التعاون فطرة
قال حافظ إبراهيم يصف عدم تعاوُن المصريِّين: «المصري والمصري كشُعبتَي المِقراض، لا يلتقيان لشيءٍ إلا افترقا.» ومثل هذا القول يُردِّده كثيرون، وحسبُنا نظرةٌ يسيرةٌ عابرة إلى أصول مجتمعنا، لنرى بُطلان هذه الدعوى؛ إذ نرى «التعاون» جذرًا أصيلًا من جذور هذا المجتمع، نُؤدِّيه بغير تكلُّف ولا تصنُّع؛ لأنه تعبيرٌ عن روحنا وفطرتنا.
وإنما جابت برأسي هذه الفكرة عندما ذَهبتُ إلى قريةٍ ريفية منذ قريبٍ لأقوم بواجب العزاء في مُصابٍ ألمَّ بصديق، فما أقبل وقت الغَداء ثُمَّ ما أقبل وقت العَشاء، حتى رأيتُ «الصواني» خارجةً من كل باب، تعاوُنًا من أهل القرية على استضافة الغرباء؛ وعندئذٍ عادت بي الذاكرة إلى طفولتي وشبابي، عندما كنت أقضي إجازات الصيف مع جَدَّتي في الريف، فتَذكَّرتُ عشرات الأمثلة الدالة على تأصُّل روح التعاوُن في أهل القرية بفطرتهم؛ فإذا خَبزَت واحدةٌ من سكان الحارة خَبزَت معها الباقيات، وإذا جَلسَت الواحدة لتفتل «الشعرية» جلس معها الباقيات يفتلن معها حتى تفرغ من هذه المهمة الدقيقة الطويلة؛ هذه تستعير الإبرة من تلك، وتلك تستعير قليلًا من سُكَّر أو مِلحٍ من هذه. يمرض الولد في بيتٍ فينهض أهل الحارة عن بكرة أبيهم للمعونة؛ فجارٌ يذهب مسرعًا إلى «البندر» ليشتري الدواء، وجارة تُكرِّس يومها لأداء واجبات الدار من تنظيفٍ وطهوٍ للطعام كي تخلو أم المريض لرعاية مريضها. وإذا قُلنا مع القائل إن الحياة قِوامها ثلاثة أحداثٍ هامة، هي: الولادة، والزواج، والموت، فانظر إلى هذه الأحداث الثلاثة بالذات كيف يتعاون لها أهل الريف؛ فهل تلد والدةٌ إلا وساكنات الحارة جميعًا خادماتٌ لها مُعينات؟ وهل يتزوج فتًى أو فتاة إلا والفرحة تملأ سكان الحارة جميعًا كأنما الفتى أو الفتاة عندئذٍ فتاهم جميعًا أو فتاتهم؟ ثُمَّ هل يموت من سكان الحارة عضو إلا والمأتم مأتم الجميع؟ … انظر إلى فكرة «النقوط» النابعة من فطرتنا الأصيلة، وهل هي إلا نظام للتأمين الجماعي بأدق معناه؟ فدافع «النقوط» إنما يدفع «بوليسة التأمين» أقساطًا لهذه الأسرة وتلك، حتى إذا ما جاءته الظروف التي يُلقى عليه العبء ثقيلًا، تَدفَّق عليه «النقوط» راجعًا إليه مُتجمعًا في مبلغٍ يَسُد الطارئة.
إلا أن الدعوة اليوم إلى «التعاون» إنما هي دعوة إلى فطرةٍ فينا وليست بغريبةٍ عنَّا كما يقول المتشائمون. وإني لأعود إلى عبارة حافظ إبراهيم نفسها: «المصري والمصري كشُعبتَي المقراض لا يلتقيان لشيء إلا افترقا.» فألاحظ أنها ترد على نفسها بنفسها؛ لأن شُعبتَي المقراض حين يفترقان بعد لقاء، فهما يفترقان بعد أداء المهمة التي التقيا لأدائها، وهذا هو التعاون في لُبِّه وصميمه.