الجائع يحلم بالعيش
أحسب أنه لم يعُد بين القراء قارئٌ واحدٌ لم يسمع بما ذهب إليه فرويد في علم النفس من فروض؛ إذ فرض أن السلوك الإنساني كله مُنبعِثٌ عن رغباتٍ جنسيةٍ مكبوتة، حُبِسَت في أعمق أعماق النفس مذ كان الإنسان رضيعًا يغتذي من صدر أمه إلى آخر ما هو معلوم.
ولستُ أنسى في هذا الصدد قصةً طريفةً كان قد قصها علينا في جامعة لندن أستاذٌ يحاضرنا عن نظرية فرويد هذه؛ إذ نصحنا بألَّا نبالغ في التشيُّع لها، قائلًا: لقد حدث لي أن زادت نسبة الأشياء التي أفقدها ولا أدري أين فقدتها؛ فمفاتيح مكتبي تضيع إلى حيث لا أدري أين ضاعت، ونقودي تختفي إلى حيث لا أعلم كيف تختفي، فقلت لنفسي وأنا العليم بالنفس وأسرارها: لماذا لا تتناول نفسك بالتحليل لترى أين تكون العقدة التي تؤدي إلى هذه الظواهر كلها؟ وأخذتُ أُسجِّل أحلامي في النوم واليقظة وأُحلِّلها، وأفكر في هذا وأفكر في ذاك، وقبل أن أنتهي إلى نتيجة علمية من بحثي هذا، لاحَظتُ فجأة أن جيوب سراويلي مُخرَّقة ولم تكن زوجتي معي لتصلحها. وإذن فالمفاتيح التي ضاعت والنقود التي اختفت قد تسلَّلَت كلها من هذه الخروق، فلا عقدة ولا أحلام تريد التحليل والتشريح.
وإنما أقول هذا كله لأسوق للقارئ رأيًا طريفًا وَقَعتُ عليه لناقدٍ ينقد نظرية فرويد هذه، فيقول: إنما قال فرويد ما قاله عن الجنس المكبوت؛ لأنه يعيش في نوعٍ من الحضارة تفرض القيود على العلاقة الجنسية، في الوقت الذي لا تكاد تَفرِض قيدًا على الطعام لوفرته. ولو فرضنا أن الأمر قد انعكس بحيث وجدنا نوعًا آخر من الحضارة يفرض القيود على الطعام لِقلَّته، ثُمَّ يترك العلاقة الجنسية حرةً بغير قيدٍ يحدها، إذن لقال فرويد عندئذٍ إن العقدة التي ينبعث منها السلوك الإنساني هي عقدة الرغبة في الطعام. ويُقال إن أستاذةً إنجليزيةً في الأجناس البشرية قَرأَت هذا النقد الطريف، فشَدَّت رحالها فورًا إلى قبيلةٍ بدائيةٍ تعلم عنها قلة الطعام ووفرة الجنس، وجَعلَت همها أن تجمع طائفةً من أحلام النوم وأحلام اليقظة التي يحلم بها أفراد تلك القبيلة، فإذا هما يدوران أساسًا حول الطعام، كيف يجدونه في أحلامهم ليُشبعوا ما لم يتيسر لهم إشباعه في عالم الصحو. وإذا كان كذلك، فالعبرة إذن هي بما ينقص الناس من حاجات، وهذا النقص يختلف من ظروف إلى ظروف. وكِدتُ أقول إن صاحب المثل القائل: «الجائع يحلم بالعيش.» قد كان له من صدق النظر ما كان لفرويد.
ألا ما أكثر ما يستوحي الإنسان حقيقة نفسه ثُمَّ إنه إنما يصف بذلك حقيقة العالم.