الفصل الثالث
في السنة النهائية صادفت فتاةً اسمها ماري بترسن، وهي شقراء نرويجية ذات ابتسامة دافئة وجسد ممشوق خفيف الحركة، وساقين جميلتين وقدمين رائعتين. ولا بد أنها قالت لي «هاي» عشر مرات قبل أن تلفت نظري، وفي أحد أيام الجُمع لحِقت بي وأنا أُغادر المدرسة وحدي كالعادة، وسألتني ما إذا كان بوسعها أن تسير معي. فقلت: «لماذا؟» ذلك لأني كنت أعلم أنها جميلة وبوسعها أن تسير مع مَن تشاء. فقالت: «لأني معجَبة بك يا روبي.» وابتسمت في طربٍ شديد أفقدني القدرة على الحركة. إنها تُعجَب بي؛ هكذا قلت لنفسي قبل أن أنسى، لكننا عندما سِرنا لم أستطِع أن أفكِّر في شيءٍ أقوله لها؛ فقد كانت مشاعري عنيفة ومفاجئة لدرجةٍ غصَّ بها حلقي. لم يكن هذا ليعنيها في شيء. فقد كانت تتوهَّج إلى جانبي مثل شجرة عيد الميلاد تستثير عقلي بثنائها الذي انهال عليَّ، ومسيرتنا، والعالم أجمع. كانت أول شيء حي أقابله ولا يسعني أن أسخر منه، لم يكن أمامي إلا أن أستسلم لذلك الفيض من الدهشة الذي أحدثته. ذكَّرتني بالجدول الذي يرغي ويزبد عندما ينحدر في شدة فوق الصخور أسفل جسر الخط الحديدي، وهكذا اكتفيت بأن أستمتع بتأمُّلها والإصغاء إليها. بل اشتريت لها ساندويتشًا حتى أتأملها وهي تأكل.
قالت: «أعتقد أن كلَّ فتاة تحتاج إلى فتًى. أليس كذلك؟ حسنًا، لماذا تنتظر الفتيات حتى يتقدم الصبية إليهن وعندئذٍ يخترن أفضلهم؟ هذا سخف. فربما وقعت الفتاة في فتًى غير ناضج، وهناك فتيان كثيرون لا تعمل عقولهم إلا إذا أصابتهم طوبة في رءوسهم؛ لهذا قررت ألا أرتبط بأحد هؤلاء طالما كان الأمر في استطاعتي. أريد فتًى عنيفًا كالصاروخ ينسف كل الشبان بليدي الحس، الذين يقصون شعورهم كالبحَّارة، يكتسحهم بألعابهم المضحكة.
فتًى مثيرًا بوسعه أن يقف على عقبيه ويقول الصدق دون أن يتلعثم، فما رأيك؟ ليس هناك فتيان هكذا يا روبي روي. على الفتاة أن تبحث وتوالي البحث حتى يسعدها الحظ حقًّا، وإلا انتهت بين أحضان واحد من الزواحف، وأصبح عليها أن تقول نعم يا سيدي، لا يا سيدي، لأبلهَ لا يستطيع حتى أن يتهجَّى كلمة قط، كيف يكون من أمرك لو كنت فتاة مثلي؟ ماذا تفعل؟ تقتل نفسك؟ صدِّقني إني فكرت في هذا، قلت إذا كان عليَّ أن أذهب إلى مباراةٍ أخرى في كرة السلة مع أحد ماضغي اللبان الذين يظنون أن الحياة تبدأ وتنتهي مع حركة الكرة، سوف أقطع عنقي ذات ليلة في الحمام وأنا أزيل شعر ساقي. لكني قرَّرت ألا أفعل. قلت لنفسي ابحثي حولك، أعني بحثًا حقيقيًّا، وربما أسعدكِ الحظ فوجدتِ شابًّا مختلفًا، عندئذٍ ألقي بنفسكِ عليه — إلا إذا كان قبيح الخِلقة، وأنت لست كذلك يا روبي — لكني لا أستطيع الانتظار طويلًا وإلا أُصبت بالجنون. فلا تظن إذن أني أُسدي إليك معروفًا بأن أتركك تبتاع لي هذا السندويتش؛ إذ الواقع أنك تنقذ حياتي.»
كل ما استطعت أن أقوله وأنا جالس أمامها أرقُبها وهي تقضِم لقمة: «أتعرفين أنكِ رائعة.»
فابتلعت لقمتها وابتسمت: «أعتقد أني جميلة للغاية. على الأقل هذا ما يقوله لي كل الفتيان.»
«من الغريب أن يكون هذا هو شعورك بالنسبة للآخرين؛ فهو شعوري أنا أيضًا. لا أعرف، لكن لا يبدو أنهم يهتمون بالأشياء الصحيحة. كأنما اختلط الأمر عليهم جميعًا، وكأنما تعقَّدت أمورهم بصورةٍ ما ولم يَعُد بوسعهم إصلاحها.» نظرت إليها، الجميلة، إلى وجهها الرقيق، وشعرها الأصفر الناعم الجميل … وقد جمدت في مكانها تتطلع إليَّ، مصغية: «ولكنكِ تعرفين هذا أيضًا، أليس كذلك؟» وفجأة انطلقت أقول: «هل رأيتِ أبنية سوليفان أو رايت؟ سآخذك لتريها كلها، إني أعرف أماكنها، وأُراهن أنكِ ستُعجبين بها هي الأخرى.»
قطَّبت حاجبيها: «أوه، بودي أن أفعل، من أجلك. لكن ماذا لو لم أفهم؟ هل تكون صبورًا عليَّ وتحافظ على مودَّتك لي؟»
قلت: «لا تقلقي. سأروي لكِ كلَّ شيء عنها. وسوف تحبينها.»
ابتسمت: «أعرف أني سأفعل، لو فقط تحدثت إليَّ. أحب أن أسمعك تتحدث؛ لأن الكلمات لا تضيع منك مثلما يحدث لي، ولأنك تتحدث دائمًا عن أشياء هامة ومثيرة.»
قلت: «يا إلهي! لا تقولي هذا يا ماري. إنكِ رائعة.»
قالت: «أوه يا روبي، أنت لا تعرف كم يجعلني هذا سعيدة. الآن لست أشعر بذرةٍ من الأسف على أني اخترتك.»
وأخذتها إلى جسر الخط الحديدي، حيث بقعتي المفضَّلة التي أبقيتها سرًّا عن الجميع، وجلسنا، وبدأت أتكلم، وحكيت لها عن الأبنية والكتب والرجال المشهورين الذين قاموا بأشياءَ عظيمة وكيف أني أنا، روبي روي، سوف أبني أشياءَ عظيمة أيضًا، بل وأكتب عنها، حتى يأتي إليَّ الجميع طلبًا للأجوبة، وعندئذٍ سوف أساعدهم جميعًا بأن أذكر الحقيقة وأصنع أشياءَ جميلة للناس وأدفعهم إلى أن يكونوا عظماء مثلي.
قالت: «آمُل أن يستمعوا إليك يا روبي.» وكانت جالسة هناك، رقيقة وجميلة، وكاملة … لا أكاد أصدِّق أني وجدتها.
قلت: «سوف يفعلون وأنا واثق من هذا.»
تأملت الجدول وهو يخر فوق الصخور على مقربة من أقدامنا، وشعرت ببهجة شديدة دفعتني إلى أن أروي لها شيئًا فكَّرت فيه ونحن في الطريق من المدرسة. «أتعرفين؟» واستطردتُ عندما هزَّت رأسها: «إنكِ سعيدة جدًّا، إنكِ تذكرينني بهذا الجدول، وهو الشيء الوحيد الذي أحببته عدا المباني، فلو أردت أن أُفاضل بينكما الآن ما أمكنني هذا.» لم أكن موفَّقًا فيما قلت، وصدمني وقع الإهانة. لكني فكَّرت أني أستطيع تلافي ما حدث بأن أريها الأشياء التي أحبها. لم تكن هناك من طريقة أخرى أمامي كي أصفَ لها شعوري نحوها ونحو الجدول، وأبنيتي، وكل شيء.
أخذتها أول الأمر إلى مبنى شركة كامبانا الذي أقامه رايت، والذي كان يقوم وحيدًا فوق حقل شاسع في الريف بين أورورا وإلجين وإلينوا. كانت الشركة تصنع عطورًا للسيدات؛ ولهذا كانت مباني إدارتها تُعبِّر عن رقةِ إنتاجها المرطِّب المضاد للعفونة، وترفع في خرسانة أرجوانية مثل إصبعٍ يشير إلى السماء بظفرٍ متقَن الطلاء، بينما تحيط بهذا البرج أبنيةٌ مسطَّحة عديدة في الشكل الدائري لراحة اليد. لم تكن هناك أية أطراف خشنة للمنظر؛ فقد كانت جميعًا خطوطًا محدَّدة في نعومةٍ توحي بالرحيق الرقيق الذي يندفع يوميًّا من أواني المصنع الضخمة إلى الزجاجات الوردية. وكان اختياري قد وقع على كامبانا لتكون الرؤيا الأولى التي تراها حبيبتي لأنها كانت تُذكرني بها، في توردها ورقَّتها، كأنها خارجة لتوها من الحمَّام ببشرة ناعمة متوهجة.
أحبَّت ماري المكان، وتآلفت على الفور مع ما ينطِق به من دقة الشكل الأنثوي وكماله. وقالت: «إنه يجعلني أشعر بأني نظيفة جدًّا. أوه يا روبي، كنت أظن أن المباني ليست إلا أكوامًا من الحجارة وُضعت بغير نظام، وكان هذا يقلقني، ولكني أجد الأمر الآن مختلفًا. إنها حلوة وجميلة وليست خشنة المنظر على الإطلاق. إني لسعيدة.»
انتصبت واقفًا بجوارها، وأنا أتناول يدها. وقلت في أهمية: «إن الباني الماهر يستطيع أن يفعل كلَّ شيء على الوجه الصحيح. من القوي إلى الرقيق الحلو.» وفكَّرت لحظة: «لم أكن أفهم الجمال من قبل، لكني أعتقد أني أعرف الآن بعد أن قابلتك. فليس الجمال شيئًا يمكن أن يبتدعه الإنسان من تلقاء نفسه. إنما يجب أن يكون شيئًا يتذكَّره، شيئًا حلوًا ورقيقًا أعطته إياه امرأة. يسرني أنك أُعجبتِ به يا ماري، لكني سأبني لكِ يومًا ما، ما هو أجمل من هذا بكثير.»
عجبتُ لِما استولى عليَّ من شعورٍ بأني أستطيع الحديث مع ماري. ربما لِما بدا من استمتاعي بكلِّ ما أقول، أيًّا كان. كنت أذكر لها ما أفكِّر فيه، كما خطر لي دون أن أضطر إلى حمايتها أو تضليلها أو تجاهلها، كما كنت أفعل مع الأخريات. وربما كان السبب أيضًا، أنني خلالها كنت أستطيع أن أصغي لنفسي لأول مرة وأنا أتكلم وأعرف وقْع ما أقوله على مَن لم يفكر فيه مطلقًا من قبل، ويتلقاه كشيء جديد، ويتعيَّن عليه أن يتفهم مضمونه. وكلما أصغت ماري لي، شجَّعني هذا على أن أُحدِّثها بالمزيد.
فأقول: «خذي مثلًا حانوت هركي، هاكِ مثالًا كاملًا على القُبح المتعمَّد. بل إنه يعوق البيع، وأنتِ تعلمين كيف يثور العجوز، المتمسك بالقديم، ضد متجره لو تبيَّن هذا. فرغم أن المتجر يقع في ركنٍ بزاويةٍ قائمة، نراه قد شُيِّد على صورةِ مربع، وأُقحم عليه مدخل يمتد قرابة عشرين قدمًا، وشُيدت الجدران كلُّها من الزجاج بسقفٍ منخفض، وفي الداخل ليست هناك سوى مساحة فارغة حُشدت فيها الحاملات حيثما اتفق، ووُضع جهاز الصودا بعرض الحائط الخلفي، وخلْفه يقف هركي يحاول أن يبيع ما يكفي للإبقاء على عظمة العجوز. كل هذا يغطِّيه سقف واطئ تتدلى منه الأنوار. أما لو كان الأمر بيدي لأعددت كلَّ شيء بصورةٍ مخالفة؛ كنت أجعل المدخل في طرَف المثلث بلا باب أو زجاج — ما رأيكِ في هذا؟ — إنما أغلقه بحاجزٍ رفيع من هواء يهبُّ عبره بسرعةٍ لا تسمح للبرودة بالتسلل إلى الداخل. أما الناس فيدخلون بسهولة؛ إذ يسيرون ببساطة إلى الداخل دون أن يفتحوا بابًا أو أيَّ شيء. ثم أضع حامل الصودا على طول محيط المتجر، وبهذا يجلس الناس مستندين بظهورهم إلى الحائط، مواجهين بذلك كافة أنحاء المتجر. وأمامهم حاملٌ مُضاء تطفو فوقه كل بضاعة هركي، معروضة أمام الزبائن، الذين يديرون مؤشرًا على مقياسٍ أمامهم ويضغطون زرًّا، فتُوضع هذه الأشياء في لفافةٍ عند المدخل يحملها الزبائن عندما ينصرفون. ويكون بوسع هركي أن يدير العملية كلها دون معونةٍ من أحد وهو جالس أمام لوحة تحكُّم في وسط المتجر.»
وأرسم لها فكرةً كلُّها في كراستي، بالمواسير، والكهرباء، والتدفئة، مصممًا المكان من الداخل في مسقط رأسي، بحيث تراه ماري كلَّه أمامها على الورق. عندئذٍ تقول ماري بعد أن تعطيني انتباهها الشديد بعض الوقت: «تذكَّرت الآن. يجب أن أشتري أحمرَ شفاه. دعنا نذهب إلى متجر هركي.» ونسير متشابكي الأيدي، وقد اكتملت صورة متجر هركي الجديد في رأسي حتى لا أنساها أبدًا. بينما ماري تفكِّر في اللون الذي ستختاره لأحمر شفاهها.
كنت أشعر في بعض الأحيان أن ماري لا تعبأ بأبنيتي وأحلامي، وأنها تتظاهر فقط بالإصغاء إليَّ. لكني عندما أتَّهمها بذلك، تواجهني على الفور بحبها، وتبتسم في وجهي، وهي تميل برأسها وتقول في خشونة: «إنني أحب فقط أن أُصغي إليك يا روبي؛ لأني أعتقد أنك رائع، وليس بوسعي أن أتخيَّل ما ستقوله في اللحظة التالية. إني لأعتقد أنك أذكى مَن عرفت من الشُّبان في حياتي، لكني لا يجب أن أكون في مستوى ذكائك، فكلُّ ما أستطيعه هو أن أُصغي دون تعليق؛ لأني لو تكلمت سأبدو غبية وستعتقد على الفور أني لا أفهم، بينما أنا أفهم حقيقة؛ على الأقل هذا ما أظنه. إنني أفهم أنك على حق، وهذا هو كلُّ ما يتعين عليَّ أن أفكِّر فيه حقيقة، وهذا ما يجعل وجودي معك رائعًا للغاية. فليس عليَّ أن أفكِّر في أي شيء هام، واقعي، كلُّ ما عليَّ هو أن أستمع. وهذا هو ما جذبني إليك في المقام الأول يا روبي، وهو ما يجعلني سعيدة جدًّا الآن. كنت دائمًا أجد نفسي مضطرة للتفكير فيما يقوله الفتيان لأني لم أكن أصدِّقهم، ولا أثق بهم … هل تفهم ما أعني؟ لكني أثق بك يا روبي، وليس من باعثٍ على القلق بعد الآن. عندما نتحدث عن مبانيك، تتملكني القشعريرة، أوه، لا لأني أحبها كثيرًا، ولكن لأنك تفعل وتبدو شديد الثقة بحيث لا أضطر حتى للتفكير في شأنها … فقط أفكِّر فيك، وفي قوَّتك وثقتك ومهارتك ومعرفتك وجرأتك، وكل شيء.
لماذا يا روبي روي، كيف تشكُّ في فتاةٍ يهزها، كما هو واضح، كلُّ صوت يصدر من فمك حتى عندما تُصفر؟ يجب أن تتعلم كيف تؤمن بي أيضًا، يا روبي، نصف إيماني بك فقط. يومًا ما سوف نتزوج وسيكون لدينا ثلاثة أولاد وأربع بنات، ومنزل كبير تبنيه لنا، وستسافر في كل مكان تبني أروع الأشياء لجميع الناس، ويجب أن يستقر رأيك بشأني، يا روبي، قبل أن يحدث كل هذا، وإلا وقعنا في ورطةٍ شنعاء؛ لأن الأطفال يعرفون على الفور عندما يحدث خلاف بين الأبوين ويؤذيهم هذا، وأنت لا تريد هذا، أنا أعرف، والله يعلم أني لا أريده أيضًا، ولهذا يجب أن نسوي كل شيء قبل أن يحدث هذا بوقت طويل.»
وعندما تنتهي ماري من إحدى الأبنية العالية المهتزة التي تشيِّدها للمستقبل، يتقلَّص وجهي كلُّه من عذاب محاولتي متابعة تخيلاتها الضالة، ثم أتخلص فجأةً من كل شكوكي ضاحكًا، وتضحك هي أيضًا معي، وتأخذ يدي وتأرجحها، ثم تضع ذراعي حول خَصرها وتُشبك أصابعها بأصابعي، وتهِرُّ في وجهي، وتقول شيئًا من هذا القبيل: «إني لجد سعيدة يا روبي. وأتمنى أن يكون هذا شعورك أيضًا.»
فتتدافع كلماتي لتؤكد لها بهجتي، وسرعان ما أصدِّق الأمر أنا نفسي.
كانت تبدو لي دائمًا جِد غريبة. فعندما كنا نتبادل الحب مستمتعين بقبلاتنا والتصاق جسدينا تحت الجسر أو فوق شاطئ معشوشب، أو في سيارة أبويَّ في أمسيات الجُمَع بعد أن نعود من السينما، لم يكن هناك خجل أو خوف من جانبها، وحين فكَّرت في ذلك، ونادرًا ما كان هذا يحدث، وجدت نفسي مرغمًا على أن أعترف بأني أنا الذي كنت عادةً أتوقَّف في منتصف الطريق، فعندما كنت أُقبِّلها كانت تُقبِّلني بدورها، وإذا ما داعبتها قوَّست ظهرها وضغطت بصدرها في يدي وأغرقتني بقبلاتها. وأدركت أنني يجب أن أسيطر على نفسي، وعندما كنت أتوقَّف لم تكن تفعل شيئًا سوى أن تقبلني من جديد وتقول: «أوه يا روبي، كم أحبك!» ثم تضيف: «وإني لأثق بك من كل قلبي.» كيف إذن لا أكون عاقلًا عندما تثق فيَّ بهذه الصورة؟ كان لا بد وأن أكون جديرًا بثقتها؛ لهذا كنت أتوقَّف، وعندئذٍ نتحدث، ورأسها معتمد على كتفي، عن كل الأشياء الجميلة التي سأحققها في المستقبل.
كنت أقول: «إن المدن شديدة القبح، ولسوف أحوِّلها إلى أشياءَ جميلة، حتى تكون جديرة بأن تسيري في أنحائها، سوف تكون هناك منتزهات، وبحيرات، وممرات عريضة مثل الشوارع، وشوارع لا تُرى ولا تؤذي أحدًا ولا يُسمع لها صوت، وسوف تكون هناك أضواء في كل مكان حتى يستمتع الناس بالأشجار والأسيجة والزهور في الليل بعدما ينتهون من أعمالهم. ولن تكون المباني قبيحة مضحكة بل جميلة، تتحد جميعًا بالعراء في أشكال دائرية عظيمة تسمح بدخول الشمس والهواء والروائح، وصوت المياه المندفعة. سوف ترين. سوف يبدو كل شيء بهيجًا يجعلك تضحكين وتستمعين به أينما ذهبتِ، وسوف تتحدث جميعًا إليكِ، تستحثك … سوف تكون كلُّها، بل وكلُّ شيء آخر، من أجلك أنتِ.»
عندئذٍ تضحك وتمسح على ساعدي برأسها وتجيب: «وسأحمل الأطفال إلى النافذة وأقول لهم: انظروا انظروا لكل هذا، لقد صنعه أبوكم دون أخطاء، وإنكم لأسعد الصبية حظًّا في هذا العالم؛ لأن لكم مثلَ هذا الأب. ورغم أنهم لم يكفُّوا عن البكاء لأن الشمس شديدة السطوح، أو لأنهم جوعى، فسوف أعرف أنهم يدركون قدْر سعادتنا وفخرنا بأن نعيش في مبانيك وننظر إليها وكل شيء. إنها السعادة الحقة.»
عندما تقول كهذا، أود، من أجلها، لو أندفع إلى منزلي وأعكف على الدراسة، أُضيء مصباحي وأرسم، وأبذل جهدي لتحقق كل شيء بسرعة، أود لو أبدأ في نفس الليلة، وأعمل حتى يتم كل شيء … وعندئذٍ أركن إلى الصمت وقد امتلأ رأسي بصورِ ما سيكون، حتى تنبِّهني قائلة إنها يجب أن تعود إلى منزلها. وأعود إلى منزلي بعد ذلك، فأصعد الدَّرج إلى حجرتي حيث أجلس بالساعات أفكِّر في صمت، وأحيانًا أعمل طول الليل، أرسم أشكالًا خيالية، وأضع تفاصيل مدينتي، حتى يبزغ الضوء فأخلع ملابسي بسرعة وأرتمي على فراشي لأحصل على ساعات قليلة من النوم قبل موعد المدرسة. لم أحدِّثها عن هذا؛ لأني لم أكن أدرك ما به من غرابة. فلم يكن بوسعي أن أنام بعد أن أبوح لها بعهدي؛ إذ أشعر بأنني يجب أن أعمل على تحقيقه بأسرعِ ما يمكن، كأنما كان هذا الشعور الطاغي يزيل كلَّ تعب أو تفكير في النوم. وفي بعض الأحيان، كنت أقضي السبت التالي لأمسيتي معها دون طعام. فقد أذهب إلى المكتبة بحثًا عن شيء، وإذا بي قد انصرفت إلى القراءة، ثم أعود إلى الرسم في حجرتي المغلقة، وهكذا يمر اليوم دون أن أشعر.
ضحِكت مني ماري مرة قائلة: «روبي روي، لماذا تفعل كل شيء بهذا الاندفاع. يُخيَّل إليَّ أحيانًا أنك تعتقد أنك ستموت غدًا.»
أجبتها في جدية: «هذا ما أخشاه. تصوري مثلًا أن سيارة يمكن أن تفاجئني غدًا عند ناصية شارع وتقضي عليَّ، ولا تعود لدي فرصة لأبني شيئًا. لست أعرف كم لديَّ من الوقت، لكنه لن يكفيني مهما كان … عشر سنوات أو عشرون أو ثلاثون أو حتى خمسون. لست أملك ما يكفي من وقتٍ الآن لأقوم بما أريده، فما بالك عندما أبدأ العمل.»
فتساءلت: «أي عمل؟»
«العمارة بالطبع … فماذا غيرها؟»
«أوه، أجل. هذا حق أظن أنك ذكرت مرةً أنك مهتم ببناء الأشياء.» وقبل أن أثور، ضحِكت وطمأنتني قائلة: «أوه يا روبي، لا تغضب. لقد كنت أمزح. ولا تقلق؛ لأني سأعمل على أن يتوفر لك قدْر كبير من الوقت. سوف أحشوك بالطعام الطيب، وأحبك، وأُدبِّر أمور الأسرة كلها بيدٍ حديدية وبكفاءة بحيث لا يعكِّر عليك شيء صفوَ عملك، وسأعطيك عددًا كبيرًا من الأبناء السِّمان الضاحكين الذين سيصبحون عونًا كبيرًا لك عندما يكبَرون، فيحملون قِطَع الطوب، ويقلِّمون الأقلام، ويقومون لك بكل شيء.»
ضحِكت أنا الآخر، وهدأت ثائرتي كما أرادتني. كانت دائمًا تقضي على مخاوفي ومتاعبي عندما تؤكد أنها سرعان ما ستتبدَّد، وأنها ستكون عونًا كبيرًا في القضاء عليها، وشد ما كانت جميلة في عيني، تخلُب لبي بحيويتها، وإيماءاتها، والتغيُّر السريع فيها يُعبِّر عنه وجهُها من معانٍ، وتسكن من روعي بكل ما يجري على لسانها. الشيء الوحيد الذي كنت أفضِّله على العمل، هو أن أكون مع ماري، فقط لأرقبها، وأصغي إليها، وأستمتع بكل سحرها الطبيعي. كانت تُذهلني وتثير كل انتباهي، كأنما كنت أتطلع إلى أجمل الأشكال والألوان مكبرة، وكانت تحبني، وهي فكرة لم أعتدْ عليها مطلقًا؛ فقد كان يخطر لي أحيانًا أنها قد تحب شخصًا آخر، شخصًا أعظم مني.
ومن ماري استوحيت الفكرةَ الأساسية التي شكَّلت أفكاري وعملي؛ فقد طالما تساءلت: لماذا لم يكن هناك مبنًى واحد في جمالها؟ وذات ليلة وأنا وحيد في حجرتي، اكتشفت السبب. كانت ماري دائمًا تتحدَّث وهي تفعل شيئًا، كانت تتحرَّك من وضعٍ لآخر، وكان وجهُها رغم جماله الذي يجعلني أحبس أنفاسي يتغير دائمًا بسرعة من عاطفة إلى أخرى. كانت ماري تتحرك، تتغير، تنتقل، وكانت المباني ساكنة بأحجارها. فكَّرت في الأشجار والحيوانات وفي الطيور والأسماك، بل والأنهار. كل شيء يتحرك ويتغير، فيما عدا الحجر … لماذا إذن لا ننبذ الصخر والخشب الميت وغيره من المواد، ونصنع بناء يتحرك ويتغير؟ لكن كيف؟ ماذا نملك من المواد المرنة الطيعة؟ المطاط والبلاستيك والورق … بل إن الحجر نفسه يمكن أن يتحرك إذا دفعته قوةٌ ما قليلة التكاليف. وخلصت من ذلك بأن كل المباني يجب أن تكون ذات حركة كافية، نظام للتغيُّر مُشيَّد داخلها، ومبدأ جديد للتحول يضاف إليها. وبعبارة أخرى، إن البناء يجب أن يكون أكثر من مجرد شكلٍ نراه، وإنما يكون نظامًا من الأشكال المتغيرة تتيح له أن يتحوَّل إلى شيء آخر، ثم شيء ثالث من جديد، وهكذا، وهذا التحوُّل الدائري سيجعل المباني أكثر قُربًا من الحياة، حقيقية، أكثر إثارة، وأكثر فائدة، من أي شيء آخر بناه الإنسان في الماضي. كدت أنفجر بما أثاره فيَّ هذا الحلم من انفعال. وكان من العسير أن أصبر حتى أروي الأمر كله لماري.
سألتني: «لكن ماذا ستفعل كل هذه المباني؟ هل ستجري فوق عجلات أو على أقدام، أم أن الجدران ستمر كالفيلم أمام الكاميرا السينمائية، أما ماذا؟ هل سيرتفع السقف ثم ينخفض أم يدور؟» وضحكت وأضافت: «لا أستطيع أن أتخيل الفكرة …»
أجبتها: «لست أعلم بعدُ يا ماري. لكن فكِّري في الأمر. تدبري الفكرة. أليست مذهلة؟ لماذا لم يفكر فيها أحد من قبل؟ لماذا تكون كل منازلنا ومبانينا ساكنة؟ لماذا لا تشرف على عدة مناظر بدلًا من منظر واحد؟ لماذا تكون واحدة بدلًا من أن تتعدد وتتضاعف؟ فكري في معنى هذا. لسوف يتغير كل شيء … مُدن بكاملها تتحرك. لماذا لم يتم هذا من قبل؟ إن الأمر في منتهى البساطة.»
قالت: «لم يكن روبي روي أوريللي ليفكر فيه. كل شيء يصبح بسيطًا متى فكر فيه المرء. أهناك ما هو أبسط من العجلة أو الدبوس؟»
قلت: «هذا حقٌّ، خذي بساطة القوس والكابولي. ماري، ألا ترين، لقد وجدتها.»
ابتسمت: «حسنًا، يسرُّني أنك فعلت، لكن ألست تنسى أنك وعدتني بكوب من السَّحلب؟»
أردت أن أحتفظ بماري معي بقيةَ حياتي، فتكون بجواري دائمًا وأنا أتعلم وأعمل، لكني أدركت بصورةٍ ما أنه يتعين عليَّ أن أنتهي من الكلية أولًا. كنت أحتاج إلى التدريب التكتيكي، وما كان باستطاعتي أن أُدبِّر أموري بنفسي ولو حصلت على منحة دراسية، فضلًا عن إعالة أسرة أيضًا. لكني عندما قلت لماري إن زواجنا قد يتأجل أربع سنوات هزَّت رأسها في حزم.
قالت: «أوه كلَّا، لن أنتظر. مَن غيري سيعمل ويعود للمنزل بأجره؟ أنت بالتأكيد لا يمكنك أن تعمل كثيرًا. إلى جانب عبء المحاضرات في الكلية؛ ولهذا وضعت خطةً كاملة لكل شيء. لن يتأجل زواجنا، لكنَّ أسرتنا هي التي ستؤجل. بوسعنا أن نحصل على أحد البيوت الصغيرة شبه الجاهزة التي تُقام على أراضي الجامعات للجنود القدامى، وسوف أجد عملًا، وبهذا يصبح لدينا قليل من المال، وسنتزوج، وسيكون بوسعك أن تواصل الدراسة. لست أرى من سبيل آخر.»
قلت: «لكن ماذا بشأنك أنتِ يا ماري، ألا تريدين الذَّهاب إلى المدرسة؟ ليس بوسعي أن أطلب منكِ التخلي عن دراستك والعمل في مكان حقير أو شيء من هذا القبيل، لكي أتمكَّن من شقِّ طريقي.»
أجابت: «أنت المدرسة الوحيدة التي أحتاجها. فلست أفهم شيئًا من كل تلك الكتب وهؤلاء الشيوخ المبتذلين الذين يتجشئون وهم يتحدثون عن العقائد، لقد تعبتُ من الكلام، كلام، كلام، وأريد أن أساعدك لتفعل شيئًا. هذا هو ما نحتاج إليه، رجال يفعلون شيئًا بدلًا من الاكتفاء بالحديث. لقد جُن جنون العالم، وليست هناك فائدة من الحديث.» ابتسمت، وذكرتني ببطء: «ليس بوسعي أنا أن أفعل شيئًا، وأنا أعلم هذا، لكن بوسعي أن أفعل الكثير من خلالك، إذا ما أتحت لي الفرصة. إني لأفضل العمل في حانوت صغير لو عرفت أن هذا يساعدك ويساعدنا على أن نُحقق ما نريد، أُفضل هذا على أن أجلس في فصلٍ قديم متعفن لأتحمل أبلهَ أبيضَ الشعر لا يعرف عما يتحدث. على أية حال، يجب ألا تُشغل بالك دائمًا بما يقدمه لك الآخرون من عون واجب حتى تبلغ أهدافك، فلا بد أن تتعلم كيف تقبل المساعدة إن كنت حقًّا تنوي أن تصنع شيئًا. لن يكون بإمكانك أن تنطلق هكذا وتُشيِّد هذه المباني الكبيرة بمفردك، أتستطيع؟ أظنك ستتفرج على عامل بناء وتسأله لماذا يضع الطوب، بدلًا من الذهاب إلى الكلية؟ بالطبع لن تفعل، ويجب أن تشعر بالسعادة؛ لأن آخرين يريدون مساعدتك يا روبي، وإني لأكثرهم رغبةً في ذلك. والحقيقة أني بذلك أساعد نفسي أيضًا. لأني أريد أن أقتنصك الآن، بينما أعرف أنك تحبني، وبوسعي أن أنجب أطفالًا بعد أن أعمل بضع سنوات، وبعد سنوات قليلة أخرى سيكبَر الأطفال وأدور في أنحاء البيت الكبير الذي ستشيده لنا مُحدثةً جلبة وضوضاء، ولن يكون لديَّ ما أفعله سوى لعب البريدج والثرثرة مع الدجاجات المتوسطة العمر … لن تعرف ماذا يعني وقت الفراغ حقيقة حتى تشاهد سيدة متوسطة العمر تنظِّف منزلها ثلاث مرات في اليوم لا لشيء إلا لتجد ما يشغلها. على أية حال، أنا أريد أن أتزوج فورًا؛ لأني أخاف أن تُغيِّر رأيك. قُل لي أنك لن تتغير يا روبي وأنك ما زلت تحبني.»
«بالطبع أحبك يا ماري، وأنتِ تعرفين هذا.»
فقالت: «حسنًا، يسرني أن الأمر قد حُسم.»
«ما الذي حُسم؟»
قالت: «روبي … لا أريد أن نقضي الليلةَ كلها في هذا الحديث. إنني أعرف طباعك، فلا بد لك من وقتٍ تفكِّر فيه في الأمور وفي النهاية دائمًا تفعل ما هو صواب؛ ولهذا فأنا أريدك فقط أن تفكِّر في الأمر وتخبرني عندما تنتهي إلى قرار؛ لأن أمامي مهامَّ كثيرة؛ فعليَّ أن أُحدد اليوم، وأن أُخبر أهلي، وأبتاع ثوبًا، وأُرتِّب ما يتعلق بالكنيسة، وإعلان النبأ، وقائمة المدعوين. ربما تظن أن الزواج ليس سوى حركة من المعصم. حسنًا، دعني أقول لك إنه يتطلب عملًا كثيرًا، لكن لا تُزعَج؛ فسوف أتولى أمرَ كل شيء، وكلُّ ما عليك هو أن تكون موجودًا.»
قررت أن أستجيب لما طلبته مني وهو أن أفكِّر في الأمر. فهذا على الأقل هو واجبي نحوها. لكن الفكرة كما صورتها لي، بدت جيدة، وكنت أريد أن أتزوجها على أية حال.
وسرعان ما وجدتني قد انتهيت من المدرسة الثانوية، وتخرَّجت بترتيب مائة وثمانية وتسعين في فصلٍ تعداده أربعمائة، وهو ما كان من حُسن الحظ. إذ لو كان ترتيبي أقل من ذلك بثلاث درجات لفقدت حق الالتحاق بالكلية. وكان عليَّ أن أؤدي اختباراتٍ للقبول لأثبت صلاحيتي لاستيعاب التعليم المتقدم. وأرسلت نتائج هذه الاختبارات إلى مستر دولف، وهو المدرس الذي كان يمدني دائمًا بالنُّصح، وقد أرفقت بها مذكرة تقول إنها أعلى نتائج حصل عليها أحد في إقليمنا، لكنها لا تتفق ودرجاتي المدرسية أو التقرير الذي بعث به المدرسون المختلفون عن شخصيتي. ورد مستر دولف عليهم مؤكدًا للكلية أنه لم يحدث خداعٌ ما، وأنني في الواقع قد أنجزت كل الاختبارات في نصف المدة المحدَّدة، وأنني طالب نابغ، وأنبغ مَن عرف مستر دولف من الطلبة في ميدان الرياضيات. وردت الكلية بخطابٍ موجز ذكرت فيه أنها قرَّرت صلاحيتي للدراسة بها، لكني سأوضع تحت الاختبار بسبب درجاتي. أما الطلب الذي تقدَّمت به للحصول على منحة دراسية فقد رُفض.
سألت مستر دولف: «لكن كيف سأذهب دون منحة دراسية؟»
وتنهَّد ناصحي في عدم ارتياح: «حسنًا، بوسع أهلك أن يساعدوك قليلًا، ويمكنك أن تعمل … لكني أظن أن هذا لن يكفي.»
فكَّرت لحظة … ثم قلت: «ماري وأنا سنتزوج، وسوف تعمل هي الأخرى.»
ارتجف مستر دولف: «ألا تدرك يا روبي أنك لو تزوجت في هذه السن فلن تكمل دراستك الجامعية أبدًا؟»
قلت: «كلَّا. لا أدرك ذلك؛ فالأمر يبدو لي على العكس.»
طوَّح مستر دولف بذراعيه في الهواء: «حسنًا، مؤكَّد أني لا أستطيع منْعك، لكني سأذكر لوالديك أنني ضد زواجك.»
وعندما علم أبواي أن ماري وأنا نريد الزواج، وأن مستر دولف يعتقد أن في هذا نهاية لمستقبلي، منعاني من رؤية ماري. واتصلا بوالديها اللذين فزعا بدورهما، خاصةً عندما سمعا أن ماري تنوي العمل بدلًا من الالتحاق بالجامعة، وقرَّرا ترحيلها إلى عمةٍ لها في ميلواكي حتى تكون في مأمن ذلك الصيف قبل أن تُرسل بعد ذلك بعيدًا إلى مدرسة في كاليفورنيا.
سمعت بهذه الأنباء لأول مرة من خطابٍ أرسلته ماري إليَّ عن طريق أحد الأصدقاء، وأعطتني فيه العنوان الذي تقيم فيه، واستحثتني أن أزورها بأسرعِ ما أستطيع على أن أقدِّم نفسي لعمتِها باسم «خرانكي بومجارتنر»؛ ذلك أن العمة لا يعنيها شيء قدْر أن تبدو متسامحة، وماري تعتقد أن الاسم اليهودي الذي اختارته لي سيوجِّه اهتمام العمة ولا شك إلى إبراز تسامحها وبُعدها عن التعصُّب، فلا تشكُّ في أني قد أكون الصبي الذي حذَّرها منه أبوا ماري.
ونصحتني ماري: «حاول أن تبدو مُغبَّرًا»، ثم وقَّعت الورقة في حزم: «مع حبي كلِّه إلى الأبد.»
وفي صباح السبت التالي، كنت أقف بشعري الأحمر، ووجهي الذي يغطيه النمش، وسيارتي الفورد العتيقة، من طراز ١٩٣٨، التي ابتعتها بخمسين دولارًا، أمام منزل عمة ماري، أشكو للعجوز من أن السيارة التي لم أدفع فيها سوى خمسين دولارًا «… تُكلفني مائة وخمسين كلَّ سنة، قيمة التأمين». وما كان بوسعي أن أعرف إن كنت أقنعتها بذلك بيهوديتي، لكنها تركت ماري تخرج معي للسباحة بعد ظهر ذلك اليوم، ولم توجِّه إليَّ سؤالًا واحدًا؛ فأدركت أنها وثقت بي، وهذا ما كنا نبغيه أنا وماري.
هتفت بي ماري وهي تُلوِّح بمنشفتها: «فرانكي … دعنا نذهب. هناك ما أريد أن أتناساه وأود أن ألهو قليلًا.» وبينما كنا نغادر المنزل نحن الاثنين، وقفت العمة في مدخله وعلى فمها ابتسامة خفيفة ذات مغزًى، وقالت: «لا تعبثي بالوقت يا ماري، لكن احذري المياه.»
لكننا لم نذهب للسباحة. فقد وضعنا أردية الاستحمام في مقعد السيارة الخلفي، كما دبَّرت ماري، وانطلقنا على طول شاطئ بحيرة ميتشيجان إلى كراون بوينت إنديانا، حيث يستطيع مَن لم يتجاوزوا الثمانية عشر أن يتزوجوا دون موافقة آبائهم.
قالت ماري وهي تنكمش ملتصقة بي ونحن نمر بشيكاغو: «هل أنت خائف يا روبي؟»
كذبت: «كلَّا، لست خائفًا؛ فأنا أعرف أن ما نفعله هو الصواب.»
قالت: «لسوف أحبك دائمًا يا روبي.»