الفصل الثاني
عندما عُدتُ إلى المنزل لم أوجِّه كلمة إلى أحد، فقط تناولت عشائي وصعدت إلى حجرتي، حيث تمددت على فراشي وجعلت أُقلب في صور المنازل والمباني. كانت جميعًا مُذهلة، بالطبع، تفوق في مغناطيسيتها «المركز» الصغير، الذي لم أعُد أحفل بأمره كثيرًا … كما يحدث عندما يفقد المرء زهرةً واحدة في حوضٍ كامل من الزهور، وهو أمرٌ مُحزنٌ حقًّا، لكن لا تزال هناك كل هذه المباني الأخرى، وبعضها أكبر وأكثر أهمية. فكَّرت في روعة الحياة لو كانت هذه الأعمال خلفي أنا. كنت أبقى حينئذٍ في المنزل طول اليوم أستمع لمباريات الكرة؛ لأنه لن تكون ثمة حاجة لعمل شيء آخر. لكنها لم تكن ملكي، ولهذا أردت أن أضع خلفي، بأسرع ما يمكن، أشياء مثلها، أشياء أبنيها أنا نفسي، حتى أشعر بالراحة.
وذات يوم من أيام ذلك الشهر، وفي الصباح الباكر قبل أن تُشرق الشمس، هبطت الدَّرج في سكون، ودفعت بخمس شطائر في قميصي، وارتقيت دراجتي، وانطلقت إلى ريفرسيد على مبعدة ثلاثة أميال لأرى ضيعة كونلي الهائلة. انطلقت في سرعة في الطريق الرئيسي، أُحرك البدَّال وأنا أقضم الشطائر، وأتفرَّج على مناظر شنعاء. كان الهواء حارًّا. وعندما أقبلت على البلدة وجدت حانوتًا مفتوحًا، فولجته وتناولت كوبين من اللبن وفطيرة كريز. وعندما انتهيت من الأكل سألت البائع عن ضيعة كونلي.
«ماذا …؟»
ظننت أنني قد أخطأت النُّطق، فذكرت له الاسم حرفًا حرفًا «ك. و. ن. ل. ي الضيعة الكبيرة التي بناها فرانك لويد رايت. لقد جئت لأراها.»
وقال لي الرجل: «لم أسمع عنها أبدًا يا ولدي.»
تساءلت وأنا أشقُّ طريقي إلى الخارج حيث تقف دراجتي، تُرى أأصابها الدمار هي الأخرى؟ أم أخطأ الكتاب بشأن مكانها؟ وقررت أن أبذل محاولةً أخرى حتى لا تذهب رحلتي سُدًى، فجعلت أستوقف المارَّة في الطريق؛ أسألهم عن مكان الضيعة. وعندما كانوا يتطلعون إليَّ في حيرة صامتة، كنت أضيف بعض المعلومات: «لقد بناها فرانك لويد رايت منذ خمسين عامًا. وهي مكان ضخم هنا في ريفرسيد، وقد قطعت كلَّ هذه المسافة من بروكدال لأراها.» لكن النظرات الحائرة استمرت، فلم يسبق لأحد منهم أن سمع عن كونلي هذا أبدًا. وأضيف وأنا أستوقف ناسًا يهرولون إلى قطاراتهم في طريقهم إلى أعمالهم: «كان كونلي مُقاولًا أرلنديًّا في بداية القرن … وأنا أعرف أن ضيعته هنا في مكانٍ ما.» وأخيرًا قرَّرت يائسًا أن ألجأ إلى مركز البوليس.
رويت قصتي للرقيب الموجود، ووصفت له الضيعة التي تحتوي على منزلٍ ضخم وحوض للسباحة وجاراجات ومنزل بوابة، ثم رسمت له كروكيًّا لها فوق قطعة من الورق، لكنه هزَّ رأسه: «لم أسمع عنها مطلقًا يا بني. لكن هناك مكان يُشبهها بالقرب من النهر على طريق فيربانكس، أمام الطاحونة القديمة … ويملكه كروهلر، صانع الأثاث الكبير. أما هذا الفرانك لويد لم أسمع عنه من قبل.»
قلت: «ربما ابتاعها كروهلر.»
«ربما … انتظر برهة … إنه يملكها منذ ست أو سبع سنوات. أعتقد أن أمَّه فقط هي التي تعيش بها الآن مع بعض الخدم، وقد تمنعك من الدخول.»
«كل ما أريده هو أن ألقي نظرة.»
انطلقتُ بدراجتي في الطريق الموازي للنهر حتى بلغت حائطًا ضخمًا، أصفر اللون، من الخرسانة. كانت هي الضيعة؛ فقد تعرفت عليها من صورها، رغم أن الجدران كانت بيضاء عندما تم التقاطها. وكانت الضيعة تكوينًا جميلًا من ستة أشكال، كلٌّ منها يؤدي من وإلى حوض السباحة الذي يطل عليه المنزل الرئيسي بحائط كامل من الأبواب الزجاجية تؤدي إلى حديقة منعزلة لكنها كبيرة. وكان الطابَق الثاني فيما يبدو مكانًا فخمًا للجلوس يعلوه ويحميه سقف مسطَّح عريض يرتفع فوق دعامات ضخمة من خشب السنديان الداكن. وعلى طول الجدار تقوم الجاراجات وحظائر الخيل وأماكن الخدم ومنزل الحارس، لكنها جميعًا كانت تتصل بالمنزل الرئيسي برَدهات مسقوفة، بحيث كانت الحدود الخارجية للمنزل الرئيسي عبارة عن جدار الضيعة نفسها، فتبدو المباني الداخلية كأنها غُرف، بعضها يُفتح على حدائق وأحواض سباحة صغيرة، لكنها جميعًا تستحث العين أن تتجه إلى الحديقة الرئيسية العظمى وحوض سباحتها، تطل عليه الواجهة الزجاجية للمنزل الرئيسي الذي يحميه السقف العظيم، مغطيًا كلَّ شيء، ومتصلًا بكل شيء.
وكانت الضيعة كلها شكلًا واحدًا، مما أذهلني؛ لأني لم أشهد أبدًا من قبلُ شيئًا يعتقل الفضاء الذي يشغله بدلًا من أن تعتقله الأرض التي يقوم فوقها. وعندما فكَّرت في أن كلَّ ما يحدث في ضيعة كونلي، كان يحدث داخلها لا فوقها، تبيَّنت كم كان الأمر مثيرًا؛ فالفصول تتعاقب داخلها، والطيور تطير في أنحائها داخلة إليها خارجة منها. ولم يكن هناك من سبيل لتصور شيء مشابه إلا إذا أغمضت عيني. وتخيلت تساقط أوراق الشجر في غرفتي، أو الجليد في جانب من منزلي. وأدركت من وضعِ أكبرِ مدْخنة، أن واحدة أخرى من تلك المدافئ الفاغرةِ أفواهها، التي رأيتها في «المركز»، تهيمن على نواة هذه الضيعة المعقَّدة. وكأنني كنت أشهد تجسيدًا للتناقض بين «الداخل» و«الخارج» في صورةِ مركزٍ مُشعٍّ يتحكم في كلِّ ما عداه أو قضيب من قضبان رفع الأثقال يحمل المدفأة في أحد طرفيه بصفتها النقطة البؤرية للمنزل، والحديقة والحوض في الطرف الآخر بصفتها النقطة البؤرية «للحجرة الخارجية»، يصل بينهما قضيب ديناميكي من التوتر البالغ، بحيث يستحيل أن تعرف ما الذي يتحرَّك وفي أي اتجاه. كان عليَّ أن أفترض أن الجذب والشد بين الإنسان والطبيعة قد تجسَّد هنا في لحظةٍ من التوازن المطلق. وهذا هو ما جعل الضيعة كلها رائعة من التوتر الساكن، كل جزء فيها يشترك بنفس القدر في تحقيق التوازن. كان شكلًا جميلًا، لكنه كان عقيدة أيضًا، أسلوبًا في الحياة يعطي الشكل كلَّ طاقته، يدفئه كشيء حي ويسمح له أن يُعبِّر بحرية عن تفاعل البشرية بالطبيعة.
طُفتُ بأرجاء الضيعة، وعقلي يلتهم الرؤيا من كل جانب، دون أن ألاحظ غياب الشمس. ولم تكن دراجتي مزودةً بمصباح؛ لهذا كان عليَّ أن أسرع بالعودة إلى منزلي قبل حلول الظلام.
وما كان بوسعي أن أفكِّر في ضيعة كونلي وأنا أقود دراجتي عائدًا إلى بروكدال؛ فقد كانت التجربة طاغية، تحُول دون استخلاص النتائج السريعة. وبدلًا من هذا جعلتُ أتمثَّل الرجل الذي بناها وكيف أنه كان يشعر بالفخر ولا شك وهو يخرجها من العدم في عناية. قلت لنفسي إن فرانك لويد رايت رجلٌ دقيق شديد الاعتناء، أستاذ في التصميم، رسَّام على قدرٍ رائع من المهارة والأناقة، بنَّاء يتميز برقةٍ شديدة، فنَّان حسَّاس رفيع التذوق، رجلٌ يسعى من أجل التوازن والراحة والسكون أساسًا، وقد حقَّق كلَّ هذه الغايات الثلاث في عمارة كونلي. وفكَّرت كم كان مسرورًا وراضيًا بهذا العمل العظيم.
سحقني منزلي بهيكله القبيح عندما بلغته وعبرت بوابته بدراجتي، واندفعت إلى حجرتي. كان منزلي سجنًا يعذِّب عقلي، وخاصةً الآن وأنا أعرف ما كان يمكن أن يكون.
تلك هي الليلة التي شرعت فيها، وقد استلقيت على فراشي مشبكًا يديَّ خلف رأسي، أصمِّم منزلي الجديد، المكان الذي سأعيش فيه عندما أصبِح مهندسًا مثل فرانك لويد رايت. حاولت في البداية أن أتخيَّله مزيجًا صلبًا ثابتًا من الإنسان والطبيعة، توقَّف برهةً في حركته نحو لحظة فرح وسلام، كما تخيَّل رايت ضيعةَ كونلي، لكني وجدت أن هذا خطأ، وأني لا أستطيع أن أصنع الأشياء بهذه الطريقة. إذن ما هي طريقتي؟ أعوزتني الإجابة. كنت من قبلُ أفكِّر بمعايير «سليم» وغير «سليم»، وهو ما كان أمرًا سهلًا؛ فكلُّ ما فعلته حتى الآن كان سليمًا. لكني أدركت الآن أن هناك ما هو أكثر من ذلك. كان عليَّ أن أُعبِّر عن شيءٍ ما في كلِّ ما أبنيه، وكي أستطيع ذلك لا بد وأن يكون لديَّ ما أُعبِّر عنه، فماذا أريد أن أقول للبشرية كلِّها في أبنيتي، ما هو البيان الذي أصدِره؟ كانت كافة البيانات التي سمعتها تبدو لي خاطئة، بما في ذلك بيان فرانك لويد رايت، وهكذا أدركت أنه لا بد لي من العثور على شيء جديد أو ابتداعه.
هذه هي المشكلة التي شغلت وقتي، وجعلت تتأجج في عقلي، حتى أصبحت تدريجيًّا المرآة المركزية التي تنعكس عليها كلُّ الأفكار والأشياء. وفي هذه الأثناء تخرَّجت من المدرسة الابتدائية وبدأت أتردَّد على مدرسة ريفسيد بروكدال الثانوية، التي كانت في منتصف المسافة بين البلدتين.
وخلال سنوات المراهقة المبكِّرة، تحوَّلت إلى شعراء عصري البارزين أبحث لديهم عن إجابة جديدة. لكني لم أجد شيئًا لم يكن مضحكًا، وجعلني افتقادُ ما أقرأ للعمق أشكُّ في سلامة اختيار هؤلاء الرجال متحدثين باسم معاصري. فقد كانت رسالة ف. سكوت فيتزجرالد فيما يبدو هي أن الأغنياء يجسِّدون أجملَ ما في البشرية، وإذا كانوا لا يساوون شيئًا أو يواجهون المتاعب فهذا هو شأن البشرية أيضًا. وزعم هيمنجواي أن الرجال رياضيون، وأن الحياة لعبة، ولا يمكن الحكم على الناس إلا من خلال الطريقة التي يواجهون بها نتيجة اللعبة. وادَّعى إليوت أن الحياة أرض خراب تسكنها التماثيل، ورأى أونيل فيها جنونًا لا يتمتَّع فيها ببصيرةٍ نافذة إلا مَن كان أقرب إلى حافته. وقال كمينجز إن الحياة عبارة ببساطة عن حجرة هائلة وإن الناس جميعًا سكان. وقال فروست إن الإنسان يعيش ليخدم نفسه وبلاده، وإن معنى الحياة في أن يقوم المرء بالواجب الذي عُهد إليه. وكان الشاعر الوحيد الذي لم يقلِّل من شأن الحياة هو شكسبير؛ فقد قال هذا المنشد الفريد إن الإنسان قادرٌ على أن يتخيَّل نفسه في أي صورة شاء، وإن كافة الأقنعة كوميدية أو تراجيدية، وأحيانًا كلاهما، ولكنها تتساوى جميعًا في أنها ثمرة خداع لأنفسهم، و«لا تعني شيئًا».
لم يمضِ وقت طويل حتى كنت أعود إلى العمارة طلبًا للعون، ورغم أني واصلت البحث عن مباني رايت، أدرسها، وأرسمها، وأستمتع بها — حتى وأنا أقرأ أعمال مَن ذكرتهم فيما سبق — فقد أصبحت الآن مهتمًّا بمعلِّم رايت، لويس سوليفان. فقد قال سوليفان لتلميذه: «السبيل لأن تستعيد شيئًا هو أن تستعيده.» وقد رَنَّت هذه الرسالة في أُذنَي رايت في نهاية القرن الماضي.
وجدت أن سوليفان لم يكن غامضًا ولا موحيًا؛ فقد كان يعرف ما يريد، وفعَله، ولم يكن في حاجة إلى مترجم يفسِّر أعماله؛ لأن كلَّ ما كانه وآمن به، بل وأكثر من ذلك، كان يبدو في عمله. لم يكن هناك سِر، ولم يكن الأمر شاقًّا، ولم تكن هناك أقنعة ماهرة تحيط ببيان مبتذَل — كما كنت أتوقَّع — بل إن جبروت ما قاله سوليفان في جلاءٍ هو ما جعل رجالَ السلطة والذوق في عصره ينصرفون عن عمله. لقد قال إن الإنسان عظيمٌ وسامٍ، عاصفة جبارة من القوة بوسعِها أن تجتاح أيَّ شيء. وفكَّرت … لا عجب إذن أن ينكروه. فلو أقرُّوا نداءه: «إنها لمجيدةٌ حياة الإنسان، وبهجة من الأعمال الجميلة القوية»، لكان عليهم أن يعترفوا بأنهم استثناءات من قاعدة سامية ما داموا لم يحققوا شيئًا عظيمًا، وأنهم هم غير المتلائمين، «المخطئين»، وأن سوليفان نفسَه هو الرجل «الطبيعي». لقد قال لهم انظروا إلى عملي، وانظروا إلى ما تستطيعونه، وكونوا جبابرة، كونوا عظماء، وارفعوا رءوسكم، وامشوا في الأرض كالآلهة كما خُلقتم لتفعلوا؛ تلك كانت صيحة سوليفان المدوِّية، التي ضحِك منها أو تجاهلها أولئك الذين صغَّروا عن عمدٍ من شأن مصائرهم هم.
كنت في تعرُّفي على سوليفان أشبهَ بمن يتعقَّب سرًّا من الأسرار؛ فلم يكن يعرف شيئًا عن «السيد العزيز»، كما كان رايت يدعوه، إلا قلة من الناس، كانوا يرفضون الحديث؛ لأنها كانت قصة مؤلمة. بل إن مباني الرجل العظيم صارت أشباحًا، أُبقي على بعضها بشرط أن تظل مجهولة وغامضة، بينما هُدم أغلبها في أوائل الثلاثينيات من هذا القرن. كنت أبحث عنها عبثًا بعد عشرين عامًا فقط من عام ١٩٢٤، الذي مات فيه الرجل فقيرًا عاجزًا في غرفةٍ بأحد فنادق شيكاغو الرخيصة.
وعثرت على ضيعة بابسون على مبعدةِ أميالٍ قليلة من منزلي، وكانت الغابات تخفيها، ووجدتهم قد حوَّلوها إلى ديرٍ للراهبات. قالت لي الأم الرئيسة: «سوف نهدمها قريبًا لنفسح المجال لمستعمرةٍ سكنية. فثَمن الأرض مرتفع لقربها من ريفرسيد، والكنيسة تحتاج إلى نقود.» كان مكانًا غريبًا شُيِّد بجوار الشارع الذي أصبح فيما بعدُ الشارعَ الرئيسي في البلدة، لكن الأشجار والمروج — يحدُّها جميعًا سياجٌ عالٍ من الطوب — كانت تحيط به بحيث تخفيه عن الناس وتجعله شيئًا خاصًّا مُصانًا، لا يعرف بما تؤدي إليه البوابات الحديدية الكبيرة إلا قلةٌ من الجيران.
وكان المنزل الرئيسي عبارة عن سقف خشبي كبير على هيئة رقْم سبعة منفرجة الساقين، ويستند إلى أعمدةٍ سميكةٍ من الطوب، ذكَّرتني بقبضةٍ مرفوعة قليلًا، ينحدر السقف إلى الخلف فوق ساعدها حتى يقارب الأرض، بينما يرتفع من الأمام واسعًا وعاليًا وسميكًا، وأعمدته العظيمة من السنديان مزخرفة في نهايتها بمفاصل أصابع ضخمة «تدافع» عن المدخل، وتتحدَّى الداخل. كأنما كان سوليفان يقول «ها أنا ذا»، فيُصاب المتفرِّج بالحيرة … كان المنزل أكثرَ من تحدٍّ مُوجَّه للسماء بالارتفاع البطيء المقصود لسقفه الطويل عند المدخل. كان لكمة في وجه العدم، لطمة هائلة للشمس والنجوم، ترتفع بقامة مَن ينظر إليها إلى مستوى الطبيعة: «أصغوا، يا مَن في الخارج أمامي، أيًّا كنتم، الطبيعة أم الله أم العدم، ها أنا ذا.» بدأت أفهم لماذا اتَّهم الكثيرون سوليفان بالإلحاد. فهذا المعماري كان يزعم أن الإنسان موجود بالرغم من أي قوة غيبية، وأنه ليس في حاجةٍ إلى رحمةٍ منها، بل ولا إلى خلاصٍ ما. كان كائنًا قائمًا بذاته، ساعد نفسه، وشقَّ طريقه الخاص، وكانت له روحه الخاصة التي يعبدها. لقد أعلن سوليفان أن «الشكل يتبع الروح». وإذا صدَق هذا على المباني فهو يصدُق أيضًا على الإنسان. كان حقًّا إعلانًا مذهلًا … إن مباني الإنسان يجب أن تُخلق في صورته، لا أن تُخلق من أجل الآلهة كما فعل اليونان والرومان وبُناة كاتدرائيات عصر النهضة، أو المجتمع الذي استسلم له أغلب البُناة في عصر سوليفان، أو لتصوير الإنسان في اتحاده مع الطبيعة كما فعل التلميذ رايت، لكن فقط من أجل الإنسان في اتحاده مع نفسه. ففي روحه هو تكمُن أفكار المستقبل، إنه العبقري الذي سيمجِّد روحه في أبنيةٍ تُمثله وتُصوره طالما هي قائمة.
لا عجب إذن أن ثار الناس ضده، فلو كان الإنسان مسئولًا عن حُسن حظه، عن إنجازاته العظيمة، فهو مسئول أيضًا عن خطاياه، ولن يحصل على المغفرة إلا من نفسه. وهذا ما لم يستطِع الناس قبوله، على الأقل أيام سوليفان؛ فقد كان من الكثير عليهم أن تطالبهم بالتخلي عن الصورة التي كوَّنوها لأنفسهم «كأطفال الله»، وأن يقبلوا بلوغهم، ويتحملوا مسئوليتهم، والأصعب من كل هذا أن يدركوا أن الحياة هي الخلاص الوحيد الذي لا خلاص غيره. كان الأسهل عليهم أن ينكروا الرجل، كلماته وأعماله، وهو ما فعلوه، وكانت نظرة واحدة لضيعةِ بابسون كافية لأن أكتشف قدْر ما خسروه ذلك.
لم تكن جميلة، كانت عبارة عن مساحة وقوة وبنيان. فإلى جانب المنزل الرئيسي كانت هناك حظيرتان للجياد تمتدان مسافةً طويلة قريبًا من الأرض، إلى اليسار. ورغم أنهما تبدآن على الأرض بأعمدتهما الخلفية الغارقة في التراب، فقد كانتا جزءًا من الحركة العامة التي توِّجت أخيرًا في اندفاع المنزل الرئيسي المشرع إلى أعلى. وما كان بوسع العين أن تتوقَّف عند جانبٍ دون الآخر، فلا بد وأن تنتقل من الحظيرتين إلى المنزل، ومن المنزل إلى المدخل. لم تكن هناك حدائق أو شرفات تحيط بالأبنية، بل كان هناك شيء أشبه بمرجٍ عميق تتخلله أدغال من الأشجار والشجيرات، وكانت السقوف تسيطر على الفضاء، وتبدو جميعًا جزءًا من الحركة الواحدة الهائلة نحو الواجهة. لم تلهمني كثيرًا كما فعلت ضيعة كونلي بجمالها ورصانتها وتكاملها، لكنها اكتسحتني. وسمت بعيني وروحي بتحديها وقوَّتها. كانت تخيِّم بهيكلها مثل جوادٍ ضخم مرفوع الرأس، كأنما يوشك أن يرتفع بي إلى أعلى ما أشاء. وكان يمتد مشدودًا متوترًا كمقلاعٍ يريد أن يقذف بي إلى أبعدِ ما أستطيع. كانت مُخيفة، تحديًا مجسمًا نبع من أعماق الإنسان، وفي بُعدها عن الجمال كانت شيطانًا جموحًا، أحمرَ الوجه، باسمه يسوق الإنسان إلى آفاق عظيمة، وقد وعد بأن يعود به إلى المكان الذي جاء منه. ودوَّنت رسالتها المتأملة المدوية في كراستي بحروف كبيرة «لقد بقيت، أنت باقٍ، سوف نبقى … ارتفع إلى مستوى مجدك العظيم».
عندما انتهيت من جولتي، دعتني الأم الرئيسة إلى الداخل، وقدَّمت لي بعضًا من الحَساء واللبن. كان المنزل من الداخل عاريًا من أي زُخرف، كي لا تتعرض الراهبات للغواية، لكن الجدران الداكنة من خشب الكابلي والتماثيل الدقيقة المنحوتة في طلاء السقف الأبيض، والنوافذ المرحة التي تتدفق منها أشعة الشمس في كل حجرة، كانت تُذكِّر المرء فجأة بأن الحياة تجربة بديعة.
سألتني الأم الرئيسة: «المكان جميل هنا، أليس كذلك؟ إنه يضعنا أمام الله في كل مجده. كم سنفتقده.»
قلت: «لكنه لم يقصد ذلك.»
قالت: «لماذا، مَن هذا الذي لم يقصد ذلك يا صغيري؟»
قلت: «الرجل الذي بنى هذا المكان … لويس سوليفان. لقد كان يعنينا نحن بهذا المكان، وليس الله.»
ابتسمت الراهبة في خجل: «لا أعتقد أن هناك أهميةً لما كان يعنيه. المهم الآن هو ما تعنيه بالنسبة لنا.»
قلت: «كلا، هذا خطأ.» وقمت واقفًا.
سألتني الراهبة: «إلى أين أنت ذاهب؟»
لم أجِب، بل جريت من الغرفة إلى الرَّدهة ثم الخارج. كنت أبكي، ولم أكن أود أن يراني أحد. ذرفت دموع القهر من قبلُ أمام أناسٍ مثل هذه الراهبة، بُسطاء، لِطاف، طيبي القلب، لكنهم كالأحجار الصماء أمام أعمال سوليفان. لماذا هم عاجزون عن الفهم؟ لقد كان الأمر واضحًا للغاية، ناصعًا جليًّا، مصوَّرًا بقوة في بنائه … الذي كان يتبع من حيث الشكل روحًا مُحلِّقة سامية. وفكَّرت أن الناس ما كان بوسعهم أن يروا لأنهم لا يريدون، خشيةَ أن يغيِّر ما يرونه من حياتهم، ولو إلى الأفضل.
بعد هذا، وجدتني قادرًا على أن أكون رقيقًا مع الناس متفهمًا لهم. فلم أعُد أتوقَّع شيئًا من أحد. أدركت عبثَ أنْ تستحثَّ أحدًا على أن يرى أكثر أو يفعل أكثر، أو يكون شيئًا آخر غير ما هو كائن بالفعل. كما لو طالبت قليلًا من العُشب أن يصير بستانًا. وهكذا قدَّمت العون إلى أمي. وأصغيت في صبرٍ إلى أبي، وبدأت أُظهر احترامي لمدرِّسي. وظللت مع ذلك عاجزًا عن خداع أحد، فعندما كانوا يسألونني عما أفكِّر فيه، كنت أقول نفس الأشياء الغريبة التي اعتدت قولها. ولأني أصبحت «ولدًا طيبًا»، لم يَعُد أحد يحمل عليَّ بسبب الأشياء التي أومن بها.
والأغرب من هذا أني كنت أُعَد في المدرسة الثانوية غبيًّا ولكن حَسن القصد. لم تكن إجاباتي تُحسب صحيحة مطلقًا، وكانت غالبًا ما تُحير المسئولين عن منهاج الدراسة، لكنني كنت مؤدبًا في هذا الشأن بحيث كنت أحظى بدرجة «مقبول». ورفعوني إلى المستوى الذي يمكن أن أُوصف عنده ﺑ «متوسط»؛ لأن أحدًا لم يشأ أن يؤذي صبيًّا وديعًا مُسالِمًا كلُّ مشكلته أنه يخطئ دائمًا دون قصد. وكانت مس ريسك، عجوز المكتبة، ومستر دولف، مدرس الحساب، هما اللذان لم يخدعهما مظهري الجديد الذي كان نتيجةً لرغبتي المفاجئة في أن أترك الآخرين ينعمون بغبائهم.
فقد قال لي مستر دولف ذاتَ يوم ناصحًا: «روبي. إني أعرف أنك قادر على أحسنَ من هذا بكثير. لقد أُطلِعت على درجاتك في امتحانات القبول، ووجدتك نابغة حقًّا. فلماذا لا تبدو هكذا في الفصل؟»
قلت: «إنني أبذل ما في وسعي يا مستر دولف.» وهي الحقيقة.
فحدَّق في النافذة، وقال في كآبة: «حسنًا، إنه لعالم غريب.»