الفصل الحادي عشر
لما كنت الآن فقيرًا تمامًا، وعاجزًا عن التعبير عن المواهب الجديدة التي أمتلكها، ولما كنت عدوًّا لمجتمعي الذي يحيط بي، لا أستطيع الانتهاء قبل أن أُوجِّه كلمة للشباب، أستحثهم على التغيير؛ فأنا أحاول، شأن كل الفنانين العظماء في كل العصور، أن أُلقِّن الطبيعة البشرية كي تتجاوز نفسها في المرة التالية، ولا يبدو أبدًا أنها تتلقى الرسالة.
على أية حال، فإن رسالتي تختلف قليلًا، فأنا لا أتجه بحديثي إلا لمن يملكون حِسًّا فنيًّا. أما الباقون فأنا راغب في أن أدعهم لحياة الخنازير التي تبدو أنهم يستمتعون بها للغاية.
إني أومن بأن ميل الشباب ذي الحِس الفني إلى المبالغة في ذوق مواطنيه، هو الذي يجعله سريعًا عاجزًا عن التعبير عن ذوقه الأسمى، وما من سبيل لتجنُّب هذا الموقف إلا بمعاملة الآخرين على أنهم «مادة خام»، مستعدة لكلِّ ما يشاء أن يفعله بها — ولا يعاملهم أبدًا، مطلقًا، على أنهم جمهور ذكي مشارك يستجيب. ليس بوسعي أن أؤكد هذا أكثر من ذلك — أعني المادة الخام، النافرة، العقيمة، الخامدة، المجردة من كل إلهام، المنحطة، التي تعيش حياة الخنازير، ولا تعني شيئًا بمفردها، والتي تميل بالطبيعة إلى النزوات والفوضى، والتي يجب أن يُوجه ذوقها بواسطة كل إنسان حاذق (كما يُروض الراكب الجواد) وهو مَن يعتبر مجرد وجوده بينها معجزة. يجب أن يُرغم الدهماء على أن يفسحوا المجال ليولد بينهم كل ما هو من أعمال الخيال أو شيء صحيح أو شريف أو جميل؛ فكل الأعمال الطيبة تحدث بالرغم من نواياهم الشرهة.
ولدي — أنت يا من ستقوم بأشياء مُلهمة عظيمة — تَطلَّع حولك إلى القبح، والوحشية، المجتمع الحقيقي الذي ستُبدله أنت بغيره، واعترف لنفسك بأن مواطنيك هم الذين صنعوا كل هذا، القبيح والمشوه والذي يعج بالوحشية، كل هذا تآمر رفاقك أنفسهم على صنعه بوعي، ألقِ نظرةً فاحصة، يا بني، واعرف معاصريك من أعمالهم؛ لأنهم لا يستطيعون أفضلَ منها، وهم ينظرون ويفكرون ويشعرون ويتصرفون في الواقع بهذه الطريقة. إنهم يؤمنون بما هم عليه.
والآن، وقد اكتشفت ما أنت بسبيل مواجهته، احزم أمرك على أن تُعامل كل مواطنيك كما هم — أعداء لك — فتتآمر عليهم وعلى رغباتهم دائمًا، وتلحق الهزيمة بأهدافهم، وتناوئهم. عليك أن تدرك أن العمل الشريف أو الجميل الذي ستقوم به سيكون ضدهم وضد أعمالهم. افعلْ هذا عن عمد، وكن متأهبًا لانتقامهم. لا تنتظر أي عون من رفاقك، أو استجابة، أو تصفيق. لا تنتظر من البشر جميعًا سوى الأكاذيب والقبح والوحشية والعاطفية الجوفاء، ولن يخيب أملك لو فعلت سوى مرة أو مرتين طول حياتك. لا تجعل عينك على الآخرين، انظر فقط داخلك. ولا تسأل أبدًا، أو ترغب، أو تتوق، وأساسًا حاوِل ألا تحتاج إلى شيء؛ لأنك لو احتجت شيئًا، فسوف يحبسونه عنك فرحين بهدف العمل على تدميرك.
أقول لكل مَن يعنيه أمر الجمال أو الحق أو حتى العمل المتقن لا بد وأن تخوض حرب عصابات ضد المجتمع الحديث، أو تتخلى فورًا عن اهتماماتك، فإذا ما انحزت إلى قضية الجمال في مجتمع مُكرَّس لإنتاج القبح بالجملة، أو إذا ذكرت الحقيقة في دولة الطغيان التي لا يمكن أن يحتملها سكانها إلا بعد أن يُزيِّفوا ما يحدث حولهم، أو لو حاولت ببساطة أن تقوم بأي عمل طبقًا لأفضل قدراتك — فسرعان ما يجعلونك طريدًا. وإذن عليك أن تتوقَّع منذ البداية ما ستواجَه به من رفض، واجعل الحربَ التي تخوضها من أجل أن تحيا بشروطك، حربَ كرٍّ وفرٍّ، اضرب ثم اجرِ، حاول أن تعزلهم قبل أن يتمكنوا من تشريدك، وحاول أن تترك بعض أعمال جيدة من خلفك عندما يضطرونك إلى الفرار.
وعلى كلٍّ، فالتاريخ يشهد بأن الأعمال العظيمة الدقيقة التي تركتها قلة من العبقريات تمكنت سلالتنا من إنتاجها، كانت دائمًا استثناءات من العمل العادي للإنسان — ولن يكون عصرنا مختلفًا. فهذا العصر لن يتذكَّره أحد في المستقبل إلا بتلك الأشياء القليلة البارزة التي حاول بكل جهده أن يهزمها ويتجاهلها ويدمرها.
حسنًا، لقد انتهيت، وانتهت رسالتي.
والآن: لتذهبوا جميعًا إلى الجحيم.