيرةٌ من حكمة ومعرفة، تظل مُبهَمةً في كمونها حتى يجيئها المُحدِّث البارع فيُخرجها على لسانه لفظًا صريحًا واضحًا. إنني مؤمن — مع وايتهد — بالحديث وقيمته، وهو يقول عن نفسه في أواخر حياته: «لو أخرجتُ نفسي عن دائرة المعرفة التي أكتسبها من الكتب، والتي كان لا بُدَّ منها لأداء مهنتي، وَجدتُني قد لقيتُ أكثر ما لقيتُ من تهذيبٍ عن طريق الحديث الجيد الذي طالما أسعدني الحظ أن أحظى به مع الأصدقاء.»
كان الحديث أَوَّل أداةٍ عرفها البشر في نقل ثقافته، وسيظل أداة لا مندوحة عنها إلى أبد الآبدِين؛ فماذا يساوي الكتاب المسطور إذا لم تقرأه قراءة من يتحدث إلى مُؤلِّفه حديث المُتدبِّر المُتفهِّم الناقد الذي يُوافقه هنا ويُعارضه هناك؟ وماذا تساوي القطعة الفنية إذا لَبِثتَ تُحدِّق فيها بعينَيك دهرًا كاملًا دون أن تحكي لنفسك وكأنما تُحدِّث نفسك عن مواضع الجمال فيها؟ حقًّا إن الإنسان — كما قيل — هو بأَصغَرَيه: قلبِه ولسانِه؛ فبالقلب يشعر، وباللسان يُفصح عما قد شَعَر به. ولو اقتصر الأمر على قلبٍ يشعر، لما عَرفَت الدنيا رسالةً لرسول ولا فكرةً لِمفكِّر، ودع عنك إنسانًا بغير قلبٍ يَخفِق أو لسانٍ ينطق؛ فهو والجماد سواء.