الفصل السابع
هذه المرة قُمت بكل شيء على وجهٍ مختلف، ولم أترك شيئًا لأحد. فعندما وصلت إلى الأرض الجديدة بعد أسابيع قليلة من شرائنا لها، قضيت الجانب الأكبر من اليوم الأول في إعداد وطلاء لوحة هائلة في حجم سيارة النقل ذات الصندوق الخشبي، وفي نهاية اليوم التالي كنت قد أقمتها بالقرب من الطريق الرئيسي، بعد أن ثبتها جيدًا في قواعدَ من الخرسانة. كانت تحمل الكلمات التالية:
مرحبًا بكم في قرية أوريللي
مستعمرة جديدة من ٥٠٠ منزل
صمَّمها أستاذ العمارة البارز
روبي روي
أوريللي
وبين رقم ٥ والصفرين المجاورين له وُضعت علامة عشرية صغيرة جدًّا في عنايةٍ بحيث لا يلحظها سوى العلماء، وعندما خطوت إلى الوراء لأُصفق لما فعلت، وجدتني مضطرًّا لأن أعترف بأني نجحت في أن أكون صادقًا من الناحية الفعلية ومضللًا كبيرًا في الوقت نفسه، وأيقنت أن كلَّ مَن سيمر بهذه البقعة سيتصوَّر أن مدينةً جديدة مذهلة ستُنشأ في هذا المكان — وهي الحقيقة على أية حال — فلم يحدث أبدًا أن صنعتُ شيئًا عاديًّا أو شائعًا، ولم يكن لديَّ أدنى شك في أني سأُحقِّق أحلامي في العظمة، مهما كانت ضخامتها. كان مصدر قلقي الوحيد، استنادًا إلى تجربتي السابقة، هو أن ما أتكهن به الآن سوف يُقلل من ذلك الفيض الهائل الجميل في المشاعر الذي ستبعثه في قريةٍ يتم بناؤها لأول مرة على أُسسٍ سليمة، رغم أنها لا تضم في الواقع سوى واحد إلى مائة من العدد المنتظر.
وما كان بوسع أحدٍ من المارة أن يعرف أني لا أملِك سوى خمسة أكرات؛ فقد كانت قطعتي محاطةً بالمروج وحقول الحنطة والبساتين والمراعي، وكان من السهل أن يُفهم من لافتتي أن أراضيَّ تمتد ميلًا في كل الاتجاهات.
كان الموقع جميلًا، حتى التراب كانت تبدو علية الجدة، لكن لم يكن هناك من سبيلٍ لإنكار ضرورة العمل اليدوي؛ لأنني رأيت في كل مكان فجواتٍ لا بد من ملئها حتى يصبح المنظر كله في صورة أفضل؛ فليس هناك شيء لا يمكن مضاعفة طاقته بمجرد دفعةٍ صغيرة من جانب الإنسان، وكنت دائمًا تواقًا لأن أفعل هذا، كما كان شأني الآن، وأنا هنا أفكِّر في الصورة التي سأعطيها لهذا المكان. نحيت جانبًا صورًا مختلفة لمستقبل هذه الأرض، واستقر رأيي أخيرًا على منظرٍ ساحر أردت أن أراها عليه.
وهذا ما يفتقده الناس العاديون، بل والمعماريون العاديون، وهو أن يصنعوا شيئًا على هواهم، كما يريدونه بالضبط. فهم لا يملكون للأسف الشجاعةَ لمواجهة الفراغ وإطلاق العِنان للخيال، فلا بد أن يُقال لهم ما يتعيَّن عليهم عمله، أو يقرءوا ما يجب أن يفكِّروا فيه، أو يقلِّدوا ما عُمل من قبل. أنهم ييأسون بسرعة، رغم أن بوسعهم، هم أيضًا، أن يتبينوا ببساطةٍ ما هو مطلوب. بوسع أي إنسان أن يُجسِّد العصرَ كلَّه في أكثرِ الأشياء ضآلة؛ لأن كل الأسرار تمتزج فينا جميعًا بالارتشاح. علينا فقط أن نعمل بأمانة، عندئذٍ سنُقدم الإجابة، ولو دون أن ندري بأمرها. (أسميتها ﺑ «الإجابة»، لكن هناك منذ القِدَم أسماء أخرى لها؛ فقد وصفها ليوناردو دافنشي بأنها «الخط الذي تتولَّد عنه كل الخطوط دون أن يُرى».)
وبعد أيام قليلة من إقامة لافتتي، مضيت إلى أقرب المدن الكبيرة (بلدة وابو، إيلينوي، وتعدادها ٥٠٠٠ نسمة) لأُقابل بائع مواد البناء المحلي. وألفيته قد سمع عن لافتتي، وزعم أنه يعرف كل شيء عن قرية أوريللي، وقال لي بابتسامة متلهفة غطَّت وجهَه المتورد، إنه كان مُعجبًا بعملي «منذ سنوات طويلة».
قال: «لا أستطيع أن أُعبِّر لك عن الشرف الذي ينالنا بإقدامك على العمل هنا.» وأضاف أن شركته المسمَّاة بمؤسسة سليد، يُسعدها أن تمدني بكلِّ ما أحتاج إليه. كلُّ ما يتعيَّن عليَّ أن أفعله هو أن أتصل به تليفونيًّا وأملي عليه طلباتي، وعندئذٍ أتلقاها في نفس اليوم. وقال: «ربما تظن أننا هنا ضئيلو الشأن، لكنك تُخطئ في هذا … فقد قمنا بمشروعاتٍ كبرى مثل خزان كوبور، ولعلك سمعت عنه، ومبنى لانجستون واكس. وأنا واثق أنك ستجد أسعارنا تُنافس كلَّ ما عداها في المدينة، ودعني أسرُّ إليك بشيء … لسوف تجد أن التعامل هنا مع مفتشي الولاية أفضل منه في أي مكان آخر إذا ما استخدمت التُّجار المحليين.»
أكدتُ لمستر سليد أني أكون سعيدًا جدًّا بالطبع إذا ما «استخدمته»، على حد تعبيره، فهزَّ يدي في عنفٍ وربَّت على كتفي مرة قائلًا: «لن تأسف على هذا أبدًا يا روبي — لعلك لا تعترض على مناداتي لك باسمك الأول ولك أن تناديني بالمر فقط — فسوف أعمل على أن تتلقى كلَّ ما تحتاجه، وبسرعة أيضًا. إن بعض شركات شيكاغو تنقل عربةَ الرمال إلى هنا في يومين، وأحيانًا في ثلاثة، بينما نستطيع نحن أن نمدك بها في دقائق، أجل دقائق … والآن … ما رأيك في تناول طعام الغداء … يا للجحيم، إنك تبدو كأنك ستموت جوعًا.»
كنت أعرف بالطبع أن مستر سليد لم يسمع عني مُطلقًا من قبل، ولم يرَ ما بنيته على الإطلاق، لكنه سمع تعليقًا على لافتتي وظنَّ أن مَن يضع لافتةً بهذه الصورة جدير بأن يعمل معه، لكني كنت راغبًا في أن يتقبلني الآخرون عن إيمان ولو كان هذا الإيمان هو إيماني أنا، مطبوعًا بحروف سوداء كبيرة فوق لافتة مثبتة على حافة الطريق. ثم أن أحدًا لا يمكنه أن يُطالب الآخرين باحترامه طبقًا لشروطه هو، فيجب أن يترك الشروط للآخرين، ولكلٍّ منهم شروطه الخاصة. كان مستر سليد يؤمن باللافتات كما كان المسيحيون الأوائل يؤمنون بالمعجزات، ولست أحمل عليه، فعلى الفنان أن يتقبَّل كل شذوذ أينما وجده.
لكني لا أكون على سداي إلا مع الأشكال لا مع الناس؛ ولهذا سرعان ما كنت عاكفًا على العمل أمام لوحة الرسم، أُصمِّم المساكن الخمسة التي ستُكرم بها أرضي. في البداية كومت اثنين هنا ثم هناك، وجعلت واحدًا كبيرًا يشرف على الجدول ليبدو يانعًا خلال حائط زجاجي عند الواجهة الخضراء المنحدرة للتل القائم على الجانب الآخر من المياه. لكني ألقيت بهذا المشروع جانبًا. ثم صمَّمت شكلًا مترابطًا دون نظام يضم كلَّ الأبنية الخمسة، بحيث يؤدي الواحد منها إلى الآخر، ويكون المحيط الخارجي للشكل العام مثنيًّا إلى الداخل في الوسط. لكن هذه الفكرة لم تعجبني أيضًا؛ لأن الأرض في الخارج كانت جميلة وما كنت أريد لما أضيفه إليها أن يجذب الاهتمام بعيدًا عنها. والتجأت إلى سقوفٍ على شكل أجراس، فوضعت كلَّ واحد منها بشكل عفوي منحرفًا عن الآخر في صورةٍ بدت كأنما حطت الصدفة رِحالها في المنطقة، لكني شعرت أن هذا خداع؛ لأنه يتضمَّن أنني — أنا الصانع، الإنسان المسئول — لم أكن موجودًا، وثرت على هذه الخطة ومزقتها إربًا خوفًا من أن تغريني عندما تتعقَّد الأمور. وعندما فشلت في العثور على حل، جعلت أسير ليلًا في أنحاء الأرض وأنا أفكِّر في أنه سيكون من المستحيل إرضائي، وأن كلَّ ما قد أُشيده سيكون إساءة لا تُغتفر للخُضرة اليانعة ولحاء الأشجار البني والتراب والصخر والمياه المندفعة. وحطًّا من شأن كلِّ ما أوجدته في لحظة اليد الطولى لتلك السلسلة من الأحداث المسماة الطبيعة.
كيف يمكنني بحق الشيطان أن أحدث لهذا المكان، أنا الآخر، كما حدث له في العصر الجليدي، تاركًا أشياءَ من بينها هذا الجدول وتلك الصخور، وهذه المياه الرقراقة وذلك الجسر، بينما أنا لست أكثر من فأر دعي أحمر الجلد يتفوق قليلًا في المكر، ولا يملك جبالًا جليدية تتصدع رهن إشارته. بدوت ضئيلًا للغاية في حاجة إلى كلِّ ما أملك من أعصابٍ كي أواصل الحياة بين كلِّ ما هو مصنوع من قبل، فما بالكم بمحاولةِ إحداث تغيير أتذكَّره فيما بعدُ بالفخر؟
لكن الإنسان يتذكَّر في لحظاتٍ كهذه أن كل الأشياء مصنوعة، كلها نتاج رغبتها الذاتية، أو نتيجة ظروف تطلَّبت وجودها وأوجبتها، أو هي النتيجة الأخيرة لوحدة سعيدة تألَّفت بين كل هذا أنها التسوية النهائية نفسها بين رغبتها وبين الممكن. وهكذا عندما هدأتُ وتركت مشكلاتي تغوص كالطعام في قناة الهضم الذهنية ولدت فكرة جديدة، وبزغت ملامح شكل، بعض أجزائه واضحة، والبعض الآخر غامض تمامًا. لكن الآن، بحق الإله، أصبح لديَّ ما يكفي لأن أبدأ على الأقل، وأقبلت على العمل بقوة لن يدركها سوى مَن ينكر ذاته ومعتقداته ورغباته الشخصية. كنت عبدًا لحلمٍ شفاف في جمجمتي، ولم يكن لشيء آخر من سيطرة عليَّ، ولا حتى ماري، حبي، التي كانت تظهر صباحًا ومساءً حاملة إليَّ الطعام.
من الصعب أن أتحدَّث عن إهمالٍ ما لماري من جانبي، وإني لفي حاجة إلى قدرتكم على الفهم لأتمكَّن من هذا. تصوروا يدًا تظهر فجأة تحمل صفحة، أو وجهًا جميلًا تملؤه عينان عسليتان كبيرتان، وابتسامة بيضاء سعيدة، وسط رؤيا من الأسمنت والسقوف، وأجهزة التدفئة، والسياج والقواعد، وكل الأشياء الدنيوية الأخرى التي تبدو لي، بصورة سحرية، وحقيقية تمامًا طول قدم إنسان وخطوته الكاملة في رَدهة، وعرضه الذي ينثني عندما يكون جالسًا وما يتطلبه ذلك، والحوض الذي يستخدمه هو وزوجته، وكل مكوِّنات «منزل» يجب أن يجري تنظيمه وفقًا للمكان الذي سيُقام فوقه.
كانت ماري تساعدني في ألا أتجاوز الحد. هل أنا جائع؟ فتطعمني. أأرغب في النوم؟ فتَسوقني إلى المنزل لأستريح يومًا كاملًا. أأنا مُتسخ مكتئب، يخدرني اليأس؟ فتقترح عليَّ حمَّامًا. كانت تمدني بالسيجار، وتُربِّت على روحي بحبها، وتُحدِّثها بأني ما زلت مُهمًّا لها رغم أني قد نسيتها مؤقتًا. كانت تطلق العِنان لعقلي دون أن ألحظ، وكانت بالطبع دائمًا جميلة، حتى عندما تلحظها نظرات عقل منشغل تمامًا بشيء لا علاقة له بها. هل تفهمون؟ ألا يُفضِّل قاطع الأخشاب العمل بين الزهور المتفجرة على أن يكون مُحاطًا بترابٍ خامد لا يلهم شيئًا؟ كانت ماري شمسًا، تُتيح لي أن أخلع سترتي المتهدلة، وأعني بذلك ذاتي، وأعمل حُرًّا، دون عائق، في دفء رعايتها.
قالت مرة: «رأيت تصميماتك هذا الصباح يا روبي بينما كنت تتناول إفطارك، وأعتقد أنها جميلة للغاية، ولا أكاد أستطيع صبرًا عليها حتى تنتهي … كم تظن سيستغرق ذلك؟»
قُلت: «لا أعرف، وإني لسعيد أنكِ أُعجبت بها.»
«إنها تبدو أكمل ما تكون لهذا المكان. كيف توصَّلت لهذه الفكرة بحق الشيطان؟»
قلت: «استوحيتها من الشكل الخارجي للمكان.» ورغم أن هذا لم يكن حقيقيًّا، فقد كان محتملًا، وقد أرضاها.
كان المشروع ضخمًا، لكني كنت أعرف أن تنفيذه أمرٌ يسير. ففي الوسط وضعت المُولِّد الكهربائي وقاعة ترفيه كبيرة ومدرسة، وجعلتها جميعًا في كرة واحدة كبيرة مستديرة سوف تطن بالنشاط بلا انقطاع. ومن هذا «المركز» تمتد خمسة قضبان من الخرسانة يغطيها بلاستيك أخضر شفاف، يتقاطع كلٌّ منها مع منظرٍ يستحق المشاهدة — أخدود انتثرت فوقه أوراق الأشجار، حنية نهر، غيضة من أشجار الدردار، مرج أصفر — ويمتد حوالي خمسين ياردة حيث تدور بلاطة مستديرة في بطء، كما هو الشأن في منزلي، لكن البلاطة هنا أكبر ولا تقتصر الحركة على طابق واحد؛ فهناك طابق ثانٍ يدور أيضًا في اتجاه عكسي لدوران الطابق الأول. وعلى المحيط الخارجي تُقام المنازل، قممًا دوارة تدور حول نفسها في سرعةٍ فتبدو أشبه بمظلات مخروطية إلا أن سقوفها مسطحة يتغير بدورانها الضوء الذي بداخلها. وتحت أماكن التقاء القضبان بالبلاطات تتجمع كل التوصيلات الكهربائية وأنابيب المجاري والتدفئة، وتقوم الأخيرة بإذابة الجليد والثلوج على شريط مستطيل خارج الغطاء البلاستيكي، فتُمهِّد بذلك طريقًا للعربات دون جُهد. وتحصُل العائلات الخمس بواسطة تنظيم تعاوني على حاجتها من المياه والكهرباء والخدمات الصحية، والملابس والترفيه … إلخ، ويمكنها أن تستأجر من مدخراتها مهندسين للصيانة بصورة دائمة. ولن تكون هناك من حاجة إلى عملٍ من أعمال الفلاحة. فلن تكون هناك حديقة، ولا أعمال تشذيب بالتالي، وسيزدحم الجدول والنهر بالأسماك، وسيؤدي إضافة خزان صغير إلى تكوين بحيرة عريضة حول منزل «الكرة» الكبير، في الوسط، الذي يضم كافة الخدمات. أصبح لدى المجتمعِ دُوار كامل، لا يتأثَّر بالطقس، لكنه شديد التلاحم بالأرضِ بحيث يبدو جزءًا من المنظرِ الطبيعي كلِّه. وكان المقرَّر أن تُشيَّد الأجزاء الصُّلبة من الصخر والخرسانة، مع الزجاج والبلاستيك، والدعامات الخشبية الضخمة التي سيتكون منها البناء، ولن تشعر العائلات بأنها جزء من هذه الأرض الجميلة أيضًا وحسب، فلسوف تتحرك بصورةٍ مستمرة وسطها.
وفي داخل «الكرة» كنت أنوي أن أضع كافة أنواع الآلات التي «ستوصل» الأشياء إلى كل منزل على حدة حسب الطلب بواسطة حزام تحويل مغطًّى يمتد في كلٍّ من القضبان الخمسة. فهناك على سبيل المثال ثلاجة كهربائية هائلة بها منتجات الألبان الطازجة — من لبن وزبد وبيض وجبن — وجهاز ذاتي الحركة قادر على أن يُقدِّم عددًا محددًا من الوجبات البسيطة. وهناك محلات تخزين تُقدم البضائع — البقالة والأدوية والخردوات والأدوات الحديدية واللوازم الجافة والمشروبات الكحولية وغير الكحولية بلمسة إصبع لزرار. وهناك أيضًا مغسل أوتوماتيكي ومنطقة لتجفيف الغسيل يمكن للعائلات استخدامها، وقاعة عرض للأفلام السينمائية، واستاد صغير داخلي وحوض سباحة ومكتبة ومحل لبيع الكتب والمجلات. ويمكن إدارة هذا كله وصيانته بواسطة الرجلين اللذين ستُتاح لهما السكنى مع أسرتيهما في الجانب الخاص بهما من «الكرة». وليست هناك من ضرورة للمبالغة بشأن «الآلات»؛ فهي ليست أكثر من غُرف تخزين تلتقط منها السلع لتُسلم إلى طالبيها. لكنها تُحقق وفرًا كبيرًا للعائلات المنتفعة؛ لأن اللوازم التي تقدمها يمكن شراؤها جملة عندما تكون الأسعار منخفضة، ثم تُخزن حتى الحاجة إليها. أما المواد التي تتباين تباينًا كبيرًا من شخص إلى آخر حسب الذوق، فستبتاعها كل أسرة لنفسها من الحوانيت الخارجية.
كنت مسرورًا من الصورة التي تمخَّض عنها المشروع؛ فقد كانت الكرة تتسع لأغلب الأشياء اللازمة للحياة الحديثة، وبذلك أصبح من الممكن استغلال كل مساحة المنازل نفسها في المعيشة والراحة. فلا يضم المطبخ — على سبيل المثال — سوى الأطعمة الخاصة التي تتفق وذوق كل أسرة، وبهذا أصبح في إمكاني أن أجعل الثلاجة الكهربائية والدواليب والموقد والفريزر في أحجام أصغر، أكثر جمالًا. كانت هناك حاجة فقط لمُنظِّف ومُجفِّف صغيرين للطوارئ. وهكذا كان بوسعي أن أُصمِّم مائدة كبيرة منبسطة يمكن أن تمتد عند الحاجة إلى منطقة تناول الطعام وتهيئ مكانًا فسيحًا لكل الأشياء التي تحتاج إلى مساحة: ألعاب المائدة، وتناول الطعام، والاحتفالات … إلخ. أما غُرف النوم فتلزمها أماكن لحفظ الملابس الخاصة بفصل واحد فقط من فصول السنة؛ لأن «الكرة» تضم غُرفًا محكمة الإغلاق لا ينفذ إليها الهواء ومجهزة بوسائل مقاومة الحشرات، وكان بوسعي أن أُهيئ بها أماكن للجلوس والعمل فأحيل كلَّ غرفة منها بذلك إلى خُلوة خاصة. ومن شأن المساحة المخصصة للمعيشة والمدخل المسقوف أن يخفِّفا من التوتر، يمتصا الصوت، بل ويساعدا، بالتصميم الدقيق، على إيجاد مجالات للموسيقى والتليفزيون والحديث والقراءة بحيث يمكن لثلاثة أو أربعة من هذه النشاطات أن تتم في وقت واحد في نفس منطقة المعيشة الواسعة، دون أن تتداخل في بعضها البعض. كانت هناك «جدران للكتب»، و«ساحات رياضية»، يمكن أن تفتح جوانب كاملة منها على الخارج بحيث لا يصبح هناك من حائل سوى الستائر، ويمكن أن تُغلق غلقًا محكمًا، في حالة البرد، بمجرد الضغط على زر.
كنت معجبًا بمشروعي للغاية وتمنيت لو أمكنني أن أضع عشرين منزلًا على الحافة المستديرة بدلًا من خمسة فقط كما أعلنت، لكني عندما أطلعت ماري على رغبتي قالت بروح عملية: «أليس من الأفضل أن ننتظر حتى نرى إذا ما كان أحد سيبتاع الخمسة الأولى؟»
لماذا يا ماري؟ لسوف تكون هذه الأماكن حلمًا لمن يعيش فيها.»
قالت: «أعرف يا روبي، لكن لا بد وأن يكون الناس قادرين على الإيمان بذلك.» وألقت بنظرها على الصورة التي رسمتها للموقع كله كما يبدو من أعلى. وأضافت مبتسمة: «بصراحة، إنه يبدو خياليًّا بعض الشيء.»
سألتها في حذر: «لماذا؟»
قالت: «حسنًا … لا بد وأن تعترف بأنه ليس ما يخطر على بال المرء عادةً عندما يفكر في المسكن، لسببٍ أساسي وهو: أين ستجد المرأة حديقتها؟ أجل أنت لم تفكِّر في ذلك مطلقًا، أليس كذلك؟ فلست تريد أن تزحم مشروعك بحديقة؟ سبب آخر: أين ستُوضع الدواجن؟ في الخارج أم في الداخل؟ ليس في هذه الجاراجات، وهذا أيضًا لم تفكِّر فيه، أليس كذلك؟ ثم ماذا عن شَيِّ الخنازير في الهواء الطلق؟ أين يقوم الرجل بدور رئيس الطباخين ويُعِد شرائح اللحم؟ ليس هناك من مكان لحفرة صغيرة لشي اللحوم، أليس كذلك؟ هل فكَّرت في الدراجات أو أسطوانة الانزلاق وحاصدة الأعشاب والجواريف وأماكن حِفظ المكانس والصابون؟ أوه، أجل، أعرف أنك أعددت صالةً لعرض التحف الفنية، وقاعة للموسيقى تَسع بيانو ضخمًا، وغُرفًا للقراءة، ولكن ماذا عن تلك السجادة الكبيرة من جلد الدُّب … أين يرتمي الناس أرضًا ويتبادلون الحب بعيدًا عن عيون الأطفال؟»
ورفعت يدها إلى فمها، ثم انفجرت ضاحكة وهي تحني رأسها: «أوه يا روبي، روبي … ليتك ترى وجهك … لم يكن يُقدَّر بثمنٍ، وقد بدوتَ كأنك قد ابتلعت لسانك كلَّه ولم يَعُد بوسعك أن تبتلع المزيد … آه، ها، ها انزعجت، أليس كذلك؟»
طاردتها في أنحاء الخيمة المؤقتة وأدرتها على وجهها فوق سرير صغير في الركن. وقلت لها ويدي تتلمَّس بشرة ساقها الناعمة أسفل جونلة في لون الشكولاته: «بلا سراويل مرة أخرى؟»
غمغمت: «كان الجو حارًّا، وظننت أنك ستكون مشغولًا فلا تلاحظ شيئًا.» وتَتابع خريرُ ضحكاتها وأنا أربِّت على الشكل الناعم المستدير العاري أمامي. قالت وهي تتلوى لتتخلص من يدي: «كفى يا روبي، كُفَّ عن هذه الدغدغة. الآن قبل أن أغضب.» وقاومتني بعنفٍ بضع دقائق، لكني لم أتوقف، وسرعان ما استسلمت لنشوةٍ فائقة وجعلت تغمغم في بطء: «همم … الآن، قف … روبي … الآن.»
عندما أدرتها كانت كلها فمًا ناعمًا ومستعدة لاستقبالي، قوَّتي وكلِّي، قدْر ما أستطيع أن أعطيها في سعادة، وقد أعطيتها أفضلَ ما أستطيع؛ لأني كنت أحبها، أوه يا إلهي، كم أحبها! كانت كالخمر للإنسان في الشتاء.
ورقدنا في هدوءٍ فوق الفراش الذي يصر لأي حركة، وجعلنا نرقب خفق مشعلي فوق المكتب في طرف الحجرة.
قالت في حزن: «أوه يا روبي، لسوف تكون غاية في الجمال. ليتها كانت مكتملة لأراها الآن.»
قلت: «ماري، لسوف أنتهي منها من أجلكِ بأسرعِ ما أستطيع. ولسوف تكون لكِ وحدك ولا أحد سواكِ.»
انتصبت جالسة وقالت مهمومة: «أتمنى ألا يكون الأمر كذلك. وأن يكون لدينا مشترون كثيرون تزدحم بهم الطرق في الخارج كما يحدث للاستاد في أكتوبر.»
سألتها مبتسمًا: «ألا يخلو تمامًا في أكتوبر؟»
قالت: «بالطبع لا يا غبي. ألا تعرف أن ذلك موعد المباريات الدولية؟»
تأملتها لحظةً في صمت. كيف أخبرها أنها كل سعادتي، والدفء الوحيد الذي يحيط بي، والأمنية التي لا أستطيع أن أعوِّل على سواها حتى وأنا بعيد عنها. فبجوار ماري فقط، يمكن للمرء أن يصنع شيئًا مثل «مجموعة الكرة»؛ لأنه بدونها لا يكون ثمة معنًى للفعل، للخلق، للعظمة — فلن يكون هناك مَن أسعى لإرضائه. لم أتناسَ بالطبع أنها لم تكن تفهم ما أفعله دائمًا أو تقدِّره. لكني أفعله مع ذلك من أجل عينيها — الخرسانة والخشب والمرافق، وسقيفة المدخل، والأماكن المغلقة وكل شيء.
وعندما أصبحت الفورمات في أماكنها، دبَّرت الأمر بحيث تأتي عربات الأسمنت عند الغروب، ليراها ابني ويتعلم ويغمس يديه في المزيج الرمادي المبتل قبل أن يتحوَّل إلى بلاطة تحت الأقدام. وفهم الصبي وعرف أن الأسمنت عجينة يمكن للمرء أن يشكلها كما يشاء وأنه، ككل شيء آخر، عبدٌ مطيع للقالب الذي يختاره له الإنسان. كنت أريده أن يعلم أن الإنسان هو صانع كل تكوينات الأسمنت التي يراها، وأنه لا يوجد شكل سابق على الأسمنت نفسه، وقد فهم هذا على الفور ويده في الخليط الرمادي السائل … استوعب الحقيقة دون أن يفكِّر فيها. وأراد أن يعرف على الفور لماذا تأخذ الأشكالُ هذه الصورة دون غيرها.
هناك الكثير الذي لا يستطيع الرجل أن يقوله لابنه، هناك ذلك الجزء الأسفل من جبل الثلج الذي يجب أن ينتقل دون إيضاح. إنه انتقال حسَّاس، رفيع كأحد خيوط الزمن، لكنه عريض مثل الجو في الواقع الذي يعيش فيه الصبي. فتلك الأشياء التي أدركَها بمشاعره ستُشكِّل وجدانه في المستقبل، وسيكون ابني مؤهلًا، مكافحًا يصعب خداعه، قد عقد العزم على أن يتصرف طبقًا لإرادته الخاصة وذوقه. لا يمكنني أن أقول كم أصبحتُ أحترمه للغاية من الآن. إنه أفضل الصبية، بطبيعته، ولست أنسب لنفسي فضلًا في ذلك، سوى أنه ثمرة حبي لأمه. إنه يحمل اسمي، وأنا أحمل اسمه، ويكفي هذا لأن يجعلنا نقف سويًّا، رغم أن الزمن يفصل بيننا، وسيكون هذا شأنه دائمًا. إنه مِلكي، وأنا مِلكه، هذه هي الرابطة البدائية القوية التي تجمع بيننا، وهذا هو السبب في أننا نتقبل بعضنا البعض تقبُّلًا تامًّا، والقبول هو أقوى أنواع الحب بين الرجال.
ينتابني القلق دائمًا عندما أبدأ في البناء. إن الأرض أمامي، والمشروع، لكني أتساءل عما إذا كان من الممكن تحويله إلى واقع؟ وأسرع دائمًا خوفًا من أن يتضح خطئي، ويتبين أن أفكاري جميلة لكنها مستحيلة التحقيق، فهناك دائمًا الخوف من أن تفشل حيلةٌ ما، ويحتضر الشيء الجميل الذي يتوقَّف على هذه الحيلة قبل أن يُولد، وقد تسبَّب في اختناقه عقلٌ مخطئ. لهذا اندفع في البداية لأُشيد شيئًا ما بسرعة، فعندما أرى القواعد أو الأساس أو الأرضية، أيًّا منها كان الأول، يصبح لدي شيء محسوس يسكِّن من شكوكي المرعبة، ويمكِّنني من أن أواصل العمل معتمدًا على نفسي كالعادة، بالإضافة إلى ما تم عمله بالفعل.
إنني أعلم أن قلةً من الناس ستفهم هذا، لكن الأمل يحدوني في أن يكون هناك في مكانٍ ما مَن جرَّب النشوة التي يشعر بها المرء عندما يصنع شيئًا فكَّر فيه بمفرده، ولا يصنعه أحد غيره، دون أن يكون أمام تاريخ من الأخطاء السابقة يتعلم منها. إنها دائمًا مقامرة، ورغم إمكان التقليل منها بالموهبة والثقة والعبقرية الإلهية، فإنها تظل مقامرة إلى أن تتم.
وهكذا راقبت الخرسانة على مقربة، أشرفت على بناء الفورمات، وعمليات الخلط والصب، ثم انتظرت بجوارها ليلةً كاملة حتى جفَّت، وفي الصباح التالي مزَّقت عنها الخيش لأرى النتيجة. كان كل شيء على ما يرام، ولم يكن هناك أساس لمخاوفي … والآن هل تدور البلاطة؟ هل تحتمل الخرسانة الثقل الذي قدَّرته لها؟ أكَّدت لي حساباتي أنه لا يوجد هناك شكٌّ، لكن ما هي الحسابات في نهاية الأمر؟ أليست سوى قياسات تعتمد على ذهن إنسان؟
لهذا يجب أن أُسرع من جديد بالخطوة التالية، وهكذا يسير الأمر. فعندما تكون خالقًا، فإنك لا تملك سوى ما فعلته فحسب، ولا يصل الفجوة التي تفصل بين ما تم عمله، وما يجري عمله، وما سوف يُعمل … سوى عذابك أنت نفسك … هل تفهمون؟ إن العضلة الذهنية في رأسك هي وحدها التي تلم بكل أطراف الأمر، التي ترى الشكل بالصورة التي سيكون عليها عندما ينتهي. فإذا ما فقدتُ رؤياه، أو توانيت، عندئذٍ يختفي الأمر كله، يتلاشى من الوجود، وقد لا يعود مرة أخرى أبدًا ولهذا ليس بوسعك أن تستريح أو تهدأ ثانيةً واحدة حتى ينتهي ويوجد بصورة كاملة مستقلًّا عن جهدك. ولا يمكن لشخصٍ عداك أن يرى ما لم تفعله بعد، وهذه مسئولية كبيرة. فلا بد وأن تنطلق خلف ذلك الهدف الذي لا يمكن لغيرك أن يراه، وليكن الله في عونك لو نسيت لأنك ستفقد الاتجاه على الفور وتندفع في عمًى وعلى غير هدًى نحو لا شيء، وعندئذٍ تفشل، ويضيع منك الأمر كله، ويتحوَّل عملك إلى عدم، وتصبح آمالك ضحِكًا، وينقلب كل مكرك عليك، ويمزقك الحقد إربًا؛ لأنك خُنت نفسك، خُنت الشيء الجميل الذي كنت تتقدم نحوه، ويضيع عملك، ولا يتبقى سوى سخطك.
لكن إذا كان هذا شيئًا يجب تجنُّبه، فهو أيضًا شرطٌ يخلق الطاقة التي تحتاجها لتُكافح العالم أجمع، ما دام هو بصورته الراهنة يُقاوم التغيير، وترغمه على أن يتقبل الجديد، ويحتويك في شكله الأكبر بحيث يصبح شيئًا جديدًا مختلفًا لم يكن هناك عندما بدأت. ذلك أن الطريق الوحيد للتغيير، هو أن يضيف المرء شيئًا جديدًا من صنْعه للأشياء بصورتها الراهنة. وهؤلاء الذين يظنون أنهم يستطيعون أن يغيِّروا شيئًا موجودًا بالفعل، مصيرهم إلى الفشل. أما أولئك الذين يصنعون شيئًا جديدًا يُحتم احتواء القديم؛ لأنه ببساطة أصبح موجودًا هو الآخر، فإنهم يغيِّرون كلَّ ما هو موجود. ومما يؤسف له أن هذه الحقيقة البسيطة من حقائق الطبيعة، والأساسية في الوقت نفسه، لا تدركها سوى قلة ضئيلة من الناس. إن شجرة البالوط النابتة لا تُطالب الغابة بأن تتغير على مثالها. فهي تنمو في هدوء معتمدة على نفسها في ظل شجرة أسفندان ضخمة ستحل محلها يومًا ما. فالتغيير لا يتأتَّى بالمطالبة وإنما بالإحلال، هذا هو أول قانون من قوانين الحياة. أما المطالبة فيجب أن تتركَّز كلُّها في الداخل، وإلا فإنها تتبدَّد ببساطة على الآذان الصماء الموجودة في الخارج. فإذا أردت للغابة من حولك أن تتغير، فلا بد وأن تضغط على نفسك، لتنمو أكبر وأسرع، مثل شجرة البلوط النابتة. الزمن هو عدوك، لا الغابة.
ظل الأسمنت يأتينا يومًا بعد يوم، ونحن في استقباله: ابني وأنا — مؤسسة روبي روي أوريللي وابنه. ووددنا لو كان بإمكاننا أن نصُب كل شيء على الفور؛ لأن هذا كان أرخص، وكنا نريد أن ننتهي قبل أن يبدأ سقوط الأمطار في أكتوبر. كان المكان كله في بياض الأحجار، أينما تطلعت، دون أخشاب أو سقوف تخفِّف من خشونة الأشكال، لكن هيكل البناء كان يطابق المنظر الطبيعي، كما لو أن يدًا هائلة قد وضعت، فجأة، رفوفًا من الصخر فوق الخضرة. لم تكن لدي رافعة، أو غيرها من الآلات الثقيلة، لم أكن أملك سوى خطة، وكان من الضروري أن تكون كاملة بحيث لا يبدو لدائني أن شيئًا ما ينقُصني. كان عليَّ أن أبتسم في ثقةٍ مؤكدًا أن كل شيء يتم (من اليد للفم) لأنني أريده هكذا، ولا أحتمل أي تدخُّل من «الآلات الكبيرة المزعجة بالإضافة إلى أنني لا أحتاج إليها»، أو على الأقل هذا ما ذكرته لأكبر الدائنين، مستر سليد، الذي جاء مع مواده ذات يوم ليرى كيف تسير الأمور.
فقد قال وهو يربِّت رأس ابني: «إنه لمساعد صغير عظيم … كل ما لديك.»
قلت: «إنه أكثر من ذلك، إنه مَن أسأل وقت الشدة، وهو لا يكذبني أبدًا.»
ابتسم مستر سليد، وقد ظنها نكتة.
قال ساخرًا: «يقولون لي إنك تفعل كل شيء بنفسك.»
قلت: «كلا، فلدي ابني هنا.»
قال: «أجل …» وبدأت ابتسامته تفقد بعض ثقتها. «لكن أين أعمالك؟»
قلت: «لست أحتاج إلى أحد. فكل ما يحتاجه المعماري حقًّا هو القليل من قوة البصيرة.»
«مَن الذي شَيَّد لك الفورمات؟»
قلت: «أنا بالطبع، بمعونة سائقيك الذين جلبوا الأخشاب.»
«ومَن ساعدك في الصب؟»
«لا أحد … فيما عدا سائقيك الذين جاءوا بالأسمنت.»
قهقه ضاحكًا: «يبدو أنني قدمت لك العمال أيضًا.»
قلت: «كلا، ليس الأمر كذلك. فلم يقضِ رجالك هنا في الموقع أكثرَ من الوقت الذي يقضونه في أي مكانٍ آخر يُفرغون فيه عرباتهم. الفارق الوحيد هو أني كنت مستعدًّا لهم عندما جاءوا وعينت لهم الأماكن التي يُفرغون فيها عرباتهم.»
قال: «حسنًا، أليست حيلة بارعة؟»
قلت: «كلا، على العكس … إنها حيلة فقيرة.»
قال وابتسامته تعود في ثقةٍ أكبر: «تقصد أنها تؤدي إلى إفقاري، هذا ما تقصده.» لقد ظن أني أجري وراء الملاليم، فبدأ يحترمني.
قلت: «حسنًا، لن تتأثَّر بشيء.»
وبأيدينا العارية، ومعونة ضئيلة للغاية، بنينا كلَّ بوصة من المنزل ذي الأجزاء الخمسة، طبقًا للخطة. وبدأ من الخارج مثلما وصفته من قبل تمامًا. كان أشبه بعجلة مركبة هائلة، غاصت بين الأشجار دون أن تتلفها، وحركتها الخفيفة تهدهد الموقع كله في رقة النسيم. لم يكن هناك صوت تقريبًا، على الأقل من جانب الأجزاء المتحركة في البناء، وبدا كأن المنازل تُحلِّق على مهل وتدور كأسطوانات يحملها النهر مع تياره. أعتقد أن الحركة، بسبب بُعدها الجديد، أكثر طوعًا للجمال، من الأجسام أو الفضاء. إن الحركة تخلق التكرار، وليس هناك من شيء، مهما كانت درجة قبحه، لا يكتسب بعض الجاذبية عندما يُكرَّر بنظام معيَّن. لكن عندما يستسلم شكلٌ ما للحركة — مخروطيًّا كان أو كرويًّا أو شِبه كروي — ويكرر نفسه بذلك، تراه يزداد جمالًا دقيقة بعد أخرى، وهو يدور ببطء في أشعة الشمس. بطيئًا، بطيئًا. يتغير كل لحظة، ولا تراه أبدًا على نفس الحال. ولا يتوقف لحظة. كانت التجربة تبعث فيَّ البهجة والعجب.
وعندما اقترب الخريف من نهايته، كنا قد شرعنا نعمل في الداخل، نضع الأرائك المبنية والموائد والمقاعد والفواصل وأوعية الثريا الضخمة. وانتهى العمل في «الكرة»، وجاء دور الأجهزة الأوتوماتيكية التي صُمِّم بعضها خصيصًا من أجلي، فجعلت العمال الذين جاءوا بها يقومون بتركيبها وقد انتهزوا الفرصة ليُبرزوا مواهبهم. وخلال شهر واحد — هو شهر نوفمبر — كان آلافٌ من الناس قد توقَّفوا ليتفرجوا، بل وظهرت بضع مقالات مصوَّرة في الصحف التي تصدر في المدينتين القريبتين. وفي إحدى المقالات أطلقوا على المبنى اسم «الهولاهوب»، وسمَّوه في الثانية ﺑ «الحلقة النحاسية». لكن الغالبية كانت تطلق عليه اسم «عجلة أوريللي»، وما كنت لأعبأ بذلك، رغم أن التسمية أزعجت ماري.
توقفت يدها التي تحمل فرشاة الطلاء وقالت عابسة: «لماذا أشعر بالقلق؟ حسنًا، لا أعتقد أن أحدًا يرغب في الحياة على حافلة عجلة مركبة، هذا هو كلُّ ما في الأمر. ماذا لو افترض الناس أنها تدور لمجرد أن هذا هو اسمها؟ أتذكَّر كيف انزعجتُ أنا عندما قلت لي إن منزلنا سيدور حسنًا، أعتقد أن آخرين سينزعجون بالمثل، وربما لن نستطيع أن نقنع أحدًا بأن يضع قدمه داخله عندما ينتهي بناؤه. هل سألَنا أحدٌ عن تكاليف البناء؟ كلَّا، لا أحد بين هؤلاء الأغبياء الجاحظي الأعين الذين يصطفون في سياراتهم على طول الطريق اهتمَّ بالسؤال عن الثَّمن. هكذا ترى يا روبي كيف أنهم أبعد ما يكونون عن فكرة الشراء، وهذا ما يجعلني أشعر بالقلق.»
سألتها في هدوء: «ماذا نسميها في رأيكِ إذن؟»
قالت مرتابة: «لا أعلم، لكنَّ اسمًا جميلًا مثل «المروج المتموجة»، أو «مزرعة العسل» أو «الأشجار العالية» … أوه … أي شيء عدا «عجلة العربة».»
قلت: «لكننا لم نَدعُها ﺑ «عجلة العربة» أبدًا … الناس هم الذين أطلقوا عليها هذا الاسم.»
قالت فجأة: «روبي … هل تعتقد حقًّا أنهم سيبتاعونها؟»
قلت: «بالطبع سيفعلون لماذا، إنها جميلة يا ماري، ألا تفهمين ذلك! كلُّ منزل منها يساوي خمسين ألفًا، ولسوف نتمكن من بيعها بنصف هذا المبلغ، ألا تفهمين؟ ٢٥ ألف دولار فقط.»
«أعرف يا روبي، لكن هل تظن حقًّا أن أحدًا سيشتريها؟ ألن يتكرر ما حدث من قبل؟»
قلت: «كلَّا بالطبع.» رغم أنه كان بوسعي أن أتذكَّر جيدًا كيف كنت واثقًا، كما هو شأني الآن، من تدفُّق الناس على جهودي الثلاثة الأولى.
انتهينا من التركيبات الداخلية، وكلها من الخشب والخرسانة، وكانت أعجوبة من المواد المختلفة. والخشب الطبيعي المصبوغ. ولا أستطيع أن أصف لك قدْر المتعة التي استمددناها من العمل فيها، بدقة بالغة، مُشكِّلين الأرائك بحيث تكون كل واحدة مختلفة عن الأخرى، جاعلين المساحة الداخلية لكل منزل في صورةٍ فريدة قائمة بذاتها.
أبوسعكم أن تتبينوا ماذا كان الأمر يعني لنا؟ أيمكنكم حقًّا أن تعرفوا؟ تصوروا ابنتي التي تبلغ من العمر عامين وقد وقفت بمفردها في مركز «منزل الكرة»، تقول: «ح … ل … و … ة … يا بابا ح … ل … و … ة … جدًّا.» إنها قلبي الذي يُجيب على كل الأسئلة بصوتها الصغير الرقيق، وإيمانها البريء بأن كل الأشياء يجب أن تُصنع «ح … ل … و … ة …» بقدر الإمكان، وأن كلَّ مَن لا يبذل كلَّ ما في وسعه (أو لا يستطيع) لا بد وأن يكون مجنونًا أُطلق سراحه ليفترس الأحلام البريئة للبشرية جمعاء. إنها الحلاوة ذاتها، ابنتي، التي تمتاز بخفة الروح، ولا تُشبه أيًّا من الأشياء الجميلة التي تنتمي في غالب الأمر إلى المستقبل، وتحبني وتحب كلَّ ما أفعل بسرور وإيمان بأني ساحر وعامل حالم في آنٍ واحد، أنجح في كل مهمة أضعها لنفسي، وأنتصر في كل حرب. خسارة واحدة كفيلة بأن تسحق هاتين العينين العسليتين الصغيرتين، ولهذا أرفض أن أخسر.
إنها لبهجة الإنسان أن يبدأ وحيدًا ثم يفوز بامرأة جميلة مُحبة، ذات ساقين طويلتين وابتسامة متوهجة ولسان سريع، ثم يكتشف بعد لذاتٍ متقطعة لكن عنيفة معها، إنه لم يَعُد واحدًا، بل أصبح ثلاثة، وأخيرًا أربعة. مَن بوسعه أن يوقف أربعةً من أسرة أوريللي يندفعون نحو المستقبل؟ لا أرى أحدًا. تنحَّوا عن طريقنا.