الجسد والبغاء والموت في «بداية ونهاية»
***
(١) مبتدأ
ومن هنا نرى أن «بداية» هي بداية انحراف نفيسة واتجاهها لممارسة البغاء، وكان بعد موت الأب، وكانت «نهاية» مع نهايتها وموتها منتحرة، ومن ثم فإننا نذهب إلى أن الرواية هي رواية نفيسة، وليست رواية أسرة مصرية، وأن البداية والنهاية مرتبطتان بنفيسة؛ حيث بداية ممارسة البغاء ونهاية حياتها بالانتحار، وهذا ما سنحاول الوقوف عنده في هذه الدراسة التي تُعنى بتقديم التحليل النفسي لشخصية نفيسة بطلة الرواية؛ لنوضح كيف أن انحرافها لم يكن بدافع الظروف الاقتصادية والفقر المادي كما قال بذلك كل الذين كتبوا عن الرواية، بل كان بسبب دوافع «نفسية» ومؤثرات ترتبط بالطفولة والنشأة والترتيب الميلادي داخل الأسرة، وصورة الجسد لدى نفيسة وموقفها من الأب، ولعل هذا ما يجعلنا نذهب إلى أن نجيب محفوظ يقدم روايةً «نفسية»، حيث تبيَّن أن البغاء يعود لعوامل نفسية.
في هذه الرواية تظهر شخصية نفيسة كما صوَّرها نجيب محفوظ في روايته بداية ونهاية، بحيث تتجلَّى فيها المشكلات الاقتصادية والاجتماعية التي عاشتها الطبقة المتوسطة خلال الحربين العالميتين، وانتقاد نجيب محفوظ لضباط الجيش وخاصةً بعد هزيمة الجيش في حرب عام ١٩٤٨م على أرض فلسطين؛ حيث إن صدور الرواية في طبعتها الأولى كان عام ١٩٤٩م، ومفهوم صورة الجسد والموقف الأوديبي وعلاقته بشخصية البغي.
(٢) تعقيب على الدراسات السابقة
ومن خلال استعراض نتائج الدراسات السابقة من وجهة النظر النفستحليلية، يتضح تمركزها حول صورة الجسد والموقف الأوديبي للبغي، وذلك منذ الخمسينيات من القرن العشرين، حتى أحدث تلك البحوث وهي لإيناس الشربيني التي أضافت بُعدين مهمَّين في العلاقة البغائية؛ وهما العميل والقواد، وهذا ما جعل دراستها تبحر في إضافة جديدة لم يقل بها نجيب محفوظ.
(٣) سيكولوجية الجنس
وقبل الحديث عن البغاء باعتباره انحرافًا جنسيًّا لا بد أن نذكر أن فرويد قسَّم الغرائز إلى مجموعتين رئيسيتين هما:
(٤) مجموعة إيروس Eros
(٥) مجموعة ثاناتوس Thanatos
ومعناها غريزة الموت، وتهدف هذه الغريزة إلى معارضة مجموعة الحياة، وتدفع هذه الغريزة إلى التدمير والعدوان والحرب، وتوجِّه كل ما هو حيٌّ إلى حالته الماضية غير العضوية. ويقرر فرويد بأن الإنسان من خلال تصرفاته اللاشعورية يُظهر أمنيةً لا شعوريةً للموت وإيذاء نفسه والآخرين، ومن وجهة النظر الفرويدية فإن دوافع العدوان والجنس عبارة عن محددات قوية جدًّا للإجابة على السؤال الجدلي: لماذا يتصرَّف الإنسان هكذا أو بتلك الطريقة؟
الانحراف الجنسي
والانحراف في الدفعة الجنسية قد يسلك أحد اتجاهين؛ فقد يتجه هذا الانحراف في الدفعة إلى الطرف الإدراكي من الجهاز النفسي، فيكوِّن العصاب أو الذهان، وقد يتجه إلى الطرف الحركي فيكوِّن الانحرافات الجنسية وبعض الأفعال المرضية.
- (١)
انحراف عن الموضوع الجنسي، وأوضح فيه الارتكاس، وغير الناضجين جنسيًّا والحيوانات باعتبارها موضوعات جنسية.
- (٢)
انحراف عن الهدف الجنسي، ويقصد به الإنسال، وأوضح فيه الامتدادات التشريحية والتثبيت على الأهداف الجنسية التمهيدية.
وإذا ما كان الهدف الجنسي كما حدَّده فرويد هو اتحاد الأعضاء التناسلية بغرض فك أسر التوتر الجنسي، إلا أنه — وبنظرة أعمق — رغم أنه علاقة بين رجل وامرأة مما قد يشير إلى علاقة بموضوع غيري، إلا أنه موضوع مؤقت ومتعدد ويمثل انحرافًا في السلوك بقدر ما هو انحراف عن هدف الدفعة الجنسية. فالفعل الجنسي لا يهدف فقط إلى فك أسر التوتر الجنسي، بل أيضًا — والأهم — إلى استمرار الحياة، وتكوين وحدات أرقى؛ كي تخدم دفعة الحياة، أو إن صح القول هي سبيلها. وهذه الفكرة — من زاوية الانحراف عن الهدف الجنسي — غير واردة في الفعل البغائي.
- أولًا: أنه يختار امرأةً ناقصة، امرأة تمثل جسدًا فقط دون وجدان.
- ثانيًا: يختار امرأةً لا تختاره ولا يعاشرها جنسيًّا هو وحده فحسب.
- ثالثًا: لا يقصر نشاطه الجنسي عليها وحدها.
فكأن البغاء في جوهره هو انحراف عن الموضوع، وإن كانت نقطة التقائه بالسواء هي أن العميل كرجل يختار امرأة، لكنه كما سبقت الإشارة ليست له وحده، كما أن العميل ليس وقفًا عليها.
(٦) نظرة تاريخية للبغاء
في حقيقة الأمر لا بد أن نعترف أن البغاء حرفة لم يخلُ منها مجتمع في كل العصور، حتى في ظل وجود الأنبياء، ولم يكن تحريمها إلا دليلًا على وجوده، فكانت البغايا في شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام يسمَّين «أصحاب الرايات الحمر»، وينتشرن في أسواق مكة في موسم الحج. ورغم تحريم الشريعة الإسلامية للبغاء فقد استمر وجود بيوت البغاء في بغداد في عصر العباسيين، وكانت تسمى «الكشخانة»، وكان يديرها الرجال والنساء وتقدم الخمور أيضًا. ويذكر «المقريزي» في «المواعظ والاعتبار» أحوال سوق البغاء في مصر خلال العصر الفاطمي، فيقول إنه كان يشهد مواسم ازدهار ورواج، ومواسم قحط وضمور، وكان المغنون والفاسقات يجتمعون تحت قصر اللؤلؤة بحيث يشاهدهم الخليفة، ليتظلَّموا من الضرائب الباهظة التي كانت تُفرض عليهم، والتي تم تقليلها في عصر صلاح الدين الأيوبي. ولمَّا وَلِي الملك العزيز عثمان بن صلاح الدين زاد الضرائب مرةً أخرى، وضم إليها الضرائب على الحشيش.
أما السلطان المملوكي الناصر محمد بن قلاوون فقد أبطل الضرائب على الأمور المحرمة، وفي عهد السلطان برقوق اعتُرف بالبغاء وفُرضت الضرائب على البغايا، وكانت حارة الروم هي مكان تمركزهن، وكانت تُجمع الضرائب تحت مسمى «ضمان المغاني»، والمرأة التي كانت تقوم بجمعها تسمى «ضامنة المغاني»، وكانت الضامنة تتعهَّد بدفع مبلغ مُعيَّن للدولة تجمعه من المغاني مقابل حمايتهن من الدولة. ويقول ابن إياس: لو خرجت امرأة من نساء القاهرة تقصد البغاء، ونزل اسمها عند ضامنة المغاني، ودفعت ضريبة البغاء؛ لمَا قدر الحاكم منعها من ارتكاب الفاحشة. ولم يقتصر الأمر على القاهرة فحسب، بل امتد للريف أيضًا؛ ومثال هذا ما كان يحدث بدمياط التي كثرت بها بيوت الدعارة وكانت تسمى ﺑ «المواقف»، ونجد في سجلات المحاكم الشرعية أن بعض البغايا كن متزوجات من أزواج ارتضوا اشتغال زوجاتهم بهذه المهنة، وبعضهم كانوا يساعدونهن عليها. وهناك الهاربات من الآباء المتسلِّطين، والمطلقات. وامتد البغاء شمالًا تجاه الإسكندرية، وجنوبًا نحو طهطا وجرجا والمنيا وأسيوط.
وفي القرن السابع عشر جرى أول تسجيل للبغايا في مقر «الصوباشي» أو رئيس الشرطة، وكان تحت سلطته أربعون رجلًا يُعرفون ﺑ «جاويشية باب اللوق»، مهمتهم حصر الصبية والنسوة الذين لم يناموا في بيوتهم.
وعندما جاءت الحملة الفرنسية إلى مصر أصبح البغاء منظمًا إلى حد ما، فعلى مدى قرون كانت محلات البغاء تقام بالقاهرة بشكل عشوائي وفي بيوت عادية، ولكن مع مجيء الحملة الفرنسية حاولت تنظيمها وتمييزها وعزلها عن بيوت الناس. ولقد قسمت الحملة القاهرة في ثمانية أخطاط أو أحياء؛ هي الموسكي، والأزبكية، وباب الشعرية، والجمالية، والدرب الأحمر، وعابدين، والسيدة زينب، ومصر القديمة. وخصصت منطقة «غيط النوبي» القريبة من شارع الموسكي للبغاء، وأنشأت فيها بيوتًا مخصوصةً له. وقد جلب الفرنسيون معهم ٣٠٠ امرأة للتنفيس عنهم، وكان ذلك أول بند في قائمة الطلبات التي أرسلها بونابرت إلى فرنسا «١٠٠ بغي فرنسية لحفظ معنويات الجنود». ولمَّا لم يكن هذا العدد كافيًا فقد لجأ الفرنسيون للمصريات، وألبسوا البغايا ملابس مميزة، وسمحوا في بيوت الدعارة بالخمر والغناء والموسيقى، وجعلوا دخولها بتذكرة لا يُعفى منها إلا من يحمل تصريحًا مجانيًّا من السلطات الفرنسية، وأمر الفرنسيون كل بغي أن تضع على واجهة محلِّها مصباحًا، وأن تكتب السعر الذي تحدِّده لزبائنها، ولكن المصريات كن قبيحات رخيصات غير مغريات على حد تعبير المستشرق كريستوفر هيرولد، وقد أصابوا الجنود بأمراض كثيرة؛ مما دعا بونابرت إلى قطع رءوس ٤٠٠ من البغايا المصريات أُلقين في النيل.
ولم يختفِ البغاء في مصر بخروج الفرنسيين، فبقدوم الإنجليز تم تشجيع البغاء للترويح عن جنودهم، ولمَّا كان مقر تمركز المحتل الإنجليزي في الإسكندرية، فقد شهدت هذه المدينة رواج هذه الحرفة، التي ظلت تحظى باعتراف الحكومة، كما انتشروا في أحياء كثيرة من القاهرة، لم ينجُ منها حتى حي الأزهر. وقد دخل البغاء بعد ذلك مرحلةً جديدة، وهي مرحلة كانت خطوةً أولى في تحريمه، فوُضعت الضوابط المختلفة على ممارسيه؛ كالكشف الطبي الدوري في مستشفى «الحوض المرصود»، إلى أن تم إغلاق بيوت البغاء ١٩٤٩م، وتحوَّل البغاء إلى جريمة يعاقب عليها القانون، وإن لم تنتهِ الظاهرة، بل نظنها أصبحت أكثر استشراءً.
أمَّا عن الحياة الاجتماعية للبغي في ذلك الوقت، فإن أدبيات الموضوع تشير إلى أننا نجد أن البغي كانت تعيش في غابة يحكمها «القواد» «والبدرونة» «والبرمجي»، وعلى الرغم من ذلك فإن هذه الغابة يتألَّف بناؤها الاجتماعي من سلَّم هرمي تقبع في أسفله البغايا، ويأتي بعدهن البدرونات؛ وهن مديرات البيوت المرخص لهن بالدعارة. والبدرونة كلمة إيطالية تعني سيدةً صاحبة رئاسة، أو مالكة، كما تعني قائد سفينة، وقائد موسيقى الشوارع. فإن مقابلها في بيوت البغاء الوطنية؛ العايقة، والتي تسمَّى في عصرنا الحالي بالقوادة وهي عادةً تكون من البغايا اللاتي كبرن وبار سوقهن، ولم يعُدن مرغوبات أو يطلبهن أحد؛ فتتجه إلى المتاجرة بأعراض النساء الصغيرات معتمدةً على خبرتها السابقة. وهكذا تتولَّى البدرونة في بيوت البغاء الأوروبية توزيع العمل وتنظيمه، وتَلَقي الأموال ودفع أجور الخدم والبلطجية، ومواجهة التعقيدات الأمنية، وهي تقريبًا نفس مهام العايقة.
فقد كانت وقتها حكومة رئيس الوزراء إبراهيم عبد الهادي، وكان قد حل جماعة الإخوان المسلمين بعد مقتل محمود فهمي النقراشي رئيس الوزراء ورئيس الحزب السعدي على يد أحد أعضاء هذه الجماعة، وتتالت الأحداث لمقتل حسن البنا مرشد الجماعة؛ مما دفع الحكومة آنذاك لمحاولة كسب تأييد شعبي كان يطالب بإلغاء دُور البغاء وسن قانون يجرِّمه.
وبعدها بعامين فقط صدر القانون ٦٨ لسنة ١٩٥١م الخاص بمكافحة الدعارة، ثم القانون ١٠ لسنة ١٩٦١م لمكافحة الدعارة والمعمول به حتى الآن.
لكن الظاهرة لمَّا تزل قائمة، بل ونظن أنه قد زاد استشراؤها رغم قانون المنع وتجريم الفعل، فرغم ما يلقاه البغاء حاليًّا من احتقار، وما يوجهه المجتمع من مقاومة له، فإنه في ازدياد لا تخطئه العين.
وللأسف هناك انقطاع للإحصائيات العلمية التي يمكن أن نعتمد عليها لمعرفة مدى انتشار الظاهرة منذ نصف قرن تقريبًا، حيث كان بحث المركز القومي للبحوث والذي نُشر عام ١٩٥٩م، وأسهم فيه حشد من العلماء، وإن لم يخلُ الأمر من بعض الدراسات التي نشرت بعض الإحصائيات؛ مثل دراسة كلية الدراسات العليا بأكاديمية مبارك للأمن عام ٢٠٠٠م، والتي أوضحت المتوسط السنوي لقضايا البغاء، والتي قُدِّرت في العام الواحد ١١٨٩ قضية، وبالمثل يمكن أن نشير إلى تصريح مساعد وزير الداخلية اللواء أحمد ضياء الدين في البرلمان المصري؛ من أن إدارة مكافحة جرائم الآداب قامت بضبط ٤٥ ألفًا و٢٣٢ قضية آداب في الفترة بين بداية ٢٠٠٦م وحتى مارس ٢٠٠٧م، وكان من بينها ١٤٢٩ قضية تحريض على الفسق خلال أسبوع واحد، ونظن أنها أرقام تدفعنا لمزيد من الاهتمام بالظاهرة.
(٧) في سيكولوجية القِوادة
القوَّاد مصطلح مشتق من كلمة «قَوَد»، والتي تعني في اشتقاقاتها ومترادفاتها اللغوية؛ المشي أمام الدابة آخذًا بقيادها، وقالت العرب: قوَّد تقويدًا وتقوادًا الدابة، أي مشى أمامها آخذًا بقيادها. والقِوادة هي الجمع بين الرجال والنساء للزنا، أو الرجال والصبيان للِّواط. وقد اكتسبت المفردة بعد ذلك معناها الشعبي في أذهان الناس، والذي يرتبط بالعمل الجنسي مدفوع الأجر؛ لأن القوَّاد أو القوادة من يقود الطرفين الفاعل والمفعول به إلى الفعل الجنسي. وأصبحت اللفظة تُطلق على كل من يحترفها، فتُأجر نساء المتعة للرجال مقابل عمولة أو مقابل ثمن مادي أو عيني. وقد جاء في المعجم الوسيط أن القواد أو «القوادة» هو الساعي بين الرجل والمرأة للفجور. ويرى أحمد فائق أن القواد بحكم المهمة التي يقوم بها، تكفل له وساطته تلك جزءًا من الربح الذي تجنيه البغي من العميل. والقواد عادةً شخص (ذكر أو أنثى) يمتلك حرية عدد من البغايا تأتي عن طريق تحريضهن على إغراء العملاء جنسيًّا في مقابل المال الذي يحصل منه على نسبة. ويمكن تعريف القواد — والحال هذه — بأنه ذلك الوسيط بين العميل والبغي، فهو يجلب أيًّا منهما للآخر ويسهِّل لهما فعل البغاء.
وقد تختلف سيكولوجية القواد عن سيكولوجية القوادة، بقدر ما تختلف سيكولوجية الرجل عن المرأة؛ فإذا كان الفرض القائل بأن القواد عاجز عن ممارسة البغاء لسبب أو لآخر إنما هو فرض صحيح، فإن ما يفيده القواد والقوادة من دورهما كطرف ثالث للعلاقة البغائية مختلف — باستثناء الإفادة المادية — فالتكوين النفسي للقوَّاد والذي أدى به أن يكون قوادًا، مختلف عن التكوين النفسي للقوادة؛ فالقواد هو أشبه بطفل تثبَّت على أُم لا يستطيع التخلي عنها ولا الاقتراب منها في نفس الوقت، لذلك يمنحها للآخر (للأب) في مقابل أن يتعيَّن بذلك الآخر ما دام لا يستطيع أن يكونه. وإذا كانت القوادة إنما هي طفلة ثبتت على الأب فإنها تمتلك قدرًا هائلًا من العدوان والغيرة تجاه الأم — الأخت التي عينتها بالبغي — فهي إذ تزج بالبغي في العلاقة مع العميل، فهي تكرر موقفًا أوديبيًّا، وتحقق قدرًا من السادية على الأم — الأخت المنافسة في امتهانها للبغاء — (وهو ما كانت تُتهم به الأم في المستوى التخييلي). وفي الوقت ذاته فهي تشعر تجاهها بالغيرة التي كانت تشعر بها تجاه الأم — الأخت في علاقتها بأبيها — فما زالت البغي (الأم) تستحوذ على العميل (الأب)، ويرفض العميل أن يرغب إلا في البغي. فالقوادة هي امرأة لم تستطع أبدًا تخطِّي رغبتها في قضيب الأب إلى بدائل القضيب، فأصبح الحل لديها أن تمنح البغي (الأم، الأخت) للعميل (الأب) بعد أن تتعيَّن بها. فهي تفعل واقعًا بغائيًّا أصبح بمثابة تخييل لديها، وهي بذلك تفعل ما تحمله تجاه الأم — الأخت — من عدوان. والقوادون والقوادات عرفناهم في قصور الملوك والحكام العرب منذ العصر الجاهلي، وإن اختلفت التسميات والوظائف التي شغلوها أو عملوا تحت شعارها؛ فلكل خليفة عباسي — مثلًا — قواده الذي يُشرف على اختيار النساء والجواري للخليفة، بعد أن يوفِّر الغطاء الشرعي له. وتحدِّثنا كتب التاريخ عن عمليات قِوادة شارك فيها كبار ضباط الخليفة وقواد الجيوش، وتورط فيها فقهاء القصر وقضاة المملكة أو الإمارة. ولم تتوقف هذه المهنة عبر العصور إلى أن وصلت لعصرنا الحاضر، وشغل القوادون وظائف مهمة في قصور الحكام.
(٨) سيكولوجية البغاء
(٩) سيكولوجية البغي
-
البغي موضوع جنسي ناقص ومؤقت، ولا حق لها في الوجود المستقل عن رغبة العميل فيها.
-
البغي موضوع جنسي ينكر حقه في الوجود، ويصر على أن يكون دائمًا للآخرين.
-
البغي مالكة لما لا حق لها فيه، ولا حق لها فيما تمتلك.
-
البغي من حيث هي موضوع جنسي لا تزيد عن كونها وهمًا جنسيًّا للعميل، ولا ترضى بأن تكون واقعًا جنسيًّا له.
-
البغي كموضوع للعميل سلعة تُشترى، وهذا يعني أنها لا تسمح بعلاقة ثنائية، فالجنس الممكن الحصول عليه من البغي يعني وجودها (سلعة)، ووجود عميل (مشترٍ)، وبائع (قواد)، لذلك تُعد البغي «شيئًا» وليست «موضوعًا»، كما تُعَد المتعة الجنسية معها «شيئًا» وليست «عملية».٢٠
(١٠) صورة الجسد
(١١) الجسد الممزق
(١٢) جسد البغي
إن تعريف البغاء وتحديده بأنه فعل تمارسه البغي بجسدها، ولا يعتبر بغاءً ما لا يمارَس بغير الجسد، إذ يبدو أن نقطة تحوُّلنا إلى فهم أعمق للبغاء هي دراسة طبيعة الجسد لدى البغي؛ فالصراع الذي تعيشه البغي يدور حول جسدها؛ حيث إنه موضوع الفعل البغائي ومادة العلاقة البغائية كذلك. فمنذ عرف فرويد الغريزة أصبح من الواضح أن علاقة الرغبة بالجسد علاقة فريدة لدى الإنسان؛ فكل رغبة هي رغبة جسد؛ لأن الجسد مصدرها ووسيلتها في الإشباع أيضًا. وإذا كان انقسام النشاط الجنسي في البغاء إلى نشاط وهمي وآخر فعلي؛ فسيكشف عن طبيعة الجسد لدى البغي؛ حيث تعيش البغي في فعلها البغائي جسدًا يخدم وظيفةً محددة، وله معنًى محدد يختلف عن جسدها الذي تعيشه في علاقتها البغائية. ففي الفعل البغائي يكون جسد البغي مجالًا للنشاط الجنسي والوهمي، أما في العلاقة البغائية فهو مجال محتمل للنشاط الجنسي الفعلي، ذلك من جانبها، أما من جانب العميل فالأمر معكوس؛ فجسد البغي مجال للنشاط الفعلي عند ممارسة الجنس، ومجال للنشاط الوهمي خلال العلاقة البغائية، وبعبارة ثانية إن جسد البغي جسدان لكل منهما وظيفة ومعنًى:
الوظيفة الأولى لجسد البغي
هي إثارة الشق الشهوي الفعلي من غرائز العميل، مع إفساد الشق الوجداني منها بتعطيل الجسد من حساسيته؛ وبذلك يصبح معنى الجسد الذي لا وجود له بالنسبة للبغي، والذي لا وجود غيره بالنسبة للعميل.
الوظيفة الثانية لجسد البغي
وهكذا فإن صورة الجسم هي الأساس في خلق هُوية سوية أو غير سوية في ظروف بعينها، كما أن هذا الصراع الذي تعيشه البغي هو صراع حول الجسد الذي يباشر فعل البغاء مباشرةً جوهرية، من هنا كان علينا أن نتعرَّف على طبيعة إدراك البغي لصورة الجسم لديها، باعتبارها ركيزةً في البناء النفسي ينبني عليها — أيضًا — إدراك البغي للعالم الخارجي.
(١٣) أثر الموقف الأوديبي في انحراف الحياة الجنسية
نظرًا لأهمية العلاقات الطفلية بالوالدين في اختيار الموضوع الجنسي فيما بعد، فمن اليسير فهم أن أي اضطراب في علاقة الطفولة هذه تكون له أخطر النتائج بالنسبة للحياة الجنسية لدى الراشدين، فلا بد إذن من أن نعتبر أي انحراف عن الحياة الجنسية السوية ضربًا من توقف النمو؛ فالعقدة الأوديبية عند كل من البنت والصبي، تشكل منذ البداية جنسيتهما، والسواء أو عدمه يتوقفان على الطريق الذي يجتازه حل الصراع الأوديبي؛ فتعطُّل حل هذا الموقف يحيد بالحياة الجنسية عن سواء قصدها، وتبقى آثاره في المستقبل. هذه هي الحياة عند الرشد، ويمكن إيجاز تعطل حل الموقف الأوديبي في نقاط أساسية.
(١٤) مُلخَّص الرواية
(١٥) الشخصية
لقد ركَّز نجيب محفوظ في روايته «بداية ونهاية» التي كتبها سنة ١٩٤٢م على تقنية الوصف الواقعي المتقابل في منظوراته الجدلية والتعبيرية والسردية. فوصف مجموعةً من الشخصيات، منها؛ فريد أفندي محمد (الرواية: ص١١)، وحسين وحسنين (الرواية: ص٥ وص٦)، وحسن (ص٩)، وأحمد بك يسري (الرواية: ص١٢)، والأم (الرواية: ص١٢)، ونفيسة (الرواية: ص١٤). وكانت ريشة نجيب محفوظ الوصفية تنصب على المعطى الخارجي (الفسيولوجي والبواعث السيكولوجية)، حيث يختلط الوصف بالسرد في جدلية فنية رائعة. وإلى جانب هذا، لم ينسَ نجيب محفوظ وصف الوسائل؛ كالسيارة (الرواية: ص١٢)، والأشياء؛ كالكرسي (الرواية: ص١٢)، والأمكنة؛ كالمدينة الكبيرة، والشوارع والحارات والأزقة (الرواية: ص١٤ ما بعدها).
(١٦) وصف الملامح الشكلية لنفيسة
(١٧) دلالة اسم نفيسة
(١٨) صورة الجسد لدى نفيسة
ونطالع من البداية صورة الجسد لدى نفيسة في رواية «بداية ونهاية»، فيقول نجيب محفوظ: «إلا أن ابنتها نفيسة تُعيد حياتها وصورتها بدقة كبيرة؛ كان لها هذا الوجه البيضاوي النحيل، والأنف القصير الغليظ، والذقن المدبَّب، إلى شحوب في البشرة واحديداب قليل في أعلى الظهر، فلم تكن تختلف عن أمها إلا في طولها المماثل لطول شقيقها حسنين، كانت بعيدةً عن الوسامة وأدنى إلى الدمامة، وكان من سوء الحظ أن خُلقت على مثال أمها» (الرواية: ص١٧). وهكذا يحرص نجيب محفوظ على إبراز قبح نفيسة ودمامتها وعدم تناسق ملامحها، مما سيجعلنا نهتم بأثر صورة ذلك الجسد القبيح في تكوين شخصية نفيسة، حيث نفورها من شكلها وصورتها وعدم تقبُّلها لهما؛ ولعل ذلك ما سيجعلها تتجه نحو البغاء، حيث وجود عدوان منها موجه نحو جسدها، فها هي تهين ذلك الجسد في العلاقة البغائية. ومن ثم نلاحظ رفض نفيسة لصورة جسدها وعدم تقبلها، بل والنفور منها، ويزداد رفضها لصورة الجسد أكثر بعد أن مارست البغاء، فيقول نجيب محفوظ: «لقد كابدت من الرجال ما جعلها تحقد عليهم، ولكن دون أن تخمد لهذا رغبة جسدها الذي يسيمها (يذيقها) الهوان؛ فكرهته (أي جسدها) كما تكره الفقر. ما هي إلا أسيرة للجسد وللفقر، ولا تدري كيف تنقذ نفسها منهما» (الرواية: ص٢٤٩). كما يتَّضح أن تشويه صورة الجسد لدى نفيسة يشير إلى اضطراب في وظيفة الجسد لديها، ووجود اتجاهات عدائية نحوه.
(١٩) موت الأب
تبدأ الرواية بالموت وتنتهي به أيضًا وكأنها المأساة والكارثة؛ ففي البداية يموت الأب، وفي النهاية تنتحر نفيسة. «هرولت الخالة إلى الداخل وهي تصرخ: يا خراب بيتك يا أختي. ودوَّت العبارة في آذانهم دويًّا مفجعًا» (الرواية: ص١١).
ويقول محفوظ: «وشعرت بأنها تهوي من علٍ، وأنها أمست فتاةً أخرى. ليس بين الكرامة والضعة إلا كلمة، كانت فتاةً محترمةً فانقلبت خياطة، أحسَّت بالخزي والهوان والضعة، وتضاعف حزنها على أبيها، فبكته بكاءً حارًّا، وبكت نفسها. مات الفقيد المحبوب فمات بموته أعز ما فيها» (الرواية: ص٤٧). ونلاحظ أن صورة الأب في الأحياء الشعبية في القاهرة تخضع لنفس المعايير الأخلاقية المتَّبعة في القرى الصغيرة المحيطة بالقاهرة؛ فقد كانت العائلات التي نزحت إلى القاهرة قادمةً من الريف تحترم تقاليد القرية، وعلى رأسها الأهمية الكبرى التي يوليها المجتمع لرب الأسرة. فقد كان مركز الأسرة ومكانتها الاجتماعية مرتبطًا به وبمركزه ووظيفته، وفي ظل ذلك الوسط تفقد البنت اليتيمة مكانتها ولا تصبح محط أنظار راغبي الزواج؛ لذا فقد أدركت نفيسة أنها فقدت فرصتها في الزواج من موظف محترم كأبيها، بالإضافة لدمامتها وعملها خياطةً متنقلةً في البيوت. ولقد امتلكها الحرمان والحقد والقنوط، وتغذَّت في أعماقها الرغبة في الانتقام من المجتمع الذي ظلمها. فيقول نجيب محفوظ: «لا جمال ولا مال ولا أب، كان يوجد قلبان يساورهما القلق على مستقبلي مات أحدهما، وشغلت الهموم الآخر، وحيدة وحيدة وحيدة وحيدة في يأسي وألمي، ثلاثة وعشرون عامًا! ما أبشع هذا! لم يأتِ الزوج بالأمس والدنيا دنيا، فكيف يأتي اليوم أو غدًا؟ وهَبْه جاء راضيًا بالزواج من خياطة، فمَن عسى أن يقوم بنفقات الزواج؟ لماذا أفكِّر في هذا؟ لا فائدة لا فائدة، سوف أظل هكذا ما حييت» (الرواية: ص٤٩).
هل أدع نفسي تهوي؟! ولماذا أمنعها؟ لن أخسر جديدًا، ليس ثمة ما أخاف عليه» (الرواية: ص١٦٤).
(٢٠) موت نفيسة
أمَّا ما نراه في تفسير انتحار نفيسة؛ فهو أن موت نفيسة عن طريق الانتحار كان نتيجةً لقانون اجتماعي غير مكتوب وضعته الطبقة الشعبية والريفية، وهذا القانون يقضي بأن تقوم الفتاة التي مارست البغاء أو الجنس بغير طريقه المشروع — الزواج — بقتل نفسها منتحرةً حتى لا يتعرَّض أحد من أسرتها للسوء أو العقاب على قتلها، فكما مارست البغاء بإرادتها فلْتكن نهايتها الموت بيديها أيضًا. وهذا القانون الاجتماعي يُنفَّذ وبشكل دقيق حتى الآن في بعض البلاد العربية وفي مصر، ويُعد الحرق عن طريق سكب الكيروسين وإشعال أعواد الثقاب بعد ذلك والغرق في النيل من أكثر الوسائل شيوعًا في المناطق الشعبية والريفية. ولقد أدركت نفيسة هذا القانون عن طريق اللاشعور الجمعي، ويؤكد ذلك المشهد التالي حين حاول حسنين خنقها، أمسكت نفيسة بيده تمنعه قائلةً له: «قِف لا تفعل! لست أخاف على نفسي ولكني أخاف عليك، لا أريد أن يمسَّك سوء بسببي، لا ينبغي أن يمسك عقاب وإن هان، ثم بماذا تجيب إذا سُئلت عما دفعك إلى قتلي؟ دعني أقم أنا بهذه المهمة، فلا يكدِّرك مكدِّر ولا يدري أحد» (الرواية: ص٣٦٩).
(٢١) حسنين
حسنين هو الابن الأصغر المدلَّل، فقد نقم على الفقر، فهو يمثِّل أمام زملائه دور الفتى الغني، ويصر على دخول الكلية الحربية ويدخلها، وينفق عليه إخوته بمن فيهم حسن المنحرف ونفيسة الخياطة ثم البغي، وبعد أن يصبح حسنين ضابطًا يثور على حبه ﻟ «بهية» ويرفضها، وينقض عهده معها ومع أبيها. ويتطلَّع إلى بنت تنتمي إلى طبقة أعلى، وينتقل إلى مصر الجديدة، كما يثور على أخيه حسن. ولم يظنَّ حسنين أن الريح ستُقبل من ناحية أخته نفيسة التي مارست عمل الخياطة، ثم وقعت في الرذيلة ومارست البغاء. أما حسنين فقد يئس بعد أن حمل أخته على الإلقاء بنفسها في النيل، وجاء ذلك تعبيرًا عن انعزاله عن مجتمعه، لذلك تساءل حسنين في مونولوجه الداخلي قائلًا: «ماذا فعلت؟
إنه اليأس الذي فعل …
وإذا كانت الدنيا قبيحةً فنفسي أقبح منها. ما وجدت في نفسي يومًا إلا تمنيات الدمار لمن حولي.
فكيف أبحث لنفسي أن أكون قاضيًا وأنا على رأس المجرمين؟
لقد قُضي عليَّ.»
وينتهي مونولوج حسنين الداخلي، بل تنتهي «بداية ونهاية» بهذه الجملة: «فلْأكن شجاعًا ولو لمرة واحدة، ليرحمها الله» (الرواية: ص٣٨٢).
وبرغم هذا الحوار الداخلي لحسنين إلا أنه قد نصَّب نفسه قاضيًا ومتهمًا في الوقت نفسه، ولأن حالته ساعتها كانت مزيجًا من اليأس والاستبصار بالمصير بعد موت نفيسة، وأنه ساعدها أو وافق على انتحارها أو أمرها بالانتحار، فقد اعتبر نفسه المنفِّذ لانتحارها. وفي التحليل النفسي قاعدة تقول ﺑ «أن الرغبة تساوي الفعل». وهنا يبزغ حسنين القاتل لنفيسة، والذي يستحق القتل على ما فعل، فكان حسنين القاضي يحكم بقتل حسنين المتهم، ويجب أن يقوم حسنين بتنفيذ الحكم، فتكون النهاية وكأنه القصاص العادل الذي يحميه من الجنون، والذي نلاحظ بوادره في الإحساس بالندم والعذاب الذي يعيشه. ويعبِّر نجيب محفوظ عن ذلك بقوله:
«وعاد بانتباهه المحموم إلى الجثة.
وعلى رغمه وجد نفسه يتذكر أيادي الفتاة عليه.
ما كانت تُكِن له من حب وما جادت به من كرم.
فما كان يخطر لها ببال أن تكون نهايتها على يديه.
وشعر بإعياء وقنوط وتساءل في جزع: «لماذا هذا كله؟!»
وأغمض عينيه لأنه لم يَعُد يُطيق النظر إليها، كان رأسه محمومًا، وغَيَّض الهم كل رغبة في الحياة في قلبه، وانقلب وجه الدنيا في عينيه كهذا الوجه الأزرق — وجه جثة نفيسة — الناطق بالعدم.
وقال لنفسه وهو يتنهَّد من الأعماق: «رباه لقد قُضِيَ عليَّ»» (الرواية: ص٣٨٠-٣٨١).
وفيه صفات آخر العنقود من أثرة وثورة على القيود، وهو طموح وأناني يثور منذ البداية على الفقر، ويحزنه منظر القبر المهدَّم الوضيع بقدر ما يحزنه فقد أبيه، ويثور على ما تفرضه الأم من تقشُّف هي مضطرة إليه، وهذه الأنانية غُرست فيه بحكم مكانه في الأسرة وقوته الجسمية التي تفوق أخاه الأكبر. وقبِل تضحية أخيه حسين من أجله، وكذلك يقبل مال حسن الفتوَّة، ويقبل مال نفيسة من عملها بالخياطة والبغاء فيما بعد، وعندما طلب حسنين من أخيه حسن أن يترك الفتوَّة فيرد عليه حسن قائلًا: «حياة شريفة، حياة شريفة؟! لو أنني استمسكت بها طوال حياتي لما حلَّيت كتفك بهذه النجمة، أتحسب حياتي وحدها غير الشريفة؟! يا لك من ضابط واهم! حياتك أنت غير شريفة؛ فهذه من تلك، أنت مدين ببدلتك لهذه المومس والمخدرات، ومن العدل إذا كنت ترغب في أن أُقلع عن حياتي الملوَّثة أن تهجر أنت أيضًا حياتك الملوَّثة؛ فاخلع هذه البدلة لنبدأ حياةً شريفةً معًا» (الرواية: ص٢٩٤).
ورغم ذلك يذهب إلى حسن يسأله أن يمده بالمصاريف اللازمة للمدرسة الحربية، وهو على يقين أنها أموال مخدرات ودعارة، بل «لو عرف أنه ذاهب يسرقها من السويس ما وسعه إلا أن يدعو له»!
لم يَجِد «حسنين» بين الشخصيتين وقتًا للحب الطاهر الطبيعي لجارته ذات العينين الزرقاوين والقوام الجميل والقلب العاشق له، ورغم أن نجيب محفوظ يصف مشهد لقائهما بأنه: «كانت الشمس قد توارت مخلِّفةً وراءها هالةً حمراء مترامية، أقصاها حمرة دامية، تخف عند الوسط كأنها زُرقة عميقة صافية، تنمنمها هنا وهناك سحائب رقاق كتنهُّدات وانية.» رغم هذا المشهد الرقيق البديع لا يهتم حسنين إلا بمحاولة إغواء جارته واستدراجها إلى علاقة محرَّمة.
وبعد ذلك يرى أن زواجه من ابنة البك: «إذا ركبتها ركبت طبقةً بأسرها.» ثم حين يفشل يقول: «ألستِ تنامين مثل أي فتاة، وتغيبين عن الوعي كأي امرأة، وتحبلين كما تحبل الخادمة التي طردناها، وتعوين حين المخاض كأية كلبة.» دائمًا يعود إلى إحدى الشخصيتين بالحيل النفسية المعروفة مثل التبرير والإسقاط والتعميم وغيرها من حيل الدفاع عن النفس، بل يقول لأخيه حسين: «إن من يستسلم للأقدار يشجعها على التمادي في طغيانها!»
بعد لحظات من ارتداء ملابسه كضابط في الجيش، يعود إلى الحارة متأففًا، ويقلِب لحظة الفرح إلى نكد ويطلب: «يجب أن تنقطع نفيسة عن عملها «المزري»، وهذه العطفة الحقيرة تعرِّفنا على «حقيقتنا»؛ فلهذا لا أطيق البقاء فيها. وهذا البيت العاري من الأثاث، وأخي حسن وسيرته في الحياة، وقبر والدنا المكشوف بين قبور الصدقة.» فترد الأم: «طالما تمنيت أن تسعدنا وأن تسعد معنا، فإذا لم تروِّض نفسك على التسليم بالواقع وتأخذها بالصبر؛ شقيت وشقينا.» وقد كان!
كان قد أدمن الشخصية المختلقة حتى كذب على البك الذي يعلم عنهم كل شيء، فيقول للبك عندما تقدم لخطبة ابنته: «الحمد لله، لقد انقضت متاعبنا بعد أن كسبنا القضية!»
(٢٢) حسن
هو الابن الأكبر المدلَّل الذي ترك التعليم وأفسده تدليل الأب، والذي سيحترف تجارة المخدرات، ويعاشر العاهرات، ويعمل بلطجيًّا وقوَّادًا، وسيقول فلسفته في الحياة؛ أنه يحيا كأن لا يوجد بوليس ولا أخلاق ولا الله! منذ اللحظة الأولى يقول: «لماذا يعلن الله عن حكمته على حساب أمثالنا من الضحايا؟! ولا يستنكف أن يسرق من محفظة الأب في غفلة الحزن ما تيسَّر له أن يسرقه! لم يعرف الحزن على أبيه طريقًا لقلبه.»
يرى موت الأب؛ «كنت قد هدَّدتك يا أبي لو لم تشترِ لي هذه البدلة سأمشي في الطريق باللباس والفانلة، وأقتحم عليك مجلسك بقصر أحمد بك يسري شبه عارٍ. الآن لو مشيت عاريًا فلن تجد من يسأل عليك إلا الشرطي.» وعندما يحترف تجارة المخدرات والبلطجة والقِوادة، ويشتبك في عراك مع فتوَّة الحي، يقول لنفسه: «إن حظِّي في الحياة، وربما حظ أسرتي المنهارة، يتوقفان على خوض المعركة.» وبالفعل لا يتردَّد بما تبقَّى من إنسانية ضئيلة في نفسه من مساعدة أسرته بالمال الحرام؛ يساعد حسين لكي يسافر لطنطا لاستلام وظيفته، ويساعد حسنين بمصاريف الكلية الحربية عندما باع ذهب العاهرة ليمنحه ذلك المال. وحسن لم يُبعث إلى المدرسة إلا في سنٍّ متأخرة، وسُرعان ما ظهر تمرده على الحياة المدرسية، وتكرَّر هروبه من المدرسة، وتوالى سقوطه عامًا بعد عام حتى انقطع عنها ولم يجاوز السنة الثالثة، واستحال ما بينه وبين أبيه إلى شجار، ثم إلى ما يشبه العداوة الحقة؛ فكان يطرده أحيانًا من البيت، فيقضي أيامًا متسكعًا، ثم يعود إلى البيت وقد اكتسب شرورًا جديدةً من مخالطة الأشقياء والغوص في الإثم والإدمان وهو دون العشرين … (الرواية: ص٢٣-٢٤). وقد أُصيب في النهاية غدرًا من قبل خصومه، وسُلبت منه أمواله وعشيقته أثناء هروبه من الشرطة. ربما تم إنقاذه من قبل أهله، لكنه في المحصلة ظل مطارَدًا في نهاية مفتوحة على كل الاحتمالات.
(٢٣) حسين
الابن الأوسط، أشبه الأبناء بالأم العظيمة، ويستمر في التضحية من أجل إنقاذ الأسرة حتى النهاية، ولكنه حين يتوظَّف بالبكالوريا ويتزوج ابنة جاره الموظف البسيط، يستمر أيضًا في طريق الأب الراحل، في إنجاب ذرية فقيرة تنهار بعد وفاة الأب الثاني، لتكتمل الدائرة المغلقة. ولا ينسى أديبنا الفذ حسه الكوميدي الراقي عندما يصف حقيبة ملابسه أنها تحتوي على «ملابس داخلية من نسختين»؛ ليثبت لدينا فكرة الموظف التقليدي! وبالرغم من راتبه الضئيل جدًّا (سبعة جنيهات) وبعد خصم ١٥٠ قرشًا للسكن، ٢٠٠ قرش للأكل، ثم ٢٠٠ قرش للأم، لا يتبقَّى سوى ١٥٠ قرشًا للكساء والنفقات النثرية، نجده يتساءل ألا يمكن أن يقتصد شيئًا في صندوق التوفير؟ كان يرى أن أمه بين النساء مثل ألمانيا بين الدول، كانت ترقع البنطلون، حتى إذا بلغ اليأس قلبته، فإذا أدركه اليأس مرةً أخرى قصَّت أطرافه وجعلت منه سروالًا داخليًّا، ثم تصنع من بعضه طاقيةً وتستعمل بقيته ممسحة، ولا يلفظه البيت إلا فتيتًا.
(٢٤) الأم
من أروع صور الأمهات في تاريخ الأدب العالمي؛ فهي الواعية بأبعاد المأساة، وهي التي تتَّخذ القرارات المصيرية، تقرِّر أن تنتقل إلى شقة أصغر في البدروم؛ لتوفير خمسين قرشًا، وهو هبوط طبقة بأكملها؛ حيث أصبح رأس من يقف بالنافذة تحت أقدام السائرين بالحارة. أصبحوا في الدرك الأسفل من الحارة الفقيرة أصلًا. يصفها أديبنا الرائع: «الأم وحدها كانت عصب حياة الأسرة، في سبيل الأسرة انهد حيلها، وهرمت في عامين كما لم تهرم خلال نصف قرن؛ فنحلت وهزلت حتى استحالت جلدًا وعظمًا، بيد أنها لم تستسلم للمحنة، ولم تعرف الشكوى، ولم تتخلَّ عن سجاياها الجوهرية من الصبر والحزم والقوة.» هي التي تقرر أن تعمل ابنتها بالخياطة وتقمع معارضة حسنين، هي التي تقبل خطبة ابنها حسنين على ابنة الجار الموظف فقط من باب الخوف من قطع العلاقات، وهي حريصة أشد الحرص على هذه العلاقات. هي التي تسافر إلى طنطا إلى «حسين» لتمنع زواجه من بنت الباشكاتب؛ لأن هذا الزواج سيحرم الأسرة من الجنيهين اللذين يدعم حسين بهما الأسرة: «أنت لا تدري من أمر الناس شيئًا، لعل جيرانك أناس طيبون ولكنهم لا يحفلون إلا بمصلحتهم، وإذا حافظت على جيرتهم كرهتنا وأنت لا تدري.» ولم تغادر طنطا إلا بعد أن غادر حسين مسكن الباشكاتب.
(٢٥) الأب
كان للأب في الرواية سطوة وإرادة لا تُعارَض؛ فهو يفكر عوضًا عن أفراد أسرته، ويتدخَّل في كل أمورهم، ويصمم بدلًا منهم في جمع أمور الحياة، حتى في الزواج، ورفض الخطوبة وانتخاب الزوج. وطاعة الأب كانت من تقاليد الأسرة وآدابها فيما يعتبر رفضها بمثابة الجمود والطغيان؛ لذلك كان التمرُّد على هذه السيادة يدور في أعماق الشخصيات لتتحوَّل إلى دوافع نحو سلوكيات مرفوضة اجتماعيًّا. ويعود الأب مرةً واحدةً في الرواية، بعد عام من وفاته. يقول أديبنا الفذ: «لو أُتيح للأب أن يعود إلى الحياة مرةً أخرى؛ لأزعجته الدهشة لِما طرأ من تغيُّر على أسرته، شمل الأرواح والأجساد والصحة ونظرات العين، ولكن حتمًا كان سيعرفهم، سيعرف أن المرأة هي زوجه، وأن الأبناء أبناؤه. أمَّا الذي ينكره، ولا يعرفه مهما أجهد ذاكرته فهو البيت، اختفى الأثاث أو كاد، فلم يبقَ بحجرة الاستقبال إلا كنبة واحدة وبساط باهت كالح.»
(٢٦) المكان (غرفة الأب)
تبدأ أحداث الرواية بوصف المكان من الجملة الأولى: «ألقى الضابط نظرةً كئيبةً على الردهة — المكان — الطويلة التي تُفتح عليها فصول السنتين الثالثة والرابعة» (الرواية: ص١). ثم يقدِّم وصفًا للمدرسة (ص١)، والفصل الثالث والرابع (ص٢)، وشارع شبرا (ص٣). يقول السارد: «وارتقيا السلم مهرولين إلى الدور الثاني، فوجدا باب الشقة مفتوحًا (ص٧)، وغادر الشقيقان الشقة إلى باب العمارة (ص٩). مكان المقبرة، يقول حسنين: «لماذا لم يبنِ والدنا مقبرةً تليق بأسرتنا؟» (ص١٤).
وقال السارد يصوِّر أمتعة البيت — المكان — لمَّا دخل حسين وحسنين إلى بيت المرحوم بعد وفاته بساعات قليلة ليُلقيا نظرةً أخيرة: «فتراجعا خطوتين، وتولَّى حسنين عناد طارئ فتوقف. وشجَّع به حسين فتوقف كذلك، وجال بصرهما بالحجرة فيما يشبه الذهول، وكأنهما كانا يتوقعان تغيُّرًا شاملًا لا يدريانه، ولكنهما وجداها كالعهد بها لم يتغير منها شيء؛ هذا الفراش على يمين الداخل، والصوان في الصدر يليه المشجب، وإلى اليسار الكنبة التي ارتمت عليها الأخت، وقد أُسند إلى حافتها عود انغرست ريشته بين أوتاره، وثبتت عيناهما على العود في دهشة ممزوجة بالحزن. طالما لعبت أنامل الراحل بهذه الأوتار، وطالما التفَّ حولها الأصدقاء مطربين يستعيدون ويعيد، فما أعجب ما بين الطرب والحزن من خيط رقيق، أرق من هذا الوتر! ثم مر بصرهما الحائر بساعة الراحل على خوان غير بعيد من الفراش، لا تزال تدور باعثةً دقاتها الهامسة، ولعل الراحل قرأ فيها آخر تاريخ له في الدنيا وأوَّل عهدهما باليتم. وهذا قميصه على المشجب وقد لاحت آثار عرقه ببنيقته، فرنَوا إليها بحنان عميق، وقد بدا لهما في تلك اللحظة أن عرق الإنسان أشد ثباتًا من حياته العظيمة» (الرواية: ص٨).
(٢٧) المكان (البيت والأثاث)
في الرواية (بداية ونهاية) تلتجئ الأم إلى بيع الأثاث الموجود في المنزل بعد وفاة رب الأسرة (علي كامل)؛ لتعيل أولادها وتتكيَّف مع الأوضاع السوسيو-اقتصادية المعقدة؛ لأن الأب كان العمود الفقري بالنسبة للطبقات المتوسطة في المجتمع المصري أثناء الاحتلال. وللأثاث في الرواية دلالات اجتماعية وطبقية، وأبعاد أيديولوجية مفتوحة؛ لأنها تعبير عن فقر الأسرة واضمحلالها الطبقي، ونزول من درجة اجتماعية إلى أخرى أدنى منها، مما سينعكس على تصرفات الشخصيات الثلاث المحورية في الرواية وهي؛ حسن وحسنين ونفيسة، التي التجأت إلى الثورة والرفض والتمرُّد عن الأشياء، وعجزها عن تحقيق التوازن الطبقي، بينما اختار حسن الصعلكة لتحقيق ذاته بطريقة عبثية وجودية. بيد أن هذه الشخصيات الثلاث كانت مصائرها ذات طابع إشكالي، انتهى بها الواقع إلى القلق النفسي والاجتماعي والانتحار والموت.
ويقارن نجيب محفوظ في هذه الرواية بين نوعين من الطبقات الاجتماعية؛ الطبقة الدنيا من خلال افتقارها للأشياء والأثاث اللازم والضروري، والطبقة الأرستقراطية التي تنعم في الثراء المادي وامتلاك التحف الأثرية والأثاث الذي يتغيَّر من ظرف زمني لآخر، حسب الموضات والتطورات التقنية؛ فأحمد بك يسري يملك عالمًا فضائيًّا مؤثثًا بالأشياء الثمينة التي تعبِّر عن التطلُّعات البرجوازية لهذه الشخصية المتخمة. بينما أسرة المرحوم علي كامل تفتقر إلى أدنى الحاجيات التي بها تتوازن الحياة وتعتدل القيم.
ولمعرفة الوضع الاجتماعي والاقتصادي للأسرة يقول التاجر: «لا أدفع مليمًا واحدًا أكثر من الثلاثة الجنيهات.» قالها تاجر الأثاث وهو يلقي نظرةً على فراش المرحوم، ولم تَعُد تجدي مساومة الأم. وكانت قد أجمعت على بيع الفراش ولوازمه؛ لما يثير وجوده من الأحزان، ولأنها باتت في مسيس الحاجة إلى نقود، وكانت ترجو له ثمنًا أكثر من هذا لعله يسد بعض عَوَزها المُلِح إلى النقود، ولكنها لم تجد بُدًّا من الإذعان، فقالت للتاجر: «غلبتنا سامحك الله، ولكنني مضطرة للقَبول» (الرواية: ص٤٣).
ودفع الرجل إليها بالجنيهات الثلاثة وهو يُشهد الله أنه المغلوب، ثم أمر تابعَين بحمل الفراش، واجتمعت الأسرة في الصالة تلقي نظرة الوداع على فراش فقيدها المحبوب (الرواية: ص٤٤).
يصوِّر لنا هذا المقطع على الرغم من مأساويته الفظيعة وبُعده الدرامي الاجتماعي فلسفة الأثاث تصويرًا عميقًا قائمًا على الرؤية الإنسانية والمشاعر المرهفة التي قوامها الحزن واليأس والضياع الوجودي والواقعي، ويحدد لنا النص أيضًا أبعاد الأثاث الذي له بعدان متقاطعان؛ البعد الاقتصادي، يتمثَّل في حاجة الأم إلى النقود لإعالة الأسرة والتكيُّف مع مصاعب الحياة ومشاكلها ومشاغلها، وهذا يؤكِّد مدى الفقر المدقع الذي تعيشه الأسرة، وحاجتها الماسة إلى الجنيهات لتدبِّر أحوالها والظهور بالمظهر اللائق أمام الآخرين، كما نلاحظ أن الأثاث لم يعطِ فيه التاجر إلا ثمنًا زهيدًا مما يترتب عنه عدم قيمته وبهوت وظيفته التزيينية، ونقص دوره الديكوري والجمالي.
أما البعد الثاني فهو سيكولوجي؛ حيث يذكِّر الفراش أفراد الأسرة بالمرحوم، فوجود متاعه — هو بطبيعة الحال — يمثِّل وجود الأب في شكل ذكريات، يذكِّر الأم ويؤرقها ويشعل فيها نار الحزن والألم. لذا، فبيع الفراش تأشير على النهاية والضياع الأبدي، وتأكيد النهاية الميتافيزيقية لوجود الإنسان.
هذا، وإن نجيب محفوظ لما يصور البيت وأثاثه يسبغ عليه مشاعر إنسانية في شكل صور روائية متوترة، يتداخل فيها الشيء والإحساس الإنساني عبر علاقات شعورية ولا شعورية، ملؤها الصدق والمعاناة البشرية الذاتية والانفعالية الصادقة. وقال السارد يصوِّر أمتعة البيت لمَّا دخل حسين وحسنين إلى بيت المرحوم بعد وفاته بساعات قليلة ليُلقيا نظرةً أخيرة، فبدونه تئول الأسرة إلى الضياع والفقر والجوع المحتوم. وهكذا قرَّرت الأم بعد دفن الفقيد بيع ممتلكات المنزل؛ من دولاب وملابس المرحوم والمرآة الكبيرة التي توجد في وسط الدار؛ لتوفير نفقات الأسرة؛ لأن معاش زوجها لم يَعُد يكفي لسد حاجيات أبنائها حسن وحسين. رسم نجيب محفوظ تفاصيل البيت كلوحة تشكيلية رائعة بكل روعة توزيع الإضاءة الخافتة لتوفير النفقات، وبُعد بيع الأثاث وزجاج النافذة الذي كسره حسين إثر شجار مع حسنين. ويصل إلى قمة عالية غير مسبوقة في مشهد بيع المرآة: «كان الرجل الذي يحمل مؤخرة المرآة قصيرًا، فحُملت المرآة في وضع مائل، ورأت سطحه ينعكس عليه ركن سقف الصالة، متأرجحًا بحركة الرجلين كأنما سرى بأوصال البيت زلزال» (الرواية: ص٤٩).