حياة على عجل
أقمتُ فيما أقمتُ به من مدن الولايات المتحدة الأمريكية، بمدينة «سياتل» في أقصى الشمال الغربي. وهناك في تلك المدينة العظيمة الواقعة على شاطئ المحيط الهادي، وَجَدتُ من علامات الثراء الضخم والعمل الدائب الذي لا يفتُر ولا يَكِل، ما لم أجد له في غيرها مثيلًا. لكنني لم أَكَد أَستقِر في ذلك البلد النابض بالحياة، المُفعَمة جيوبه بالمال، المليئة دُوره وطُرقاته بالنشاط والعمل، حتى تَبيَّنتُ أن مدينة «سياتل» هذه تَتميَّز بأعلى نسبةٍ في الانتحار! فكيف كان ذلك؟
سَألتُ صديقًا من أبناء الأرجنتين استوطن تلك البلاد لعشر سنواتٍ مَضَين، وكان زميلًا لي في الجامعة، أحاضر أنا في الفلسفة، ويحاضر هو في علم الطبيعة، وكنت آنَس إلى صحبته وأستمتع بحديثه الذي كان يَتقطَّر خبرة ويَتفجَّر حِكمةً، سألته: «كيف تُعلِّل ارتفاع نسبة الانتحار في هذا البلد الناجح؟» فقال: «إن الكثرة الغالبة من هؤلاء المُنتحرِين شبابٌ جاء وافدًا من شرقي الولايات المتحدة باحثًا عن النجاح، فظل يزحف غربًا مُتَنقلًا من بلدٍ إلى بلد، فكلما أخطأ النجاح في بلد تركه وسار غربًا، حتى إذا ما بلغ أقصى الغرب في مدينة «سياتل» الواقعة على المخيط، ثُمَّ أخطأ النجاح أيضًا، لم يجد أمامه ناحية الغرب إلَّا المحيط يُلقي بنفسه في لُجَّته!»
وهنا انتقل بنا الحديث عن فكرة «النجاح» هذه، التي هي وليدة هذا العصر الصناعي، وإلى أي حَدٍّ كان لها أبلغ الأثر على حياة الأمريكي الذي خلقها، فزعزع بها قيمةً من قيم الحياة القديمة، وأعني بها قيمة الانتماء إلى موطنٍ إقليميٍّ مُعيَّن؛ فما أسهل عليه أن يَشُد رحاله من بلد إلى بلد، ومن ولاية إلى ولاية، ليضرب بخيامه حيث الكلأ كما كان البدو يفعلون، وكل الفرق هو أن السيارة قد حلَّت محل الجمل. وإنها لمُصادفةٌ موفقةٌ أن تُسَمَّى السيارة بهذا الاسم الذي كان قديمًا يُطلَق على قافلة الجمال؛ لأن المهمة الرئيسية في كلتا الحالتَين واحدة.
فكرة وأداتها؛ أعني فكرة «النجاح» وأداة تحقيقها هي «السيارة» التي ينطلق بها الأمريكي هو وأسرته ضاربًا في الأرض حتى يُحقِّق نجاحه المنشود. أقول إن هذه الفكرة وأداة تنفيذها هما اللتان قد طبعتا الأمريكي على التجوال الذي لا يستقر في مكانٍ واحدٍ إلا ريثما يدوم له النجاح فيه؛ فيندر جِدًّا أن تجد البيت الواحد يسكنه من الأسرة الواحدة جيلان متعاقبان؛ فالبيت الذي يسكنه الوالدان قلَّ أن يكون هو نفسه البيت الذي يسكنه البنون في الجيل الثاني؛ لأن ارتحال هؤلاء البنين يُوشك أن يكون أمرًا مؤكَّدًا، والمزرعة والواحدة لا تظل في ملكية مزارعٍ واحدٍ أكثر من عشر سنوات في المتوسط، كما يدل الإحصاء.
كانت الحياة في الدنيا القديمة سائرة على حكمة الضرب بالجذور في مكانٍ مستقرٍّ ثابت. وإن أمثالنا السائرة لتكشف عن مُثُلنا العليا؛ فنقول نحن: «من فات قديمه تاه.» ويقول الإنجليزي: «إن الحجر المُتدحرِج لا يجمع الطحلب.» إشارةً منهما إلى أن النجاح يستلزم البقاء في مكان واحد، ويقول الفرنسي بلسان باسكال: «أساس متاعب الإنسان مغادرته لغرفته.» ثُمَّ جاءت الدنيا الجديدة فأقامت حياتها على حكمةٍ جديدة، وهي أن يحيا الإنسان حياةً من تحتها عجلات سيارته تدور ولا تَكُف عن دورانها، متنقلةً بصاحبها من بيتٍ إلى بيت، ومن ولايةٍ إلى ولاية … فلئن كانت حياة البدوي القديم حياةً على جمَل، فحياة الأمريكي الجديد حياةٌ على عجَل.