الأرانب العفاريت
قصةٌ شَهِدتُ حوادثها منذ ثلاثين عامًا ولا أزال كلما ذكرتُها أغرق في الضحك؛ ففي ليلةٍ مقمرةٍ من ليالي الصيف، أخذنا نَسمُر في الحقل إلى ما بعد منتصف الليل، ابن عمتي — وهو مالك الأرض — وصديقٌ له ريفيٌّ وأنا. وفي هداة الليل؛ حيث يجيئك صرير السواقي من بعيدٍ مرةً ومن قريبٍ مرة، والضفادع تنق هنا وهناك وفي كل مكان نقيقًا موصولًا لا مقطوعًا ولا ممنوعًا، والجنادب تُغنِّي لها كأنما هي البطانة الموسيقية، والبعوض يلسعني ولا يلسع زميلَيَّ، أو قل إنه كان يلسعني فأُفصح عن لسعاته آنًا بعد آنٍ، ويلسع الزميلَين فلا يُفصحان.
ومضينا في السمر، أُحدِّثهما عن القاهرة ويحدثانني عن الريف. وما إن جاء ذكر الأشباح والعفاريت، حتى كنت أُنكر أنباءها وأسخر، ويُنكر معي ابن عمتي ويسخر. وأمَّا صديقه الريفي فقد راح يُؤيِّد قصةً بقصة، ويشهد على صدق روايته بروايةٍ أخرى. وكان كلما زادنا من أمرها نبأً، زدناه من سخرنا سخريةً، وكانت هذه السخرية في رأيه كالكفر سواء بسواء. أَنُنكِر ما تراه الأعين وتُحِسُّه الأيدي؟ إن العفاريت لتظهر للناس في ألف صورة، وكل أهل القرية يعلمون علم البصر الذي لا يُخطئ أنها — مثلًا — كثيرًا ما تظهر على هيئة الأرانب في الليالي المُقمِرة بصفةٍ خاصة، وهي أكثر ما تظهر على هذه الصورة في المنطقة المحيطة بالمسجد.
وتَشعَّب الحديث بعد ذلك، حتى إذا ما بلغنا من السمر غايته في ساعةٍ متأخرة من الليل، نهضنا والضحك يملأ أفواهنا، والفرحة تشيع في نفوسنا، وسرنا الهُوينا في طريق العودة، فما إن مَرَرنا بالمسجد — وهو في مدخل القرية — حتى أراد مِنَّا من أراد أن يقضي حاجة في «ميضة» الجامع! ولا نكاد ندخل في الفناء المكشوف، حتى نرى الأرانب البيضاء الناصعة جماعاتٍ تلمع في ضوء القمر، فبسمل صديقنا الريفي وحوقل واستعاذ بالله من الشياطين، ونظر إلينا نظرةً مليئةً بالمعنى والتقريع. وأمَّا ابن عمتي وأنا فقد لَمعَت في رأسَينا فكرةٌ واحدةٌ في لحظةٍ واحدة، كأن كِلَينا كان يُفكِّر برأس أخيه، وهي أن نمسك من هذه الأرانب ما استطعنا، وبدأنا الطِّراد من فورنا حتى أمسكنا من الأرانب أرنبَين، وعدنا مُمسكَين بهما كأنما نحن رجال الشرطة قد قبضوا على مجرم خطير ووضعنا الأرنبَين في «حلةٍ» كبيرةٍ واربنا غطاءها وثبَّتنا الغطاء بحجرٍ ثقيل، وانصرفنا إلى مخادعنا.
وصحونا مُبكِّرَين نَتسلَّل إلى «الحلة» ننظر خلال فتحة الغطاء، فإذا الأرنبان هناك كما وضعناهما، لولا أن على وجهَيهما علائم ذلةٍ وانكسار. وأمرنا أن يُذبح الأرنبان وأن يُطهيا. كان منهما غداؤنا أمام شهود، وألححنا على صديقنا الريفي أن يأكل، لكنه — مع ذلك كله — أبى أن يُدخل في جوفه شيئًا من لحم الشياطين.