التصوُّف والنجاة والخلود في الحرافيش
***
(١) مدخل
يعد نجيب محفوظ الأكثر اقتدارًا بين مبدعينا، فهو الذي استطاع فك اللغز كما فعل أوديب فأنقذ طيبة من السفنكس، وكان رمزًا لقيم الحق والخير والعدل والجمال والصبر، وقدَّم وصيته — أعماله — لأجل مصر والعرب والعالم، مناديًا بكل ما هو لصالح الإنسان، وكانت حياته وشخصيته تطبيقًا عمليًّا لذلك؛ حيث يقرر وينفذ عملية تعلُّم الكتابة من جديد بعد إصابته بالشلل في يده اليمنى نتيجة المحاولة الآثمة «الفاشلة» لاغتياله، وهو الذي تجاوز الثمانين عامًا! واستمر في كتابة عمله المعجز «أصداء السيرة الذاتية (١٩٩٦م)»، و«أحلام فترة النقاهة (٢٠٠٦م)»، بل السرديات العجائبية كما جاء في ملف خاص بالعدد الثالث من كتاب «الرواية قضايا وآفاق (٢٠٠٩م)»، والذي شارك المؤلف فيه بدراسة نفسية لأحلام فترة النقاهة. فأي رمز على الإرادة والتحدي والصمود والقدرة على الإبداع كان نجيب محفوظ؟!
(٢) الموضوع
ونلاحظ أن كل هذه الدراسات لم تحاول الاقتراب من الرمزية في شخصية عاشور الناجي، باستثناء دراسة «محمد وتار»؛ ففيها أن شخصية عاشور الناجي في الجزء الأول من رواية «ملحمة الحرافيش» تتقاطع وشخصية بطل السيرة الشعبية في جوانب عديدة؛ فهو مركز اهتمام السرد، لا في الحكاية الأولى التي تنتهي بموته واختفائه فحسب، بل في سائر الحكايات الأخرى من الرواية أيضًا، حيث يُستحضر على أنه رمز البطل (الفتوَّة) الذي حكم بالعدل، ووقف إلى جانب الحرافيش والضعفاء من الناس، والمثال الأعلى لاستخدام القوة في سبيل الحق والخير، لا الشر والشيطان. وهو بذلك يشبه أبطال السير العربية؛ كعنترة، وسيف بن ذي يزن، والظاهر بيبرس، من حيث اهتمام الحكي بهذه الشخصيات من بدء السيرة إلى نهايتها، ومن حيث كون هؤلاء الأبطال رمزًا للخير والعدل في عالم يصطرع فيه الخير والشر، والعدل والظلم.
- مرحلة الولادة: ثمة تشابه بين مراحل حياة عاشور الناجي، والبطل الملحمي كما صوَّرته السيرة الشعبية، دون أن يكون بينهما تطابق، مما يدل على أن نجيب محفوظ اعتمد الاختيار في توظيفه التراث. فالمرحلة الأولى من حياة عاشور الناجي، وهي مرحلة الولادة تشبه مرحلة الولادة التي يمر بها بطل السيرة الشعبية. وإذا كان الرواة قد هيئوا ظروفًا غير طبيعية لولادة أبطال الملاحم، فإن الراوي في رواية «ملحمة الحرافيش» هيَّأ أيضًا ظروفًا غير طبيعية لولادة عاشور الناجي الذي وجده الشيخ «عفرة زيدان» ملقًى تحت سور التكية، فأخذه إلى زوجته العاقر. إن عاشور الناجي — كغيره من أبطال السير الشعبية — وُلد في مجتمع طبقي، يشيع فيه الظلم، ويقبع فيه عامة الناس (الحرافيش) في أسفل السُّلم الاجتماعي، حيث الفقر، والظلم، والاستغلال. ولكنه أُلقي في العراء، ولم ينتبه أحد إلى مولده، ولم يعرف أحد أنه سيكون ذا شأن في المستقبل، شأنه في ذلك شأن أبطال السير الشعبية.
-
المرحلة الهامشية: عاش عاشور الناجي في طفولته حياةً بائسة، كأبطال
السير الشعبية. يصف الراوي حاله قائلًا: «هام
عاشور على وجهه، مأواه الأرض، هي الأم والأب لمن
لا أم ولا أب له. يلتقط الرزق حيثما اتفق، في
الليالي الدافئة ينام تحت سور التكية، في الليالي
الباردة ينام في القبو. ما قاله درويش عن أصله قد
صدقه. طاردته الحقيقة المرَّة؛ خطيئة أوجدته.
توارى الخُطاة، ها هو يواجه الدنيا وحده. ومن شدة
حزنه استمع إلى أناشيد التكية. ربما عثر ذات يوم
على امرأة أو رجل أو معنًى، وربما فك ذات يوم
رمزًا، أو أرسل دمعة رضًى، أو تجسَّدت إحدى رغائبه
في مخلوق حنون. ويتأمَّل الحديقة بأشجارها الرشيقة
الحانية ووجهها المعشوشب، وعصافيرها المعشِّشة
الشادية، ويتأمَّل الدراويش بعباءاتهم الفضفاضة
وخطواتهم الخفيفة.»
إذا كانت هذه المرحلة في حياة بطل السيرة الشعبية تتسم بنمو جسده وعقله نموًّا غير طبيعي، فإن جسد عاشور الناجي نما نموًّا غير طبيعي، واكتسب قوةً كبيرةً جعلت الآخرين يخافونه، ويهابون الصدام معه: «تفحَّصه درويش، وهو مقرفص على كثب من الفرن منكسر القلب. يا له من عملاق له فكَّا حيوان مفترس، وشارب مثل قرن الكبش!»
يتميَّز بطل السيرة الشعبية منذ ولادته بصفات مميزة، تدل على أن الطفل سيكون له شأن عظيم في المستقبل، و«توحي إلى نوع الأفعال التي يمكن أن يقوم بها على طول السيرة، أو يتم بواسطتها التعرف عليه».
-
مرحلة الاعتراف الاجتماعي: في هذه المرحلة يدرأ بطل السيرة عن قومه غارات
القبائل الأخرى، فيُعترف به، ويعود من جديد إلى
قومه؛ ليتولَّى السيادة فيهم. يقوم عاشور الناجي
بما يقوم به بطل السيرة الشعبية، فيرد عن أبناء
جنسه (الحرافيش) ظلم الظالمين، ويمنع عنهم تسلُّط
التجار والأغنياء. ها هو ذا يمسك ﺑ «درويش»، وهو
رمز للشر، ويمنعه من الاعتداء على أحد المارة.
ويسلك — على الصعيد الأخلاقي — سلوكًا مناقضًا لما
هو شائع في المجتمع، حين يُقدم على الزواج من
«فلة»؛ بُغية إنقاذها مما هي فيه من ضلال وضياع،
على الرغم من أنه كان يستطيع أن يفعل ما يفعله
الآخرون.
يمر بطل السيرة بعد مرحلة الاعتراف الاجتماعي بمرحلة الاعتراف القومي، حيث ينطلق لتحرير أمته من الاستعمار الخارجي، ويمر أيضًا بمرحلة الاعتراف الديني، حيث يرد الهجوم الشرس الذي غايته القضاء على المعتقد الديني، ويمر بعد ذلك بمرحلة الاعتراف الكوني، حيث يحقق نصرًا ساحقًا على جميع الجبهات. أما نجيب محفوظ فيحذف في تصوير شخصية عاشور الناجي هذه المراحل الثلاث، وينتقل إلى ما يتعرَّض له بطل السيرة الشعبية من مخاطر وصعاب، يتم تجاوزها بفضل الأشخاص المساعدين. لقد عمَّ البلاء المكان الذي يعيش فيه عاشور الناجي، وبدأ الموت يحصد عشرات الناس في اليوم الواحد. ويرى عاشور الناجي الشيخ «عفرة زيدان» في الحلم، وهو يقف وسط الحارة، ويدلُّه على طريق النجاة، وحين يستيقظ يخبر زوجته بأنه عازم على الرحيل إلى الخلاء. تُكتب النجاة لعاشور الناجي ويموت جميع سكان الحارة، وحين يعود إلى الحارة لا يجد فيها أحدًا؛ فيستولي على دُور الأغنياء، ويقوم بتوزيع أموالهم على الحرافيش، ويصبح سيد الحارة، وينجح بذلك في إنجاز المهمة التي كُلِّف بها، وهي الدفاع عن المظلومين والفقراء. ولكن الدولة تعود إلى الحارة للتحقيق في الأموال المسروقة، ويُدان عاشور الناجي، ويُحكم عليه بالسجن لمدة عام واحد فيفرح درويش، ويطلب من فلة (زوجة عاشور) أن تعود إلى العمل معه في الخمَّارة، فترفض، وتخبر عاشور بذلك في زيارتها الأولى له في السجن. وحين يخرج عاشور من السجن تستقبله جموع الحرافيش بالأغاني والطبول بعد أن عرفت فيه المدافع عن حقوقها ضد المستغلين من الأعيان والتجار، ويصبح بعد ذلك سيدًا للحارة، وفتوةً لها دون منازع. وبذلك يشبه عاشور الناجي البطل الذي تنتدبه القبيلة فارسًا لها، ومدافعًا عنها ضد الأخطار التي تتعرَّض لها.
إن عاشور الناجي يلتقي وبطل السيرة في أن كليهما يَلقيان معارضةً شديدةً من قوى الشر والظلم؛ فبطل السيرة يَلقى — بعد الاعتراف به سيدًا على قومه — معارضةً شديدة، تتمثَّل بوجود شخصيات «تعارضه، وتحاول أن تعرقل مسعاه». وعاشور الناجي يتعرض أيضًا لمعارضة شديدة من درويش وأعيان الحارة وتُجَّارها؛ لوقوفه إلى جانب الفقراء والمظلومين. ويلتقي عاشور الناجي وبطل السيرة في نهاية كل منهما؛ فبطل السيرة يموت وحيدًا، بعد أن يفرغ من مهمته وأداء رسالته، وعاشور الناجي يغيب عن الحارة، أو يقتله درويش زيدان، بعد أن ينجح في تنفيذ المهمة التي انتُدب لها؛ وهي جعل قوَّته في خدمة الله، لا في خدمة الشيطان، وإقامة العدل والمساواة بين أبناء الحارة.١٢ وعلاقتها بإسقاط نجيب محفوظ خصائص شخصيته عليها واستبصاره بمصيره، وهذا ما سنحاول الوصول إليه من خلال تحليل محتوى النص الروائي (عاشور الناجي: الحكاية الأولى من ملحمة الحرافيش)، ومقارنة ذلك النص بالسيرة الذاتية لنجيب محفوظ ذاته. وقبل ذلك سنعرض لعدد من المفاهيم النفسية المرتبطة بهذا الموضوع، وهي الرمز وعلاقته بالحلم؛ لأن الأحلام في الحرافيش لها معانٍ ودلالات مهمة في نجاة عاشور الناجي من الموت، ومفهوم الإسقاط الذي سنجده عندما نلاحظ الشبه الكبير بين نجيب محفوظ وعاشور الناجي في سنوات نجيب محفوظ الأخيرة وحصوله على جائزة نوبل، وفي المصير والخلود الأسطوري، وأيضًا الحاسة الأخلاقية المتعلقة بالمجتمع، كما ظهرت في أعمال نجيب محفوظ وبخاصة في الحرافيش التي تهتم بالحارة المصرية والطبقة الفقيرة.
(٣) الرمز
(٤) التعدُّد في معنى الرمز الواحد
(٥) الإسقاط
(٦) الذات
(٧) الحاسة الأخلاقية والتاريخية عند نجيب محفوظ
فنجيب محفوظ من خلال كل أعماله الإبداعية كان واعيًا بهاتين الحاستين؛ فأدبه وإنتاجه الغزير والحاضر بقوَّة قد تربَّع به وبِلا منازع على عرش الرواية العربية، رغم أن نتاجاته الأولى ابتداءً بالرواية التاريخية وبعدها الاجتماعية، ثم رواياته ذات الرؤية الفكرية والتأمُّلية هي المسئولة عن هذا التربُّع؛ حيث كتب أهم وأغلب أعماله منذ عام ١٩٣٦م حتى عام ٢٠٠٦م، منذ قصته التي نشرها لأول مرة «ثمن الضعف»، مرورًا برواياته التاريخية، حتى أعماله التي تسرد بمهارة منتقاة لتسجِّل تاريخ الشارع والحارة في الأحياء الشعبية للقاهرة، بأسلوب ساحر ومغرٍ ومبدع وكأنه حكواتي الحداثة؛ بين القصرين، وقصر الشوق، والسكرية، وخان الخليلي، وزقاق المدق، والقاهرة الجديدة، وبداية ونهاية، وفي أغلبها أمسك محفوظ بتلابيب القاهرة قبل وبعد ثورة ١٩١٩م حتى ثورة ١٩٥٢م، لتأتي بعدها رواياته ذات النفَس الجديد، حيث تواصل السرد العبقري، ولكن هذه المرة في أعماق وأحوال الطبقة المتوسطة والصغيرة في المجتمع المصري بعد الثورة، فكان سرده ووصفه عموديًّا وأفقيًّا، بعد أن كان في السابق يعتمد الأفقية في أغلب حالات التناول؛ لتأتي السمان والخريف، وميرامار، واللص والكلاب، وأولاد حارتنا، والحرافيش.
فهو بعد أن كتب ثلاث روايات تاريخية هي: عبث الأقدار ورادوبيس وكفاح طيبة، توجَّه نحو الناس الذين يعيش وسطهم ليكون لسان حالهم والمعبِّر عن حلمهم؛ فكانت رواياته الواقعية التي رسَّخت للفن الروائي في الأدب العربي، وتوَّجته على عرش الرواية العربية. ورغم كل ما قيل ويقال عن صمته لسنوات بعد قيام الثورة المصرية في ٢٣ يوليو ١٩٥٢م، إلا أنها الأغنى في مسيرته الكتابية والإبداعية؛ لأنها أنتجت لنا رائعته الثلاثية؛ بين القصرين وقصر الشوق والسكرية، حيث إنها كانت ثمرة هذه السنوات التي لم يُصدر فيها أي عمل إبداعي؛ لانشغاله في كتابة هذه الرائعة التي ارتبط اسمه بها. كما كانت الخاتمة لمرحلة الواقعية التي كانت الثلاثية قمَّتها في إبداعه والمبشِّرة ببداية مرحلة جديدة ورؤية مغايرة للواقع والفن الروائي التي تمثَّلت في روايات: اللص والكلاب، والطريق، والشحاذ، وأولاد حارتنا، وثرثرة فوق النيل. هذه الروايات التي بشَّرت بقفزة كبيرة في أدبه ورؤيته للواقع، وكانت نهايتها بالهزيمة العسكرية في يونيو عام ١٩٦٧م التي أخرجت نجيب محفوظ كغيره من المبدعين، عن طريقه الروائي ليكتب أدب اللامعقول المصور للواقع اللامعقول الذي أفرزته الهزيمة؛ مجموعات تحت المظلة، حكاية بلا بداية ولا نهاية، شهر العسل وغيرها.
(٨) ملخص لسيرة نجيب محفوظ
وُلد «نجيب محفوظ» عبد العزيز إبراهيم أحمد الباشا في ١١ ديسمبر من عام ١٩١١م في حي الجمَّالية في القاهرة، والتحق في سن الرابعة بكُتَّاب الشيخ بحيري، وتلقَّى دروسه الأولى في مدرسة الحسينية الابتدائية، وانتقل في المرحلة الثانوية إلى مدرسة فؤاد الأول، حيث حصل على شهادة البكالوريا. وفي هذه المدرسة بدأ بكتابة القصة القصيرة منذ عام ١٩٢٨م. وفي عام ١٩٣٢م ترجم كتاب «مصر القديمة» عن الإنجليزية وهو من تأليف «جيمس بيكي»، وفي عام ١٩٣٤م نشر قصته الأولى تحت عنوان «ثمن الضعف» في «المجلة الجديدة»، وفي العام نفسه تخرَّج في كلية الآداب في جامعة القاهرة، ليحمل الشهادة الجامعية في الفلسفة. وفي عام ١٩٣٦م بدأ يكتب القصة القصيرة بانتظام. وعمل منذ عام ١٩٣٤م حتى عام ١٩٣٨م موظفًا في إدارة جامعة فؤاد الأول، ثم عُيِّن في عام ١٩٣٨م سكرتيرًا برلمانيًّا لوزير الأوقاف، وبقي في هذا المنصب حتى عام ١٩٥٠م. ثم التحق بعد ذلك بوزارة الثقافة التي كانت تسمَّى آنذاك وزارة الإرشاد القومي. وعُيِّن في عام ١٩٥٣م رقيبًا على الأفلام في مصلحة الفنون. وتزوَّج في عام ١٩٥٤م في سن متأخرة (٤٣ عامًا) من السيدة عطية الله، وأنجب منها ابنتيه؛ أم كلثوم وفاطمة. وأخفى زواجه لمدة ١٠ سنوات. وأقام في شقته المتواضعة بالعجوزة سنوات طويلةً ولم يغيِّرها حتى بعد أن اشتهر عالميًّا. وفي عام ١٩٦٠م أصبح مديرًا لمجلس إدارة مؤسسة السينما، ثم في عام ١٩٦٣م رئيسًا للجنة القراءة في المؤسسة العامة للسينما والتليفزيون. وصدر في عام ١٩٦٥م قرار جمهوري قضى بتعيينه عضوًا في المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب. وفي عام ١٩٦٦م عُيِّن مستشارًا فنيًّا في المؤسسة المصرية العامة للسينما، وعُيِّن في عام ١٩٦٨م مستشارًا لوزير الثقافة «ثروت عكاشة»، وهو آخر منصب شغله حتى الستين من عمره. وفي عام ١٩٧١م أُحيل على المعاش، وفي العام نفسه انضم إلى هيئة تحرير مؤسسة «الأهرام»، وفي عام ١٩٨٨م فاز بجائزة نوبل للآداب، وفي عام ١٩٩٤م طعنه شاب متطرِّف بسكين في رقبته بعد صدور فتوى بتكفيره، ولقد نجا من تلك المحاولة. وبعد هذه الحادثة كتب روائعه «أحلام فترة النقاهة» التي اعتبرناها واحدةً من أشكال السرد التي أبدعها نجيب محفوظ، مثل المقامة والرواية وغيرهما. وفي عام ٢٠٠٦م اشتَرط موافقة مؤسسة الأزهر على إعادة نشر رواية «أولاد حارتنا». ورحل إلى الرفيق الأعلى — جسدًا — في يوم ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م.
(٩) ملخص تاريخ عاشور الناجي
(١٠) الرمز في غياب الأصل
ليس من شك في أن غياب أصل عاشور الناجي — طفل لقيط — مجهول الأب والأم، يعثر عليه الشيخ عفرة وهو ذاهب لصلاة الفجر، فيعود به إلى بيته فيقابله الناس ويسألونه: سلامتك يا شيخ عفرة!
فقال بعد تردُّد: عثرت على وليد تحت السور العتيق (الملحمة: ص٧).
هذا الغياب للأصل يؤكد أننا أمام شخصية أصيلة تشير إلى الوجود الإنساني أصلًا، وتعيدنا رمزيًّا إلى شخصية آدم أبو البشر؛ فقد كان من غير أب وأم، بل خلقه الله من الطين، وبهذا تعرَّفنا على آدم أبي الإنسانية. وها نحن نعرف عاشور — الإنسان الأصل — فيقول نجيب محفوظ: «هام عاشور على وجهه، مأواه الأرض، هي الأم والأب لمن لا أم ولا أب له» (الملحمة: ص١٩).
فكأن كل مجهول الأب والأم يكون هو الإنسان كما هو آدم الإنسان، وعاشور يُعرف باسمه ولقبه بدون اسم الأب، ونجيب محفوظ يُعرف باسمه — اسم مركب «نجيب محفوظ» — بدون اسم الأب أيضًا. ولأنه — عاشور — آدم فعليه أن يتزوَّج من حواء التي بلا نسب أيضًا في الزواج الثاني، الذي يكون فيه مساحة الاختيار أكبر من الزواج الأول، فيحب فلة، ويصفها نجيب محفوظ بقوله: «ومما جعلها أثيرة عنده أكثر أنه وجدها — مثله — مجهولة الأب والأم» (الملحمة: ص٥٢). إذن فنحن أمام الإنسان الأول أو الإنسان الأصل الذي يضم الرجل والمرأة — آدم وحواء — فالرواية بهذا المعنى ستحكي لنا عن أصل الإنسان والإنسانية بشِقَّيها الرجل والمرأة.
(١١) رمز اسم عاشور الناجي (نجيب محفوظ)
وتأتي معجزة عاشور عن طريق الحلم — والحلم في إحدى دلالته شكل من أشكال الوحي الذي تم مع النبيَّين إبراهيم ويوسف عليهما السلام — الذي رأى فيه الشيخ عفرة يأمره بالخروج من الحارة، فيستجيب ويدعو أهل الحارة وأسرته للخروج معه فيرفضون.
نام ساعتين.
رأى الشيخ عفرة زيدان.
هُرع نحوه مجذوبًا بالأشواق. كلما تقدم خطوةً سبق الشيخ خطوتين.
هكذا اخترقا الممر والقرافة نحو الخلاء والجبل.
وناداه من أعماقه ولكن الصوت في حلقه انكتم (الملحمة: ص٥٧).
فقال بجدية غير متوقعة: علينا أن نهجر الحارة بلا تردُّد.
فرمقته غير مصدقة فعاد يقول: بلا تردُّد.
فتساءلت مقطبة: ماذا حلمت يا رجل؟
– أبي عفرة أراني الطريق.
– إلى أين؟
– إلى الخلاء والجبل … الموت حق والمقاومة حق.
– ولكنك تهرب.
– من الهرب ما هو مقاومة (الملحمة: ص٥٨-٥٩).
وهذا ما نراه بوضوح في كيفية نجاة عاشور: «اجتمع عاشور بأسرته الأولى، زينب وحسب الله ورزق الله وهبة الله، وباح لهم بحلمه وعزمته ثم قال: لا تتردَّدوا فالوقت ثمين.
فسأله هبة الله: أليس الموت في الخلاء يا أبي؟
فقال عاشور وهو يزداد غضبًا: علينا أن نبذل ما في وسعنا وأن نقدِّم الدليل للمولى على تعلُّقنا ببركته.
فهتفت زينب: أفسدت البنت عقلك!
فقلَّب وجهه في وجوههم وتساءل: ما قولكم؟
فأجابه حسب الله: عفوًا يا أبي، نحن باقون ولْتكن مشيئة الله!
هام عاشور في حزن عميق ثم غادر المكان» (الملحمة: ص٦٠).
وكأن الخروج من المكان وتركه هو الوسيلة للنجاة كما يقرر القرآن عن معظم الأنبياء، وسيرة الرسول الأعظم محمد ﷺ وهجرته ونجاته من محاولة قومه قتله؛ أظهرُ تأكيد لذلك. فيقول نجيب محفوظ مؤكدًا على ضرورة الخروج: «وهاجر عاشور في الفجر وتحركت به الكارو نحو القبو» (الملحمة: ص٦١).
ويلفتنا اختيار اسم عاشور إلى تأثر نجيب محفوظ بشخصية الحسين الذي استُشهد في يوم عاشوراء من شهر المحرم، حيث الاحتفال بذكرى نجاة موسى عليه السلام، وتمضي السنوات — لقد كتب الحرافيش عام ١٩٧٥م وخلوده إلى الرفيق الأعلى في ٢٠٠٦م — بنجيب محفوظ ويترك وصيته التي تقضي بأن يصلَّى عليه وتخرج جنازته من مسجد الحسين ليكون شهيدًا أيضًا على نحو ما من الشهادة، وبخاصة بعد حادث الاغتيال الذي أصابه بالشلل ووهن الصحة. ونسأل: ألم ينادي نجيب محفوظ بمثل ما نادى به الحسين من العدل ورفع الظلم عن العباد الذي مارسه معاوية وأبناؤه؟! أي استبصار وإسقاط للمصير ذلك الذي يقدمه نجيب محفوظ؟!
كما نود الإشارة إلى أن نجيب محفوظ يدل اسمه المركب على النجابة وهي الذكاء والفطنة والعبقرية، ومحفوظ أي تشمله عناية الله من كل الأخطار. وهو يقرر في الرواية أنه لا يسلم من الشوطة إلا من سلمه الله.
ونلاحظ تلاقي دلالة اسمَي عاشور الناجي ونجيب محفوظ، وهذا التلاقي موجود في حادث الموت والاغتيال والنجاة لدى كل واحد منهما. وبعدها تكون الحياة الأكثر خصبًا وشهرة، وأكثر نماءً وثراءً لكليهما، فعاشور يقدم أعظم ما عنده للحارة والحرافيش، فيقول محفوظ: «وتحمس الجميع لإغداق الثناء عليه لجوده وإحسانه وعطفه، كان راعي الفقراء، يتصدَّق عليهم، ولم يقنع بذلك؛ فكان يشتري الحمير ويسرح بها العاطلون، أو يبتاع لمن يريد عملًا السلال والمقاطف وعربات اليد، حتى لم يبقَ عاطل واحد في الحارة عدا العجزة والمجاذيب. الحق إنه لم يُعرف عن وجيه من قبلُ مثل ذلك؛ لذلك رفعوه إلى مرتبة الأولياء، وقالوا إنه لذلك نجَّاه الله من دون الآخرين، وهدأ عاشور واستكن ضميره الحي، وشرع في تحقيق أحلام كانت تراوده من قبل» (الملحمة: ص٧٤).
ونجيب محفوظ يقدم أعظم ما عنده لمصر والعرب والعالم والطبقة الشعبية المتوسطة والفقيرة، وقد رفعه الكُتاب والنقاد والعالم إلى مرتبة عالية مثل التي حظي بها عاشور من أهل الحارة.
(١٢) رمز الاختفاء
يحقق عاشور الناجي العدل والخير والحق، ويلتزم بتعاليم الدين أشبه بالتصوُّف في مضمونه لا في شكله، ويعطي الفقراء وينصر الضعفاء، ويهرم ويدخل إلى التكية ولا يعود، ولا يموت، وينتظر الكل عودته، ويظل طوال الملحمة الغائب الحاضر. إن إسقاط الذات والاستبصار بالمصير في المستقبل لهو آية المبدع الحق، فها هو نجيب محفوظ يعيش ويعمَّر حتى ما بعد العام الخامس والتسعين، وتضعف صحته وسمعه وبصره وكأنما فقد المكان والزمان، ويعيش في عزلة تامة ليس معه إلا زوجته، ويحقق الخلود الأسطوري بجائزة نوبل وألقاب عديدة حصل عليها، حتى المبدعون المصريون يعطونه أقلامهم اعترافًا منهم بفضله عليهم في حفل عيد ميلاده عام ٢٠٠٥م، وكأنه الخلود الذي استبصر به في شخصية عاشور وغيابه الأسطوري. كما نلحظ في ذلك الغياب تأثُّرًا واضحًا بفكرة المهدي المنتظر، ولعل اختفاء عاشور الناجي دون موت وكأنه تأجيل للحكم؛ ليترك الباب مفتوحًا لنزلاء التكية الحاضرين الغائبين الذين لا يعرف أحد هل يموتون أم لا.
ويعد الاختفاء هنا تكريمًا بتجنب الموت (الفناء)، ولهذا كُرِّم عاشور بالاختفاء ليصبح في الوقت نفسه وعدًا باحتمال العودة بعد ذلك.
(١٣) الخلود الأسطوري وعلاقته بالتصوف
وها هو الحلاج يقول: «اقتلوني يا ثقاتي فإن حياتي في مماتي.» وكأنه الخلود الذي يبدأ بالموت وليس بالميلاد. وكان الحلاج مسقطًا لذاته في هذا القول، وهو الذي عاش مصلحًا اجتماعيًّا، وكأن التصوُّف الحقيقي في جوهره آلة دفع في خدمة الناس، وفي الارتقاء بهم وتقديم رؤًى لحل مشكلاتهم. ونجيب محفوظ مستبصر بكل ما سبق؛ فهو المصلح الاجتماعي، والمتصوف، والمبدع الذي يرى بعينَي زرقاء اليمامة، فيحذِّر مجتمعه وأمته العربية والعالم من خطورة غياب العدل الاجتماعي وتهميش الطبقة المتوسطة — في ظننا أنها الحرافيش — والديكتاتورية السياسية … إلخ.
(١٤) رمز النجاة من الشوطة (الإرهاب)
كان الحدث الأصعب في حياة نجيب محفوظ يوم الجمعة الخامس عشر من أكتوبر عام ١٩٩٤م عندما تعرَّض له شاب غضٌّ لم يقرأ كلمةً مما كتبه نجيب محفوظ ولم يكن يعرفه. هذا الشاب طعن نجيب محفوظ في أسفل عنقه، وفرَّ هاربًا إلى أن ألقي القبض عليه، ورغم جريمته النكراء إلَّا أنه قال جوابًا على سؤال له إنه غير نادم، وإنه لو سنحت له الفرصة فسيقوم بذلك ثانية. وقال: «إنه لم يقرأ لنجيب محفوظ حرفًا، لكن أميره أصدر فتوى بتكفير محفوظ، وهو نفَّذ ذلك.» وعانى نجيب محفوظ سنوات بسبب الاعتداء عليه، ووهن جسده، وخفَّ بصرُه، وثقل سمعه، وقلَّت حركته، وتقلَّصت مشاويره، وتحدَّد المقربون منه. ولكنه عاد ليزاول الإبداع ويكتب، وأصدر العديد من الأعمال، حتى كانت الأشهر الأخيرة؛ فعافت الروح جسدها الواهن، وتمرَّدت عليه وفارقته متسللةً لتترك الملايين من أقرب الناس إليه، حتى آخر من قرأ له في مواجهة صدمة الفراق المتوقَّع، لا ليقولوا: لماذا وكيف؟ وإنما ليمسحوا الدموع ويترحَّموا ويعودوا ليُعايشوه من جديد وسط العشرات والمئات من الناس. وهذا ما حدث لعاشور الناجي، فقد أحبه الناس وأُعجبوا به وناصروه، وقدَّم لهم أهم أعماله بعد نجاته من الموت، وفي خاتمة أيامه تمنَّوا عودته بعد غيابه، ولم يصدقوا موته، وظل طوال الملحمة الغائب الحاضر.
وينجو نجيب محفوظ من محاولة الاغتيال بمعجزة بعد عدة طعنات بالرقبة، وقد جاوز الثمانين من عمره يومذاك، ويتم العثور على الطبيب المنقذ قبل ركوب المصعد بثوانٍ معدودة، ليكون الاكتشاف بأنه من كبار المختصين في مثل هذه العمليات؛ لتتحقق معجزة النجاة من الموت — القتل — ليصبح الناجي من محاولة الاغتيال الآثمة — التي تشبه الشوطة التي ألمَّت بالحارة وقضت على من فيها في ملحمة الحرافيش — وهل كان تكفير المُبدعين والكُتَّاب والفنانين والمفكرين في أواخر الثمانينيات والتسعينيات، ورفع دعاوى الحسبة عليهم والتفريق بينهم وبين زوجاتهم — نصر حامد أبو زيد — بل واغتيالهم — فرج فودة — أو المطالبة بقتلهم — وهؤلاء كثير — وحديثًا المطالبة بعدم نشر ألف ليلة وليلة، أو الحجز على أثاث بيت الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي، ومشكلات مشابهة مع جابر عصفور وجمال الغيطاني وغيرهم، ووصول خطابات التهديد والوعيد لكثير منهم، وقتل أطفال المدارس والسائحين؛ شوطة تجتاح مصر حينها؟ يقينًا أن نعم، وها هو بمعجزة إلهية ينجو من القتل، ليصبح كما استبصر قبل عشرين عامًا، وبحدس هو عمق التجربة الإبداعية عاشور الناجي الرمز الأسطوري فيقول: «إنها الشوطة، تجيء لا يدري أحد من أين، تحصد الأرواح إلا من كتب الله له السلامة.
اسمعوا كلمة الحكومة.
أنصت الجميع باهتمام.
– تُرى أفي وسع الحكومة دفع البلاء؟
– تجنبوا الزحام، تجنبوا القهوة والبوظة والغرز!
الفرار من الموت إلى الموت! لشد ما تتجهمنا الحياة!» (الملحمة: ص٥٦).
ندرك الآن أن نجاة نجيب محفوظ من الاغتيال كانت لأن الله كتب له السلامة، وأنه قدم تصوُّرًا لمواجهة تلك الشوطة الجديدة — الإرهاب — يقوم على الحكومة والناس معًا، فلكل دوره ويجب الوفاء به.
وبعد الخروج من الحارة يقول نجيب محفوظ: «قضى عاشور وأسرته ما يقارب الستة الأشهر لم يغادر الكهف إلا ليحضر ماءً من حنفية الدرَّاسة، أو يبتاع علفًا للحمار أو بعض الضرورات في نطاق ما يملك» (الملحمة: ص٦٣).
(١٥) الزواج وأسماء الأبناء
يتزوَّج كلاهما عاشور الناجي ونجيب محفوظ بعد أن جاوزا الأربعين عامًا، فهذا هو عاشور الناجي يتزوَّج ثانيةً بعد أن غادر الشباب، كما تزوَّج نجيب محفوظ بعد أن غادر الشباب، فيقول عن عاشور: «وسعد الرجل — عاشور الناجي — بزواجه، حتى خُيِّل لمن رآه أنه رجع إلى شبابه الأول» (الملحمة: ص٥٢).
وينجب نجيب محفوظ بنتين وهما تساويان في القسمة كما يقول فقه المواريث والشهادة رجلًا واحدًا، وعاشور ينجب ولدًا واحدًا ويسميه شمس الدين — علامة على التمسك بالدين والنور الكامن والبادي فيه — فيقول نجيب محفوظ: «وتمضي الأيام وتحمل فلة، ثم تنجب ذكرًا يسميه أبوه شمس الدين» (الملحمة: ص٥٣).
ويسمي نجيب محفوظ ابنتيه فاطمة وأم كلثوم على أسماء بنات الرسول الأعظم محمد ﷺ، وفي هذا تديُّن واحترام لمبادئ الدين وتأسٍّ بالرسول، وهناك من الكُتَّاب من أرجع تلك التسمية إلى أنه كان يحب الاستماع إلى كوكب الشرق أم كلثوم، ولكن ماذا عن اسم فاطمة؟
فكما هو ثابت في علم النفس أن هناك حتميةً نفسيةً تكمن وراء اختيار أسماء الأبناء، ولعلنا لا نخالف الواقع إذا لاحظنا أن بعضًا ممن يظهرون سلوكًا متدينًا ويتشدَّقون بألفاظ عديدة عن الإسلام يطلقون على أبنائهم أسماءً ليست من أصل عربي أو إسلامي، بل هي من ثقافات أوروبية أو تركية أو فارسية.
وعاشور الناجي في الملحمة شخص متديِّن متصوف، ونجيب محفوظ تضج أعماله بمعاني التصوف والانتصار للدين.
(١٦) المال والثراء (جائزة نوبل)
يحصل عاشور على أموال أحد الأثرياء (اسمه البنان) فيقول: «وكلما خرج مبكرًا ليعد العربة جذبت عينيه دار البنان؛ تعجبه هامتها الأرجوانية، وضخامتها المهيبة، وأسرارها المنطوية» (الملحمة: ص٧٠).
ومَن مِن الأدباء والعلماء لا يحلم بجائزة نوبل؟! فيقول: «ويرسخ الإغراء في أعماقه وينفث أحلامًا سحرية. كما اشتاق يومًا إلى الاطلاع على أسرار التكية» (الملحمة: ص٧٠). وكأن الجائزة لها هيبتها ومتعتها كما التكية وما ترمز إليه. ويهتدي عاشور لحكمة جديدة بعد حصوله على ثروة البنان فيقول: «المال حرام ما لم يُنفق في الحلال. ومضى يذرع السلالم حائرًا، ثم تمتم: هو حلال ما دمنا ننفقه في الحلال» (الملحمة: ص٧٣).
ويدور الجدل حول أحقية عاشور لهذا المال والثروة — نلاحظ دلالة البنان التي تشير إلى أطراف الأصابع — وكأن الثروة ستحل على نجيب محفوظ من البنان أي الأصابع، وهذا دليل على الكتابة والإمساك بالقلم، وهذا ما تحقق بنوبل وأموال كثيرة جاءته من مهنة الكتابة أو كتابة سيناريو لبعض الأفلام السينمائية، بل ويُعرض عليه قُبيل خلوده إلى الرفيق الأعلى أموال طائلة لكي تَطبع واحدة من دور النشر مؤلفاته الكاملة.
ويحصل نجيب على جائزة نوبل فيصبح الجدل على أشُده حول الجائزة والصهيونية وأولاد حارتنا تارة، ومدى أحقيته بالجائزة والشبهات حولها تارةً أخرى، وكأنهم أرادوا سجنه في موالاته لذلك اللاكيان الصهيوني، ولكنه خرج منها — سجن معنوي — ولم يفقد شيئًا من حب الجماهير، كما حدث تمامًا لعاشور حيث سُجن أيضًا بتهمة أخذه المال.
ويهتم عاشور بعد ذلك بالتكية التي تمثِّل الإشعاع الرئيسي الذي يحمل معنى الكون كله؛ حيث الأناشيد التي تخرج منها آناء الليل وأطراف النهار، إنها رمز لقانون الخير «القوة» التي تهب للضعفاء أسباب الحياة لأعمال الخير وتعليم أولاد البسطاء الحرافيش. فيقول نجيب محفوظ على لسان عاشور: «لم أستأثر بالمال لنفسي، اعتبرته مال الله واعتبرت نفسي خادمًا له في إنفاقه على عباده، فلم يَعُد يوجد جائع ولا متعطل، ولم يعد ينقصنا شيء؛ فعندنا السبيل والحوض والزاوية» (الملحمة: ص٨٣).
ويقدم نجيب محفوظ قيمة الجائزة لأحد البنوك ويعمل وديعة — التكية — وتنظيم لجنة لرعاية الوديعة التي قرَّر أن يُعطى ريعها السنوي في كل مرة لإحدى الجهات العاملة في مجال خدمة الإنسان، فيكون الخلود بهذا الوقف الخيري، ورمز العطاء وتمسك بتعاليم الدين والزهد في متاع الدنيا، وكأنه ينفِّذ حديث الرسول: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث؛ صدقة جارية، أو ولد صالح يدعو له، أو علم يُنتفع به.»
(١٧) الموت (الغياب – النهاية)
شغل الموت نجيب محفوظ وهو ليس عدمًا، حيث يقول: «الموت لا يُجهز على الحياة، وإلا أجهز على نفسه.» والموت لا الولادة الجسدية هو البداية، والحياة هي إرادة التخلُّق من يقين الموت والوعي. فمنذ السطر الأول في الملحمة يقول: «في الممر العابر بين الموت والحياة.» وليس بين الولادة والموت، فالموت هو الأصل، والحياة احتمال قائم. هذه الحقيقة هي سدنة الملحمة ولبانتها. ومنذ البداية يواجهنا الموت يسير على أرجل حين أعلن عن نفسه بمواكب النعوش: «ميت جديد، ما أكثر أموات هذا الأسبوع! وأحيانًا تتابع النعوش كالطابور، ولا يفرق هذا الموت الكاسح بين غني وفقير.» وفي مواجهة هذا الموت منذ البداية، جرب عاشور الناجي الخوف لأول مرة في حياته، نهض مرتعدًا، مضى نحو القبو وهو يقول لنفسه إنه الموت، تساءل في أسًى وهو يقترب من مسكنه: لماذا تخاف الموت يا عاشور؟ ثم اقترنت رؤية الموت رأي العين بالهرب منه، فعاشور حين قرَّر شد الرحال هربًا من الشوطة — الطوفان — كان ذلك بناءً على حلم رآه وفهم منه أن الشيخ عفرة زيدان ينصحه بالهرب، فكان قوله الموجز المكثف لحميدو شيخ الحارة: «لقد رأيت الموت والحلم.» كان ذا دلالة خاصة، فقد استعمل فعل «رأيت» وكأنه يعني البصر والبصيرة معًا، وحينئذٍ جاء رد شيخ الحارة: «هذا هو الجنون بعينه، الموت لا يُرى.» ثم ننتبه إلى عطف الموت على الحلم دون زيادة، فنشعر وكأن الحلم هو البعد المكمل للموت. في الوقت نفسه نقيضه.
«– بل رأيت الموت أمس، ورائحته شممت.
– وهل الموت يعاند يا عاشور؟
– الموت حق.
– ولكنك تهرب.
ويخلَّد نجيب محفوظ في ٣٠ من شهر أغسطس من عام ٢٠٠٦م، وهو بداية فصل الخريف، ويا لها من أعجوبة! إذ يختفي عاشور الناجي في ملحمة الحرافيش في الخريف. تقول فلة زوجته مخاطبةً ابنها شمس الدين: «أبوك لم يرجع من سهرته!
فيرد: ماذا حدث؟
فقالت تتحدَّى هواجسها: لعل النوم قد غلبه.
ومضى وهو يقول: كيف يطيب السهر في فجر الخريف؟» (الملحمة: ص٩٠).
وما يُفهم من هذا المقطع أن الزمان هو نهاية الصيف وبداية الخريف، حيث الحر الشديد الذي لا يصلح معه السهر. ويفارقنا محفوظ في مثل هذا التوقيت تمامًا لتكون الأعجوبة الأخيرة التي يصدمنا بها، وليتأكد ما ذهبنا إليه في هذه النظرة الأولى على الحرافيش التي رأى فيها مصيره ونهايته وخلوده، إذ الخالدون لا يموتون أبدًا.
أما المعنى الأعمق فهو أن نجيب محفوظ منذ سنوات وهو يعيش في الخريف، حيث الذبول الجسمي وضعف السمع والبصر والقدرة على الحركة، والإصابة التي تركت آثارها فيه بعد محاولة الاعتداء عليه، وفقدان الأصدقاء والأهل بمرور الزمن، ومع ذلك فقد طاب له السهر في جو الخريف وكأنه يحس النهاية؛ فيقرر أن يأخذ من الحياة أكثر مما تريد أن تعطيه إياه، وقدَّم بعض إبداعاته في تلك الفترة مثل؛ أصداء السيرة الذاتية، التي كانت تُنشر في جريدة الأهرام، وأحلام فترة النقاهة، التي كانت تنشر تباعًا في مجلة نصف الدنيا.
لا شك أن حالة نجيب محفوظ الصحية وإصابته الأخيرة قد تركت آلامًا كبيرةً في نفوس محبيه وتلاميذه ومريديه، كلما وجدوه نائمًا أو يتركهم لينام بعد تدهور حالته الصحية ودخوله في غيبوبة أكثر من مرة.
أمَّا ساحة الإبداع قُبيل رحلة الوداع من المستشفى إلى مثواه الأخير، نتساءل أيضًا؛ هل استبصر نجيب محفوظ بهذا الموقف وهذه اللحظة حين وصف حالة عاشور الناجي حين غاب — نلاحظ دخول نجيب محفوظ في غيبوبة وغيابه عن الوعي وكأنه الغياب الذي حدث لعاشور — وابنه شمس الدين الذي ذهب ليسأل عنه ويطمئن عليه؟ — نلاحظ كل المحبين الذين ذهبوا لنجيب محفوظ وكأنهم أبناؤه — حين كتب المقطع التالي من الحرافيش.
«عمَّا قليل سيلقى أباه، سيجده مستلقيًا بلا غطاء.
واخترق القبو إلى الساحة.
سبقته عيناه وهو يتأهب لملحمة اللقاء، ولكنه وجد المكان خاليًا.
جال ببصره فيما حوله في صمت وقهر.
الساحة والتكية والسور العتيق ولا أثر لإنسان.
في هذا الموضع يجلس العملاق عادة، فأين ذهب؟» (الملحمة: ص٩٠).
هذا هو العملاق نجيب محفوظ كان يجلس بيننا فأين ذهب؟ إلى الخلود الأسطوري يقينًا.