الفصل العاشر
يُقال أن كل دراما يجب أن تقوم على قاعدة «الفصول الثلاثة»، ولهذا فمن المفروض أن أفعل المِثل في قصتي، رغم أن الفصل الثالث، أو الجهد الأساسي، في حالتي، غير موجود. هكذا تسير الأمور في بلادي، لسوء الحظ، فيما يتعلق بكل مَن يحاول أن يصنع خيرًا. إن أول عمل (فصل) من الخير (أو الجمال) يأتي مفاجئًا للبلاد، ويواجه مقاومة ضئيلة. لكنه يلقى تجاهلًا؛ لأنه لا يُطابق ما يحيط به من قبح وتنظر البلاد العمل العظيم الثاني، ولو حقق فيه صاحبه تَقدمًا ما، فإن ثمرته تبرز إلى الوجود مُحاطةً بالخوف البالغ. ذلك أن الجمال والحق والخير شيء نادر، وهو يُقابَل للوهلة الأولى بالحيرة، وللوهلة الثانية بالخوف. قد تسألونني، ما العمل الثالث؟ الثالث هو المأساة.
في بلادي، خلال القرن العشرين، تُمثل المأساة الفصل الذي لا يتحقق. إنها عملٌ يعجز الرجال العظماء — ذوو الرؤى والتناسب، عن إنجازه — وهذا هو جوهر المأساة في الأمر. وهو بالضبط ما حدث لي، وأريدكم أن تفهموا الأمر ولهذا سأوضحه لكم بعناية شديدة.
كان جهدي الأول موجهًا إلى الحياة العائلية. فقد حاولت أن أجلب الجمال إلى الأفراد من موطني، بأن أُصمم ثلاثة منازل وأقدِّمها لهم كبديل للمساكن الثابتة البليدة القبيحة التي ألقى مواطنيَّ أنفسهم مرغمين على الحياة فيها. كان هذا هو العمل الأول، وكما تعلمون فإن عملي قد رُفض.
وكان جهدي الثاني هو عجلة العربة، حيث قدمت تصميمًا متحركًا يُتيح الفرصة للتعاون والحياة الأفضل … وبعبارة أخرى، بديلًا متنورًا للمدن الحقيرة المتنافسة الحيوانية التي تُقيد حرية المعاصرين لي. وهذا أيضًا قوبل بالرفض بدافع الخوف. فلم يطابق جمالها القبح الذي ألفه مواطني.
وكان جهدي الثالث ممكنًا لو كانت هناك استجابة للجهدين الأولين. كان يجب أن يرمي إلى إعادة تشكيل بلادي، بعد أن تتحد قدراتي مع الآخرين من أمثالي، ويكون هدفنا هو خلق بنيان يمثِّل المواقف القومية الحرة والأمنية والطيبة التي يعبِّر عنها السكان. لكن ها أنتم ترون، أن الجهدين الأول والثاني قد تحققا في وجه مقاومة من جانب المواقف القومية، لا نتيجة لها، ورغم أني تمكَّنت من الاستمرار بعض الوقت دون استجابةٍ ما، فإني لم أعُد قادرًا الآن على مزيد من الاستمرار. ليس هناك وجود للعمل الثالث، فحكايتي هي المأساة، و«العيب» ليس فيَّ وإنما في حضارتي ومجتمعي. فأنا قادر وراغب، ولكنكم لستم كذلك.
أيها القارئ، هل تعرف ما اليأس؟ هل حدث لك مرة أن عشت برؤيا عظيمة كان من اليسير أن تتحقق لولا المعارضة العمياء بلا ضرورة من جانب الناس أنفسهم الذين سيستفيدون منها؟ إن أغلب الناس لا يعرفون اليأس المخيِّم الذي يشعر به رجل عظيم بسبب انتمائه لمجتمعٍ من الدرجة الثالثة يتشبث بحضارته المشوهة دومًا. إن أغلب الناس يحلمون بما كان يمكن أن يصبحوا، لا بما كان يمكن أن يُخلقوا.
إن اليأس يكون أعظم في العقل العظيم الذي يجد نفسه عاجزًا عن التعبير عن أفكاره في أعمال عظيمة واثبة تحول عالم الإنسان إلى الأفضل، وتجعله أكثر جمالًا، وأكثر عطاءً. وهو يهبط أمام العيون كدرع رمادي، يصدم البصر الذي يمتد إلى بعيد بغياب الأمل، ويذكِّر العقل العظيم المتطلع بعبث الحاضر وكآبته، ويُجيب على نداء الرغبات الجديدة بذكرى المحاولات الفاشلة السابقة، ويغطي كل إيمان بستار شفاف من العقم. إنه يقترح الانتظار، عندما يرغب العقل في الاستمرار، ويتساءل كيف عندما يواجه بأفكار جديدة. إنه شبح يطارد الأحياء، ويسخر من كل محاولة للتحسين، ويوصي بأن الأشياء جميعًا واحدة في كل زمان ولا يمكن تحملها. إنَّ قاطنه الوحيد، وصلاته الدائمة، ودستوره هو: لا فائدة! ليس هناك شيء اسمه النجاح الدائم.
اسأل أي إنسان كافح من أجل الحرية. سيذكر لك أنه تواطأ مع الطغيان، وسواء نجح أو خسر، عاد أو مات؛ فالنهاية واحدة دائمًا، أن الأشرار قصيري النظر بيننا يَصِلون إلى السلطة، بينما يحتجُّ الأخيارُ في سكون، بينهم وبين أنفسهم، على هذا العدوان الصارخ. ويُحلِّق العالم في الفضاء، دون أن يعير اهتمامًا للفوضى الضاربة أطنابها على سطحه الخارجي، وتُواصل الشمس إشراقها، جاهلة متجاهلة، ويبتسم الإله في خبث، أو لا يفعل على الإطلاق.
شعرنا، ماري وأنا، بهذا اليأس بعد مهزلة عجلة العربة. فقد شهدناها تتحول إلى ساحة ملاهٍ بعجلاتها الدوارة وغيرها من أعاجيب اللهو الشنعاء، بعد أن استولى مستر سليد عليها كتعويض جزئي عن ديونه، وعندما انتهى «تجديدها»، أصبحت تمتلئ كل ليلة بالباحثين عن المتعة الذين جاءوا بسياراتهم من شيكاغو، وسرعان ما بدأت تدر مالًا لمالكها الجديد.