دعهم على سجيتهم
وهل تُحب لغيرك ما تُحب لنفسك؟ نعم، لو كان غيرك هذا في مثل ظروفك ظرفًا بظرف، ولكن هيهات أن يتشابه اثنان! وما دامت الظروف اختَلفَت، فلم يعُد من الخير لغيرك أن تُحب له ما تُحب لنفسك.
كان والدي يُحب لي — وأنا الطفل الصغير — ما يُحب لنفسه وهو الرجل الذي تقدَّمَت به السن، ومن هنا كانت غلطته الكبرى في تربية أبنائه. كان وقورًا فأحبَّ لي أن أكون وقورًا مثله. ولما كانت طبيعة الطفل تأبى الوقار، فقد فرضه عليَّ فرضًا وأرغمني عليه إرغامًا، فلا بُدَّ أن يكون قد أطفأ في نفسي الناشئة ما كان عساه أن يذكو لو ترك على طبيعته حُرًّا، فنصيحتي للكبار ألا يُحبوا لصغارهم ما يُحبونه لأنفسهم.
وأذكُر بهذه المناسبة كتابًا إنجليزيًّا كُتب للأطفال، عنوانه «الريح في الصفصاف»، كتبه «كنث جراهام» سكرتير بنك إنجلترا. وقدَّم المؤلف لكتابه هنا بمقدمةٍ تستوقف النظر لِما أورده فيها من تحليلٍ لوجهة نظر الأطفال إلى آبائهم وأُولي أمرهم من الكبار؛ فهؤلاء الكبار هم — في نظر أطفالهم — مُصابون بالجنون والعَتَه، تُعوِزهم أبسط قواعد المنطق السليم؛ فالأطفال يتعجبون إذ يَرَوْن مقاليد أمورهم قد أُلقِيَت في أيدي هؤلاء الكبار المرضى بفقر الدم، البِطاء في حركتهم ونشاطهم، المغلولِين إلى مقاعدهم، السجناء في بيوتهم، الذين استبدت بهم عاداتهم يُكرِّرونها في غفلةٍ تكرارًا مطردًا مملولًا. ولطالما يَعجَب الأطفال: بأي عقلٍ في الدنيا يُفضِّل الكبار قُبوعهم في ديارهم وأمامهم مُتَع الحياة وملاذُّها، كتَسلُّق الأشجار والخوض في برك الماء؟ وإذا كانوا قد فَقَدوا الصواب فيما يختص بأنفسهم، فليتركوا الأطفال وشأنهم يغوصون في هذه المُتَع والملاذ.
ويستطرد الكاتب في مُقدِّمة كتابه فيقول: إن دنيا الحيوان أقرب إلى فهم الطفل من هؤلاء الكبار؛ فالطفل يرى في تصرُّف الفأر — مثلًا — سلوكًا أقرب إلى العقل السليم من تصرُّف أبيه وأمه؛ ولذلك يُمتِعه أن يرقُب الحيوان وأن يُحاكيه أكثر مما يُمتعه أن يرقُب والدَيه وأصدقاءهما من الكبار؛ فمدار شخصية الطفل — وكذلك الفأر — أن يجمع بين المغامرة والمأوى الآمن، كالذي يُحب أن يجول في الغابة المجهولة الثنايا، على شرط أن يظل قادرًا على العودة إلى الطريق المؤدية إلى منزله، وكذلك الفأر، يُحب لنفسه المأوى الآمن في جحره، فيخرج إلى مغامرته ثُمَّ يعود.
فلنُحب لأطفالنا، لا الذي نُحبه لأنفسنا، بل الذي تُحبه طبائعهم.