الكلمة الولود
الكلمات كالكائنات الحية، منها العقيم ومنها الولود؛ فمن الكلمات ما تنطق بها وكأنك لم تنطق بشيء؛ إذ ينزل الكلام على تراب الأرض كالحصاة الضئيلة لا يهتز لها يابس ولا ماء، ولكن منها ما لا يلبث أن تنفرج عنه الشفتان حتى يطير مع الهواء في أرجاء الأرض والسماء كأنه من عُتاة الطير، وهو لا يكاد يهبط بأرض حتى يبيض ويُفرِّخ، إلى أن تمتلئ بنسله عقول الناس ونفوسهم كلامًا وكتابةً وتعليقًا وشرحًا واتفاقًا على الرأي هنا واختلافًا هناك.
لقد صدق من قال إن آلاف الآلاف من الكتب التي تملأ رفوف المكتبات في أرجاء البلاد، تدور كلها حول عددٍ قليلٍ جِدًّا من الكتب الأصيلة، قد لا يجاوز عددها عشرة، لكنها كانت كتبًا ولودًا، كل حبة منها تلد ألف حبة … بل قد يكون الكِتاب الواحد منها أساسًا لحضارةٍ بأَسْرها تُظلِّل الناس قرونًا بعد قرون؛ فهذا هو الإنجيل وهذا هو القرآن، كتابان هما محوران لحضارتَين. إنك تستطيع أن تقول عن الفكر العربي من أَوَّله إلى آخره إنه بمثابة التعليق والشرح على القرآن الكريم؛ فالفقه واللغة والتاريخ والفلسفة والسياسة والأدب كلها قد جَعلَت القرآن أساسها ومدارها. وتستطيع كذلك أن تقول عن جزءٍ كبيرٍ جِدًّا من الفكر الأوروبي إنه أيضًا بمثابة التعليق والشرح على الكتاب المُقدَّس. وحسبك خمسة عشر قرنًا — من القرن الأول بعد الميلاد إلى القرن السادس عشر — لم تكد تعرف أوروبا خلالها إلا فكرًا يجعل هذا الكتاب أساسه ومداره. ودُرْ ببصرك إلى الشرق الأقصى تجد كتابَين أو ثلاثة هي التي شَغلَت الأذهان ومَلأَت النفوس بين ملايين البشر ولعدة قرونٍ من الزمان.
ألا ما أبعد الفرق بين كلمة وكلمة وبين كتاب وكتاب! إن التفكير كله بشتى ألوانه ومختلف درجاته — إبَّان العصر الواحد — كثيرًا ما تلده أمٌّ واحدةٌ جاءت على صورة كتابٍ واحدٍ أنتَجَته قريحة عبقريٍّ واحد! فانظر إلى عصرنا مثلًا — وأعني المائة سنة الأخيرة — إلى كتاب داروين «أصل الأنواع»، وكم أنتج من علم وفلسفة وتاريخ وسياسة؛ فنوشك منذ صدور هذا الكتاب في منتصف القرن الماضي ألا نجد مفكِّرًا واحدًا لا يتناول موضوعَه — مهما يكن موضوعُه — من وجهةِ نظرٍ «تطوريةٍ»، فكيف «تطورت» المادة؟ وكيف «تطور» المجتمع؟ وكيف «تطورت» الدولة؟ وكيف «تطور» الأدب والفن؟ بل كيف «تطورت» العقائد على اختلافها؟ … فإلى هذ الحد البعيد يكون الكتاب الواحد مدارًا لعصرٍ فكريٍّ بأَسْره.
وأنتقل الآن بالفكرة إلى دائرةٍ أضيق، فأذكر هذه العبارة البارعة القوية التي أوردها أبو حيان التوحيدي على لسان فيلسوف لم يذكر اسمه، فقال: «إذا نازعك إنسان فلا تُجبه، فإن الكلمة الأولى أنثى وإجابتها فحلها، وإن تَرَكتَ إجابتها بَترتَها وقَطَعتَ نسلها، وإن أَجبتَها أَلقَحتَها؛ فكم من ولدٍ ينمو بينهما في بطنٍ واحد.» يريد القائل أن يقول إن المعارك الكلامية الحامية كثيرًا ما تَتولَّد عن الكلمة الأولى، فتظل تلد النتائج، تلو النتائج، حتى تكبر المعركة ويستفحل أمرها. وإنه لمن الأسرار العجيبة التي نراها في لغتنا العامية أن نرى كلمة «تلقيح» بذاتها تُستخدم في وصف الكلام الذي يقوله صاحبه تعريضًا بآخر مما يكون من شأنه إثارة الخلاف بل ونشوب القتال.
أرسل فيليب المقدوني — أبو الإسكندر الأكبر — رسالة يتوعد بها أعداءه في إقليم لاقونيا، جاء فيها: «إذا استَوليتُ على لاقونيا، فسأسحق أهلها سحقًا.» فأجابه اللاقونيون بكلمةٍ واحدةٍ من الكلمات التي قد تلد حربًا ضروسًا؛ إذ أجابوه بكلمة: «إذا.»