الفصل الأول
المقالات الأولى «النفسية والفلسفية» وعلاقتها بالرواية
العلاقة واضحة بين تلك المقالات المبكرة وما ناقشه في
رواياته فيما بعدُ طوال مسيرته الإبداعية الممتدة.
***
لم يكن نجيب محفوظ (١٩١١–٢٠٠٦م) غريبًا على دارسي
الفلسفة وعلم النفس والاجتماع؛ فقد كان الدارسون لتخصص الفلسفة في
الفترة التي درس فيها نجيب محفوظ الفلسفة بالجامعة المصرية
(١٩٣٠–١٩٣٤م) يدرسون إلى جانبها علم النفس والاجتماع والمنطق، وكثير من
تلك الأجيال تخصص في علم النفس والتحليل النفسي فيما بعد؛ مثل يوسف
مراد، ومصطفى زيور، ومصطفى سويف، ومصطفى صفوان وصلاح مخيمر، وحسن
الساعاتي، وغيرهم الكثير، بل كان بحق كما كان يقول فرج أحمد فرج؛ إنه
أستاذ لعلماء النفس والمحللين النفسيين أيضًا. ولقد كتب نجيب محفوظ
مبكرًا عددًا ضخمًا من المقالات الفلسفية والنفسية والنقدية خلال
الفترة من بداية الثلاثينيات من القرن العشرين، إلى ما بعد منتصفها،
وهي تسع عشرة دراسةً بالمجلة الجديدة، ودراسة واحدة بالمجلة الجديدة
الأسبوعية، وخمس دراسات بالسياسة الأسبوعية، وأربع دراسات بالجهاد،
وثلاث دراسات بالرسالة، ودراسة واحدة بالحديث؛ أي حوالي سبع وأربعين
دراسةً وفق إحصاء عبد المحسن طه بدر، وكانت المقالات الفلسفية
والسيكولوجية منها حول احتضار معتقدات، وتوالد معتقدات، والمرأة،
والوظائف العامة، والمجتمع الراقي، وتطور الفلسفة إلى ما قبل سقراط،
والفلسفة عند الفلاسفة، وماذا تعني
الفلسفة، وفلسفة الحب، والبراجمتزم، والفلسفة العملية، وفكرة النقد في
فلسفة كانط، والله، وفكرة الله في الفلسفة، والحواس والإدراك الحسي،
ونظريات العقل واللغة، وفلسفة برجسون، والضحك عند برجسون، وطبيعة الضحك
عند برجسون، وانتشار الصور المضحكة.
١ وثلاثة من أدبائنا، والحب والغريزة الجنسية، والسيكولوجية
واتجاهاتها وطرقها القديمة والحديثة، والحياة الحيوانية والسيكولوجية،
والشعور والفن والثقافة. ويشير رءوف سلامة موسى إلى أن نجيب محفوظ
تحوَّل عن الكتابة في الجديدة في أواخر الثلاثينيات من القرن العشرين،
وقد نشر سلامة موسى لمحفوظ مقالاته الفلسفية وكتابه التاريخي المترجم
«مصر القديمة»، وأول قصصه «ثمن الضعف»، وأول رواياته «عبث الأقدار»،
ربما بتأثير من عمله سكرتيرًا لوزير الأوقاف مصطفى عبد الرازق، الذي
كان أستاذًا له لمادة الفلسفة الإسلامية بالجامعة.
٢ فهو بهذا لم يكن غريبًا على علم النفس والاجتماع والتحليل
النفسي، لا دراسةً ولا اهتمامًا ولا إبداعًا، وكانت حياة نجيب محفوظ
الفكرية في شبابه الغض مرتبطةً أيضًا بتأثير اثنين من كبار المفكرين؛
هما سلامة موسى، ومصطفى عبد الرازق. حيث امتزاج الثقافة العربية
والإسلامية، والتنوير الإنساني، واحترام قيم العلم ومنجزاته، وحضارة
مصر وتاريخها الفرعوني. ولقد ناقش نجيب محفوظ ذلك المزج بين الدين
والعلم في روايته الأشهر «أولاد حارتنا»، ولعل هذا ما يفسر لنا نص
الخطاب الذي كتبه نجيب محفوظ لجائزة نوبل الذي قال فيه: «أنا ابن
حضارتين؛ الحضارة الفرعونية والعربية الإسلامية.» كما طالب فيه بحل
القضية الفلسطينية كونها قضية حق وعدالة إنسانية.
ومجموعة مقالاته حول الضحك وفلسفة الضحك والصور المضحكة عند برجسون،
كانت سابقةً لمحاولات الدراسة السيكولوجية للضحك وتأثيره على حياة
الإنسان. واعتبر إرنست كريس أن استجابة الضحك ترجع بالإنسان لعمليات
العودة أو النكوص الخاصة التي يقوم بها الضاحك إلى مناطق معينة من
النشاط النفسي، شبيهة بما كان يحدث خلال الطفولة من نشاطات وأفكار مرحة
ترتبط بالبهجة والمتعة والضحك، ولقد نظر فرويد للفكاهة باعتبارها
واحدةً من أرقى الإنجازات النفسية للإنسان، وتصدر عن آلية نفسية دفاعية
في مواجهة العالم الخارجي المهدد للذات، وتقوم على تحويل حالة الضيق أو
عدم الشعور بالمتعة، إلى حالة من الشعور الخاص بالمتعة واللذة. وقدَّم
فرويد في هذا الصدد كتابين؛ هما النكات وعلاقتها باللاشعور، والفكاهة.
ويؤثر الضحك في مواجهة الضغوط النفسية وتنشيط الجهاز المناعي، والحد من
آثار الشيخوخة، والتقليل من احتمالات الإصابة بالأزمات القلبية، وتحسين
الوضع النفسي والجسمي بوجه عام للإنسان؛ مما يجعله أكثر تفاؤلًا
وإقبالًا على العمل والحياة.
٣ ثم تمت ترجمة كتاب الضحك لبرجسون — لاحقًا على مقالات نجيب
محفوظ بسنوات طويلة — وهي في المضحك بعامة (مضحك الأشكال ومضحك الحركات
وقوة الامتداد في المضحك، ومضحك الظروف ومضحك الكلمات، ومضحك الطباع).
ويعد تصور برجسون من أهم التصورات في تفسير وفهم عملية الضحك، وعليه
سارت معظم الجهود التالية له.
٤ وقدَّم صلاح مخيمر دراسته وتحليله النفسي لسلوك الضحك في
الحياة العسكرية، وانتهى إلى أن المجتمع العسكري أغزر منبع يفيض بشتى
صور المضحك، فهو من هذه الوجهة دعوة متصلة لكل ملتحق وملحق أن يضحك،
كما أن الحياة العسكرية الدامية تيار فريد من العمل، يتصل حينًا فيتعب
ويجهد، ويتمهل حينًا فيمل ويسأم، ويتهدده الخطر دومًا فيخاف ويقلق. فهو
من هذه الوجهة دفع بكل محارب إلى طلب الضحك، ومعنى هذا أن المجتمع
العسكري باعث لا يطاوله على الضحك باعث، ومفتقر لا يدانيه إلى الضحك مفتقر.
٥ ونشر زكريا إبراهيم كتابه «سيكولوجية الفكاهة والضحك»،
٦ وقامت عزيزة السيد بدراسة العدوانية واستجابة الضحك من
خلال استخدام مجموعة من رسوم الكاريكاتير،
٧ وقدَّم سيد أحمد عثمان تحليلًا عميقًا للدعابة السياسية
لدى المصريين، وربطها بمكونات الشخصية القادرة على المواجهة والصمود
والنجاح، والإيجابية ودورها في زيادة المناعة النفسية الدافعة
للمقاومة، والتي لا تفرِّط في حق الشعب في الحرية. كما أن الفكاهة
السياسية لا تختلف عن الفكاهة في عمومها إلا في موضوعها المتصل بالسلطة
من بعيد أو من قريب، ويؤكد على أن الفكاهة السياسية لها العديد من
الوظائف؛ أهمها التفريج الانفعالي، واستشراف المستقبل، وتوجيه السلطة.
٨ واهتم شعبان عبد الصمد بمجال علم النفس السياسي عن طريق
فهم دلالة الفكاهة السياسية نفسيًّا، وأعدَّ في هذا الصدد دراسةً عن
الصورة الذهنية لإريل شارون رئيس وزراء إسرائيل المعروف بجرائمه التي
لا تُحصى ضد العرب، فتاريخه حافل بالدموية والعنصرية والصهيونية من
خلال تحليل بعض رسوم الكاريكاتير السياسي، على اعتبار أن للكاريكاتير
مضمونًا نفسيًّا واجتماعيًّا وسياسيًّا، وأنه لم يغِب عن تفاعلات النفس
وحركة المجتمع.
٩ وحديثًا قدَّم شاكر عبد الحميد كتابه الضخم عن «الفكاهة
والضحك»، جمع فيه كل ما يتصل بالضحك من تفسيرات ونظريات، ومجالاته
الأدبية والنفسية، والفنون التشكيلية، وأمراض الضحك وأساليب العلاج
النفسي به.
١٠
كما ظهرت آثار تلك الاهتمامات الفكرية المبكرة في أعمال نجيب محفوظ
الروائية فيما بعد، فمقالاته عن الحب والمرأة والجنس والوظائف العامة
المنشورة عام ١٩٣٠م بمجلة «الجديدة»، والتي ناقش فيها التغيرات
الاجتماعية والأسرية الناتجة عن تعليم المرأة وتوليها للوظائف العامة،
وتغير نظرتها للبيت والزواج نتيجة تعليمها وعملها ومركزها المالي الآخذ
في الظهور، واستقلالها المالي والكدر العائلي الذي قد ينتج عن ذلك،
واحتمالية الطلاق، وبطالة الرجال نتيجةً لزيادة فرص عمل المرأة
ومنافستها القوية للرجل؛ نجده قد تناولها في رواية «الحب فوق هضبة
الهرم»، وبعض موضوعات رواية «يوم قُتل الزعيم»، ونجده يقدم نظرية علم
النفس الحديث في تفسير الحب فيقول: «إن علم النفس الحديث يدرس الظاهرات
النفسية كالحب دراسةً علمية، والحب عنده ظاهرة من هذه الظاهرات، فهو
يفسره على أساس أنه ظاهرة ذاتية تتعلَّق بنفس المحب، لا بنفس المحبوب.
إننا نحب الشيء تباعًا لهوانَا من غير تدخُّل جدارة الشيء أو عدم
جدارته، فالحب وثبة نفسية ماهيتها أن تمتلك ما تظنه يشبع هواك، وصعوبة
التفسير للحب كان مردُّها دومًا لأن أمر النفس مبهم، رغم كل هذه البحوث
والتقدُّم في الرؤى حوله.»
١١ وهذا التصوُّر للحب ومناقشته هو ما جرى على لسان كمال في
الثلاثية وحبه لعايدة شدَّاد. وفي مقاله عن «نظريات العقل» وهي مسألة
المعرفة، وهي مبنية على هذا السؤال؛ هل تتلقَّى النفس العلم وهي لا
تملك من أمر تصريفه شيئًا، أم إنها قوة إيجابية لها ذاتيتها المبدعة
المستقلة عن التجربة؟ واستعرض فيه لمحاولات سقراط وأفلاطون وأرسطو حول
موضوع العلم، وهو الماهية أو ذات الشيء، واستنتج أن العقل عقلان؛ سلبي
وإيجابي، وعرض للفلسفة الرواقية والأبيقورية والفلسفة الحديثة عند
ديكارت، وجون لوك، وليبنتز، ودافيد هيوم، وكانط، وسبنسر، ودوركايم،
ووليم جيمس، وخلص إلى مشكلة فهم العقل ودوره في المعرفة، سواء بالتجربة
ودور المجتمع،
١٢ وقضية المعرفة ودور العقل فيها تلك نجدها موجودةً في
روايات «الطريق»، وبحث صابر الرحيمي عن الأب الرمزي (القانون)،
و«الشحاذ»، وبحث عمر الحمزاوي عن السعادة وكذلك الحال في «السراب»،
وبحث كامل رؤبة لاظ عن كماله المنقوص بسبب أمه وتعلُّقها به، الذي كانت
نواته الأولى في فكر نجيب محفوظ عندما كتب يفسر واقع أخناتون التاريخي،
انطلاقًا من علاقته بأمه الملكة «تي» في رواية «العائش في الحقيقة»؛
فقد أسقطت الأم رغباتها على ولدها الضعيف، ومن قبل تلك كانت ترجمة نجيب
محفوظ لكتاب «مصر القديمة»؛
١٣ ولهذا كان غرام نجيب محفوظ بتاريخ مصر القديمة قد تجلَّى
في أعماله التاريخية «رادوبيس، وعبث الأقدار، وكفاح طيبة».
ومن الروايات التي انشغلت بالبحث عن الإيمان والقيم الروحية رواية
«رحلة ابن فطومة»، التي يتجلَّى فيها بحث نجيب محفوظ عن الإيمان وراحة
الإنسان، وتأثَّر فيها بمقالات كتبها في البداية بعنوان «الله».
١٤ ويؤكد هذا الانشغال فيقول نجيب محفوظ في مقاله عن مفهوم
البراجماتيزم: «المادية تمحو الروحية والضمير الإنساني، ولكنها لا تفسر
لماذا نجد أنفسنا مع هذا الضمير في عالم غير عالم الموجودات، هو عالم
المُثُل والقيم. جميع هذه المسائل هي أوهام لا أساس لها، نشأت من
اعتبار الفكر غايةً في نفسه، ومن اعتباره تأملًا. والحق أن الفكر وظيفة تجريبية.»
١٥
وهناك الكثير من شخصيات أبطاله تتحدَّث بأسماء الفلاسفة وتستشهد
بأقوالهم داخل الروايات أمثال؛ برجسون وشبنهور، إلخ. فكما أشار حسن
حنفي بقوله: «كان كمال يقرأ «منبعا الأخلاق والدين».» لما فيه من نزعة
رومانسية صوفية، ويلوذ كمال من الوحشة بوحدة الوجود عند اسبينوزا، أو
يتعزَّى عن هوان شأنه بالمشاركة في الانتصار على الرغبة مع شبنهور، أو
يهوِّن من إحساسه بتعاسة عائشة بجرعة من فلسفة ليبنتز في تفسير الشر،
أو يروي قلبه المتعطش إلى الحب من شاعرية برجسون. ويقول الشاب أحمد
كمال عن خاله «كمال»: «معذرة، إنه من الكُتَّاب الذين يهيمون في تيه
الميتافيزيقا.» وترد سوسن: «إنه يكتب كثيرًا عن الحقائق القديمة؛ الروح
والمطلق ونظرية المعرفة.» هذا جميل، ولكنه فيما عدا المتعة الذهنية
والترف الفكري لا يُفضي إلى غاية. ينبغي أن تكون الكتابة وسيلةً محددة
الهدف، وأن يكون هدفها الأخير تطوير هذا العالم والصعود في سُلَّم
الترقي والتحرر والإنسانية في معركة متواصلة. والكاتب الخليق بهذا
الاسم حقًّا يجب أن يكون على رأس المجاهدين، أما وثبة الحياة فندعها
لبرجسون (رواية السكرية)، وتستمر نفس الروح الشاعرية لبرجسون عند
إبراهيم عقل في رواية «المرايا» الذي يقول: «أقرأ كتاب برجسون عن أصل
الأخلاق والدين، ويقول الدكتور سالم باستهتار: إني أقرأ برجسون كما
أقرأ قصيدة حالم.»
١٦ ويشير عيسى الشيخ حسن بإجمال إلى فلسفة نجيب محفوظ بقوله:
«في ذات الوقت كانت فلسفة نجيب محفوظ تنحفر في الذهن، فلسفة الحياة
الواقعية التي تنحاز إلى شروطها القاسية، ولا تنتصر لرغباتنا الفظة في
أن ننقذ أبطالنا من مصائرهم الصعبة، إلى الحدِّ الذي تتهم فيه الكاتب
بضرب من العدمية تجاه أبطاله الذين يقضون أمامه دون أن يمدَّ يديه
إليهم. ذلك أن محفوظًا «الرائي» يدرك لعبة الواقع الماكرة؛ فيكتفي بحمل
الكاميرا ويصور من بعيد، من زوايا مختلفة تحاول عبثًا أن تبعدنا عن
أبطالنا الذين يختنقون بين طيات الورق الأصفر الفقير. كان عليَّ أن
أعاتب محفوظًا قبل أن يرحل وأنا أشارك سعيد مهران نقمته الحادة على
ضياع الثورة التي أكلت أبناءها، كان عليَّ أن أشارك أولاد حارته البحث
عن المطلق في العدل، وأشارك حرافيشه محنة تقلُّب الأمر بين تيارات عدة،
تنتفض في البدء ثائرةً على الظلم الذي سُرعان ما يعود، وكأنه لا نهاية
لهذا الشقاء الإنساني الطويل. وكان عليَّ أن أعيش معه في أحلام فترة
النقاهة، وإن كنت أعرف أن محفوظًا — من دون تحفُّظ — هدية مصر والعرب
إلى العالم في القرن العشرين عمومًا، وأن «جائزة نوبل» وإن جاءته على
طبق السياسة المريب، فإنها استعادت هيبتها في ثمانينيات القرن الماضي
بدعوتها روائيًّا مثل نجيب محفوظ، وشاعرًا مثل المكسيكي أوكتافيو باث
إلى قائمتها، بعد أن فقدت بهاءها وهي تتنقَّل بفعل السياسة من أديب
مغمور إلى أديب مغمور.»
١٧
كما اعتمد نجيب محفوظ في كثير من رواياته على التراث والأسطورة، سواء
الفرعونية أو اليونانية؛ ففي روايته «كفاح طيبة» استوحى أسطورة الإله
«ست» الذي قتل أخاه أوزيريس حسدًا وظلمًا، وقطَّع جسده ونثره في أقاليم
مصر، ثم جاء الإله «حورس بن أوزيريس» وخاض صراعًا مع عمه. وفي رواية
«ليالي ألف ليلة وليلة» نجد العالم الخرافي والصراع الأسطوري بين
الإنسان والكائنات الخرافية والأشباح والعفاريت واضحًا؛ فنجد السندباد
ينتصر على طائر الرخ الأسطوري ويستغله لمصلحته.
١٨ وحول الأسطورة في رواية «الطريق» تقول هالة فؤاد: «بسيمة
أمُّ صابر هي إيزيس، المردِّدة: «أنا ما كان، وما هو كائن، وما سيكون.»
الأم التي لا تترك للأب مجالًا لكي يحدَّ من سلطتها.»
١٩ ويذهب عبد الله عسكر في تحليله لشخصية صابر إلى أنه حدث
تصادُم مع قانون الأب الرمزي، ويؤدي هذا التصادم إلى اهتزاز وضع الأم
بالنسبة للطفل، وبالتالي يهتز وضع الطفل بالنسبة للأب أو القانون.
٢٠
وفي رواية «رادوبيس» وعشق الملك الشاب لها وموتهما في نهاية الرواية
يحقق أبعادة أسطورة نرجس. وفي أحد الأيام أرسل نرجس سيفًا إلى شخص
يُدعى أمينوس، أحد معجبيه وأكثرهم إلحاحًا، وقتل أمينوس نفسه على عتبة
نرجس داعيًا الآلهة أن ينتقموا منه، وسمعت الدعاء الآلهة فدعت أن يقع
نرجس في الحب، فآثر في يوم من الأيام الذهاب إلى منطقة يُطلق عليها
«دوناكون» في إقليم ميساثيبا عند نبع ماء صافٍ، ولم يكن قد عكرته
الأغنام ولم تكن الطيور قد شربت منه، وعندما انثنى نرجس ليشرب وقع في
حب الصورة المنعكسة في الماء، وسُرعان ما تعرَّف على نفسه فظل يحملق
مفتونًا بالصورة الموجودة في النبع، وأخذ يتساءل؛ كيف يمكنه احتمال أن
يمتلك وفي نفس الوقت لا يمتلك؟ وهدَّه الحزن ومع ذلك كان سعيدًا وفرحًا
في عذابه، عالمًا — على الأقل — أن نفسه الأخرى سوف تبقى مخلصةً له
مهما حدث. أما عن إكو، فبالرغم مما أصابها فإنها اشتركت معه في حزنه،
وكانت تردِّد ما يقوله نرجس وخاصةً في آخر حياته، عندما أخذ يردِّد:
«خلاص، انتهى.» عندما كان يغمد خنجره في صدره، وأيضًا آخر «آه» نطق بها
نرجس هي قوله: «آه أيها الشقي المحبوب دون جدوى، وداعًا.» وفي الأسطورة
نلاحظ أن نرجس عشق ذاته، ومن ثم كانت عُزلته لأن الإدراك النرجسي
للآخرين لا يخرج المدرك من عزلته، فما الآخر بالنسبة إليه إلا شبيه
صورة كصورة المرآة أو كرجع الصدى، وهكذا تتحقق في التركيب النرجسي
للعلاقة بالغير المعاني الثلاثة المتضمنة في الأسطورة؛ معنى العزلة،
ومعنى الحب، ومعنى الموت. «نرجس يعشق صورته ولكنه يمقتها لأنها
«تشبهه»، وهي — إذن — ليست إياه، أو هو ليس إياها»، فهو أخذ يجري وراء
صورته، مع ما يصاحب هذا الجري من توتُّر خاص مذكِّر الذات والغير على
السواء بالحب الذي لا ارتواء له والعداوة القاتلة.
٢١
وعند صياغته لملحمة الحرافيش حيث سعى الإنسان إلى الخلود، مزج نجيب
محفوظ بين الأسطورة والتاريخ والرغبة في الخلود. ولعل اعتماد نجيب
محفوظ على الأسطورة يعود إلى دراسته الفلسفية كما قلنا، والتي صاغته
صياغةً عقليةً ونفسيةً من طراز خاص، وشكَّلت رؤيته للعالم بكل عمقها
وشمولها، وبكل توجهاتها في البحث عن الجوهر الذي لا تحجبه الأعراض ولا
الهوامش؛ فقدم إسقاطًا لا شعوريًّا لذاته ومصيره في شخصية عاشور
الناجي، فهو نفسه — نجيب محفوظ — لم يُدرك ذلك الاستبصار، حيث إنه
يقول: «أنا موجود بقوة في رواياتي «قشتمر»؛ فأنا الذي أتكلَّم وأروي،
وهناك أجزاء من هذه السيرة في المرايا والثلاثية وصباح الورد.» وقد
اعترف بشكل محدَّد «أنا كمال عبد الجواد في الثلاثية.»
٢٢ والتحليل النفسي لآخر ما كتب نجيب محفوظ وهو «أحلام فترة
النقاهة» الذي وبلا أدنى شك يُعَد عمله المعجز، ويُعَد آخر أشكال السرد
في الأجناس الأدبية بعد المقامة والرواية والقصة، ومن ثم كانت العناية
بتقديم التحليل النفسي لهذه الأحلام التي كشفت عن البناء النفسي لنجيب
محفوظ، وهناك بُعْد آخر من أبعاد إبداع نجيب محفوظ الخارق، وتحليل
أبعاد الاستبصار بالمستقبل وبخاصة بعض المشكلات المجتمعية التي تنبأ
بها نجيب محفوظ خلال تلك الأحلام، كون ذلك التنبُّؤِ هو آية المبدع
الحق؛ إذ الإبداع في أعمق جوانبه هو قوة إلهامية بقدر ما هو قدرة على
التنظيم والدقة ومواصلة الاتجاه وتوجيه الأداء … إلخ.
٢٣
وكان لذلك التكوين العلمي والفلسفي والتاريخي قوة في صياغة محفوظ
لأحلامه باستخدامه للعجائبي والأسطوري وربطه بالمشكلات الواقعية،
فالأحلام الأخيرة للكاتب الكبير المبدع الراحل نجيب محفوظ، والتي تعد
استكمالًا لكتاب أحلام فترة النقاهة، حيث يحتوي على أحلام لم تُنشر من
قبل؛ فالأحلام هي الخلاصة، اللب والجوهر، القرب والبعد، والعمق وقمم
الارتفاع، الجهات الأربع في قلب بوصلة الحكي، حصاد العمر في سطور
تلغرافية. فنجيب محفوظ الذي يرى ما لا نراه بالحس والاستشعار والموهبة،
ومحفوظ الكاتب القارئ لكف الأدب الذي أدرك السر لأدب الدخول في قرن
جديد؛ أزرار السرعة، الإيجاز في قالب حلم، العمر في جملة والعصر في سطر
والسنة في كلمة، والطريق بأدق تفاصيله ومنحنياته وآلامه وأوجاعه
وأوهامه يسرده محفوظ في بلاغة فائقة، وقد ضَمَّن محفوظ أحلامه في مؤلفه
هذا مفاهيم العدالة الاجتماعية وثنائية الشعب والسلطة.
٢٤
وفي رواية اللص والكلاب مزج بين الأسطورة الأوديبية والحادثة
المجتمعية في الإسكندرية؛ حيث أراد ابتكار «أوديب» على النمط المصري،
وقد تجلَّى ذلك في شخصية سعيد مهران بطل رواية اللص والكلاب، مستفيدًا
من التراث الأسطوري الذي اعتمد عليه نجيب محفوظ في رواياته الرمزية
والتاريخية، بالإضافة لأسطورة الملك أوديب لسوفوكليس.
٢٥ وترى لطيفة الزيات القائل «بأن سعيد مهران في اللص والكلاب
شأنه شأن فرعون رادوبيس، شخصية مرسومة من منظور هيجلي للشخصية
التراجيدية، شخصية تُملَى عليها خاصيتها النمطية؛ التطرُّف والسير إلى
آخر الطريق المر، ولا تملك سوى أن تفعل.»
٢٦ فنجيب محفوظ تمثَّل الشخصية الأسطورية «أوديب» عند كتابة
روايته، ويرى ممدوح النابي «أن سعيد مهران بطل حاول تطبيق أفكاره في
المجتمع المعاند له»، وهو يعتبِر الرواية صراعًا بين الإنسان صاحب
المبادئ مع الثورة (١٩٥٢م) والتي سرقها البعض واستبدَّ باسمها.
٢٧
وفي رواية «بداية ونهاية» كانت محاولة نجيب محفوظ في فهم البناء
النفسي لدى البغايا كما ظهر لدى نفيسة بطلة الرواية، وكيف سبق نجيب
محفوظ كل البحوث النفسية والتحليلية التي درست هذه الظاهرة، وهو ما
يُعَد أحد جوانب عبقريته. وفي إجابة نجيب محفوظ على السؤال التالي: «من
يحلل أعمالك الروائية البارزة برؤية نقدية جدلية، كبداية ونهاية، واللص
والكلاب، وثرثرة فوق النيل، وميرامار، وليالي ألف ليلة وليلة؛ يَجِد
أنها تحمل في مضمونها وأحداثها ورموزها أحداثًا وقعت في مصر بعد أن
كُتبت الرواية، وكأنها النبوءة مثل «بداية ونهاية» ينتحر الضابط حسنين
الذي قاده طموحه لتغيير واقع الأسرة بطريقة فردية إلى مأساة.» يرد نجيب
محفوظ قائلًا: «الغريب أني كتبت رواية «بداية ونهاية» سنة ١٩٤٦-١٩٤٧م
ونشرتها عام ١٩٤٨م، وبعد الثورة كنت أجلس مع الناقد أحمد عباس صالح
وكان يحللها نقديًّا لي، وكانت في تحليله كأنها نبوءة بما حدث، وأنا
أصغيت إليه وظللت أقارن بين ما يحدث؛ فحصل لي ذهول للتطابق، ولكن أثناء
كتابتها قبل الثورة ما دار شيء من هذا في ذهني، ولو تسألني الآن لماذا
اخترت أن تدور أحداث الرواية حول ضابط خريج الكلية الحربية، أستطيع أن
أجيب. والأمر الذي لا شك فيه أني كتبت الرواية ولم أكن أشعر بأي درجة
أني أتنبأ عن المستقبل، ولذلك فأنا أستغرب بأن الأعمال التي تنتهي
بتنبؤات كيف يُبدعها صاحبها، هذا يقتضي التأمل. ولْنفرض أننا نفسرها
بلا شعور الكاتب؛ فكيف يوحي له شعوره كل هذه الرؤى بينما عقله الواعي
قد فوجئ مفاجأةً كاملةً بحركة الجيش يوم أن قامت، وكان في شِلَّتنا في
قهوة عرابي بالعباسية عدد من الضباط الأحرار لم يقولوا لنا شيئًا، ولم
أكن أتصوَّر أن الجيش ممكن يتحرك مع وجود الاحتلال الإنجليزي. فالحقيقة
أنا لا أستطيع أن أدَّعي أن النبوءة جاءت بتخطيط، ولكن المذهل فيها هو
تطابقها مع الذي حصل.»
٢٨
وبهذا فقد كتب نجيب محفوظ روايةً نفسيةً عبَّر فيها عن أن صورة الجسد
واضطراب الموقف الأوديبي كانا من أهم دوافع ممارسة البغاء، كما أن
ظاهرة البغاء ترتبط وتنشأ نتيجةً لتضافر وتفاعل عدة عوامل؛ من أهمها
اضطراب الحياة الأسرية، فالبغي تنشأ في أسرة متصدِّعة مضطربة وغير
مستقرة، تسودها الخلافات المستمرة. وإن نجيب محفوظ قد سبق المحلِّلين
النفسيين ودراساتهم في إبراز تلك الدوافع الكامنة والعوامل الأسرية خلف
البغاء، ليُعَدَّ بذلك مبدعًا صاحب رؤية عميقة واستبصار قوي لما يجيش
به صدر الإنسان، وبخاصة البغي ممثلةً في نفيسة، البنت التي تنتمي
للطبقة المتوسطة، وأزمتها الجنسية، ليكون وبحق على نفس القمة التي يقف
عليها سوفوكليس وشكسبير وديستوفسكي، أبرز من قدَّموا رؤًى نفسيةً في أعمالهم.
٢٩
ومن خلال قراءة تلك الأعمال المبكرة لنجيب محفوظ يمكن التأكيد على
أهمية الفلسفة وعلم النفس في حياتنا بوجه عام، ولدى الأدباء والفنانين
بوجه خاص، ومن ثم كانت العلاقة واضحةً بين تلك المقالات وما ناقشه في
رواياته فيما بعدُ طوال مسيرته الإبداعية الممتدة منذ ١٩٣٠م إلى ٢٠٠٦م،
وظهر بوضوح أن نجيب محفوظ نسج البناء النفسي المتفرِّد لأبطال رواياته
نتيجة تعمُّقه في دراسة وفهم الإنسان، والاهتمام بمصيره من خلال معرفة
تامة بعلم النفس والتحليل النفسي، والفلسفة والتاريخ والأسطورة.