الرمز والإزاحة والتكثيف في أحلام فترة النقاهة
***
(١) أمَّا قبل
(٢) قراءات سابقة لأحلام فترة النقاهة
من خلال استعراض بعض ما كُتب من دراسات حول كتاب أحلام فترة النقاهة، نلاحظ أن هناك احتفاءً يقدم رؤًى مهمةً تساعد في فهم النصوص؛ من أمثال عبد الرحمن أبو عوف، ويحيى الرخاوي، ومحمد المخزنجي، ومحمد المهدي، ومحمد سمير عبد السلام، وممدوح فراج النابي، وهناك من أفسد النصوص بتأويلاته مثل جمال قصاص. وصحيح أن يحيى الرخاوي أضاف إلى النصوص ما قد يفيد باعتباره كان من أصدقاء نجيب محفوظ وعاشره عن قرب، وربما قد تداعى أمامه — نجيب محفوظ — ببعض دلالات ورموز رواياته بما فيها أحلامه، ولكنه هاجم التحليل النفسي وإسهاماته في تأويل العمل الأدبي — كما سبق وأوضحنا في مقدمة الدراسة الحالية — معتبرًا التحليل النفسي وقفًا على فرويد وحده، ومتجاهلًا لكل الإسهامات اللاحقة من بعده وبخاصة في التراث الثقافي المصري على أيدي فرج أحمد فرج وتلامذته، الذين اهتموا اهتمامًا عظيمًا بتحليل أعمال نجيب محفوظ — لا يكفي المقام الحالي لذكر تلك الجهود — ومتحديًا أن يقوم مهتم بالتحليل النفسي بقراءة نصوص أحلام فترة النقاهة قراءةً تضيف إليها. هذه كانت واحدةً من دوافعنا، وكانت البداية، ثم كانت الدراسة الحالية.
(٣) الرمز وعلاقته بالحلم
(٤) الرمز الدال على شخصية نجيب محفوظ
توصَّلنا من خلال متابعتنا للحرافيش إلى أن نجيب محفوظ قد استبصر نفسه في شخصية عاشور الناجي بطل ملحمة الحرافيش، وأن الكثير مما حدث له في حياته قد حدث ما يشبهه في شخصية عاشور الناجي، ولقد اعتبرنا ذلك نوعًا من الاستبصار بالمستقبل والمصير، قد أتى من عمق التجربة الإبداعية والإنسانية لدى نجيب محفوظ، وكان يشبه في ذلك كبار المتصوفة الذين استبصروا بمصيرهم مثل أبي منصور الحلاج.
وعندما تقرأ أحلام فترة النقاهة يتبيَّن أن هناك مساحةً من الرمز الدال على الماضي في حياة نجيب محفوظ، كما يتضح وجود بعض الرموز الدالة على بعض أمنياته في المستقبل، وخاصةً بعد رحيله عن الحياة (جسدًا فقط؛ إذ الخالدون لا يموتون أبدًا، وهو كذلك بلا ريب). فكان ذلك باعثًا للبحث عن الرمز الشخصي في أحلام فترة النقاهة، ومن ثم سنعرض لبعض الأحلام التي تعبر عن ذلك الرمز الشخصي.
الحلم رقم «١٤٥»
عندما نقوم بالبحث عن الرمز في هذا الحلم نجد أن نجيب محفوظ يستحضر حفل حصوله على جائزة نوبل، وأنه بالفعل قد تبرَّع بالجائزة لأعمال الخير، وينتقد بشدة أولئك الذين شكَّكوا في الجائزة ومدى أحقيته بها، وكأنهم بهذا التشكيك فيها والهجوم عليها ومن بعدُ قيام بعض الجهلاء بتكفيره ومحاولة اغتياله، قد حوَّلوا الجائزة إلى قنبلة تقتل وتدمر، بدلًا من أن تقوم بالبناء والتقدُّم، فكانت النتيجة انفجارًا عظيمًا قضى على الإنسان والحيوان والنبات والجماد وكل شيء. وهنا يرمز نجيب محفوظ للجائزة بالكرة، وكأنه حصل على الكرة الأرضية وامتلكها، حيث شهرته العالمية في أنحاء الأرض، والذهب الخالص رمز على قيمة الجائزة، والذين قسَّموا الجائزة حوَّلوها لقنبلة وقتلوا الجميع، وتنكَّروا لفضل وعطاء نجيب محفوظ.
الحلم رقم «١٤٦»
وفي هذا الحلم يرمز نجيب محفوظ لنفسه أيضًا حيث انتصار العدو (قوى الظلام التي أفتت بقتله والذين قلَّلوا من قيمة جائزة نوبل)، أمَّا تمثال النهضة الذهبي المحفوظ فهو نجيب محفوظ (لاحظ الاتفاق في اسم نجيب محفوظ والصفة التي ألصقها بالتمثال «المحفوظ»)، ورمز الخزانة التاريخية هو تاريخ مصر أو تاريخ الأدب، وعندما ذهب ليحضر مفتاح الخزانة أيضًا تم وصفه ﺑ «المحفوظ» (نلاحظ تكرار نفس الصفة «المحفوظ»). أما الثعبان فيرمز لكل المخلصين الذين يتميَّزون بالحكمة — نلاحظ أن الثعبان يوضع على الكأس كرمز للشفاء والحكمة، ولذلك فهو يرسم كشعار على الصيدليات — والمحبين لنجيب محفوظ والذين يتمنى في أعماقه أن يحافظوا على تاريخه وأعماله، ويدافعوا عنه ضد قوى الظلام. وكم ستكون فرحته حين يؤدوا له هذه الأمنية وتلك الرغبة! وكم يدعو لهم بالتوفيق في أداء هذه المهمة له، ونلاحظ أيضًا تكرار لفظ «حفظ» المتفق مع صفة المحفوظ. ويرمز هذا الحلم بعامة إلى خوف نجيب محفوظ من النيل من تاريخه الشخصي، وعدم الوفاء لعطائه الأدبي والفني بعد وفاته، ولذلك فهو يوصي أحباءه ومريديه بوصية لعلهم يفهمونها ويرعونها حق رعايتها، إذ يبثُّهم خوفه من النسيان والتجاهل، ويطالبهم بحفظ تمثاله (تراثه) الذي أتقن صنعه ببراعة فائقة. ولمَ لا؟ أليس هو القائل «إن آفة حارتنا النسيان»؟
(٥) المرأة رمز الحياة
من العجيب أن يتصوَّر ناقد ما أن المرأة في أحلام فترة النقاهة هي المرأة الجسد «الجنس»، حتى وإن بدت الكلمات توحي بذلك، فيقينًا أن نجيب محفوظ في رحلته الأخيرة قد غلب عليه الرمز، وذلك من الأمور المنطقية، والتي تتناسب مع عمق ثقافته وتجربته الإبداعية، ونزعته للتصوف، ومن ثم فالمرأة في أحلام فترة النقاهة تعتبَر رمز الحياة، وما يرشدنا إلى قَبول أن تكون المرأة رمز الحياة أن الحياة نفسها مؤنثة، وأن الحياة توصف أحيانًا بأنها لعوب، وهذه واحدة من الصفات التي قد توصف بها المرأة حين تنحرف عن المقاصد الطيبة والأخلاقية.
الحلم رقم «٩٦»
يرمز الراوي هنا لكل إنسان يكدح عبر تاريخه من أجل الوصول لغاياته التي يرجوها، وعندما يريد الراحة ويستمتع بالحياة تقوم الحياة نفسها بتنبيهه إلى أن هناك ما يشغل البال. ويدعو لعدم تحقيق المتعة المنشودة بقوله: «ولكنها دفعتني بعيدًا وهي تنبهني إلى أن ضجة العراك تقترب من بيتي.» فتمحو تلك الكلمة أي رغبة في الاستمتاع والراحة، وأليست هذه هي الحياة في جوهرها؟ التي تمنحنا السعادة ثم تأخذها فجأةً وبدون مقدمات. وكأننا بنجيب محفوظ يستحضر قوله تعالى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ، أو قول الشاعر القديم:
الحلم رقم «٩٨»
في هذا الحلم تظهر الحبيبة «مالكة الفؤاد» باعتبارها رمز الحياة أيضًا، فالدنيا والحياة تملك أفئدة وعقول الناس جميعًا، ولذلك يسعَون نحوها بعد أن تفتنهم بجمالها وحسنها ومكاسبها، ويا لها من حبيبة تلعب بكل الناس فتوحي لهم بأنها تحبهم جميعًا وأنها ملك لكل واحد منهم على حدة! وعندما نلهث ونجري وراء الحياة، وعندما نقترب منها أكثر فأكثر نكتشف أنها ليست لنا، ولكنها تذهب لغيرنا، كما يقول نجيب محفوظ: «فرأيت الفتاة في الموضع الذي كنت فيه وهي تتأبط ذراع شاب بدا أنه خطيبها.» كما أن الشعور بقيمة الحياة من حيث بساطتها يتسق مع المرحلة العمرية التي وصل إليها نجيب محفوظ، فكلما تقدم السن بالإنسان كان إدراكه للحياة والدنيا أكثر عمقًا وفهمًا، كونها لا تساوي مثقال جناح بعوضة.
(٦) التكثيف في الأحلام
الحلم رقم «٩٧»
في هذا الحلم يتجلَّى التكثيف في الموضوعات كما يلي: (١) الحنين لذكرياته أيام الوظيفة. (٢) الزملاء. (٣) الجيل الجديد (الشباب). (٤) الموت. (٥) التجاهل والنسيان. (٦) الإحباط. (٧) الاهتمام بالمرأة (المترجمة الحسناء). (٨) الشعور بالوحدة. وهكذا استطاع نجيب محفوظ أن يقدم تكثيفًا رائعًا لعدد من الموضوعات في حلم واحد، ويكاد كل موضوع منها أن يحتل حلمًا أو أكثر، ولكنها قدرة إبداعية هائلة كانت قادرةً على صياغة كل هذا الإبداع في شكل حلم نموذجي لا نشك عندما نقرؤه أننا بصدد قراءة حلم مشبع بالتكثيف وبلاغة الإيجاز.
الحلم رقم «١٠٢»
في هذا الحلم يتَّضح التكثيف من حيث كثرة الموضوعات والرموز الاجتماعية عبر تاريخ مصر الحديث والمعاصر، وإليكم ما يمكن أن نقرأه في هذا الحلم من حيث الموضوعات وهي: (١) السكن. (٢) المستوى الاقتصادي المنخفض. (٣) المطر (الخير والشر معًا). (٤) السكان الجدد. (٥) الدفء والرعاية.
وأمَّا عن دلالة الحلم الاجتماعية فقد ظهر التكثيف فيها على النحو التالي: صعوبة الحياة وتكاليفها على المواطنين من الذين كانوا في الطبقة العليا قبل الثورة في عام ١٩٥٢م فاضطُرت هذه الطبقة للنزول إلى الدور التحتاني، إشارةً إلى التخلي عن الطبقة التي كانوا فيها، ولكن هذه الطبقة السفلى التي تم النزول إليها لم تكن مناسبةً أيضًا؛ فقد تميَّزت بالرطوبة وسوء المرافق إشارةً إلى عدم مناسبة تلك الطبقة أيضًا، وهناك محاولة الصعود للطبقة العليا مرةً ثانيةً (الدور الفوقاني)، ولكن هذا الصعود لهذه الطبقة لم يستمر كثيرًا حيث هطول المطر، مما يشير إلى التخبُّط والعشوائية التي أصابت بنية المجتمع المصري. وأخيرًا انهيار الطبقة العليا والوسطى معًا، ونزولهم إلى أسفل سافلين في بير السلم، وصعود الطبقة الجديدة (طبقة البرجوازيين) وبخاصة في السبعينيات وحتى الآن إلى الدور التحتاني، وسعادتها به. ثم يكشف عن أن في ظل العشوائية والتخبُّط سيصبح هذا الدور التحتاني أفضل الموجود، كانعكاس لتدهور المستوى الاقتصادي بوجه عام. ولنا أن نتساءل هل هذا الحلم يلخِّص تاريخ مصر الاجتماعي والاقتصادي من منتصف القرن العشرين وحتى الآن؟ أي تكثيف ذلك الذي قام به نجيب محفوظ!
الحلم رقم «١٠٠»
(٧) الإزاحة
الحلم رقم «١٠٤»
الحلم رقم «١٢٧»
في هذا الحلم تتجلَّى الإزاحة حيث يقوم واحد من المجتمعين في الفيلا بتوجيه الهجوم واللعنة والشتائم، وربما محاولة القتل إلى الضيوف المجتمعين (الصحبة)، بدلًا من توجيه ذلك إلى المستبد (صاحب الفيلا) بسبب استبداده وسيطرته وسطوته (فهو يختار موضع الجلسة وموضوع الحديث والأكل والشرب)، والإزاحة هنا تدل على أن الذين يرَون المستبد ولا يردونه عن استبداده (أي ينافقونه نتيجةً لبعض العطايا التي يحصلون عليها مثل السمر والسهر والطعام والشراب) يستحقون العقاب؛ لأنهم هم الذين يصنعون المستبد. ونجيب محفوظ يتمثَّل القول الشائع: «يا فرعون إيه فرعنك؟ قال: ما لاقيتش حد يلمني.»
ومن ثم فإن الرفض الكامن داخله للاستبداد قد قام بإزاحته على واحد من الحاضرين، وهذا اتساق وتصالح واضح مع نفسه الذي لا ينكره أبدًا من ميله لعدم التصادم مع السلطة.
وإطلالة على الحرافيش خصوصًا حكاية عاشور الناجي، سنجد أنها دعوة للثورة على التسلُّط بدأت من الحارة أيضًا. فلْنتأمل هذا الحوار الذي يدور بين أولاد الحارة.
«وذات يوم طرح عاشور هذا السؤال على الحرافيش: ماذا يُرجِع حارتنا إلى عهدها السعيد؟ (يقصد مواجهة الفتوَّة المتجبر شيخ الحارة حسُّونة السبع).
وأجاب أكثر من صوت: أن يرجع عاشور الناجي.
فتساءل باسمًا: هل يرجع الموتى؟
فأجاب أحدهم مقهقهًا: نعم.
قال بثبات: لا يحيا إلا الأحياء.
– نعم أحياء ولكن لا حياة لنا.
سأل: ماذا ينقصكم؟
– الرغيف.
– بل القوة.
– الرغيف أسهل منالًا.
– كلا.
وسأله صوت: إنك قوي عملاق، فهل تطمح إلى الفتونة؟ فقال آخر: ثم تنقلب كما انقلب وحيد جلال وسماحة. وقال ثالث: أو تقتل كما قتل فتح الباب.
فقال عاشور: حتى ولو صرت فتوةً صالحًا، فما يجدي ذلك؟»
إننا نرى خلال هذه البانوراما للأنماط الشعبية في حوارها الجمعي، ليست مجرد الحارة الخاصة كما زعموا، ولكنهم كل حارة وكل حي وكل مكان من أرض مصر. وتصلح الحارة أيضًا — عند نجيب محفوظ — ليترجم من خلالها رؤية الحاكم للشعب، وذلك من خلال سلوك «مراد عبد القوي» شيخ الحارة مع أهل الحارة، فهم في نظره ليسوا غير مجرد أرقام ونسب إحصائية في ماكينة العمل والإنتاج، أما القلب، والعقل فلا يقاس إليهما شيء. ولْنتابع هذا الحوار عندما راح عبد القوي يحاور عبد الله كصديق.
«الحارة شيء وأهلها شيء آخر …
أحلام إبداع وليست أحلام نوم
لم يكن نجيب محفوظ بالقادر عن الكف عن الإبداع بأي شكل من أشكاله، وعندما أصابه الوهن والضعف البدني استمرت رغبة الإبداع لديه، فكان ابتكاره للأحلام التي تعتبر الشكل الإبداعي الأخير لنجيب محفوظ، ولكي ندلل على ذلك سوف نعرض لخمسة أحلام هي الحلم ٢٠٢ والحلم ١٨٠، والأحلام الأخيرة التي كتبها قبل رحيله، ونُشرت بمجلة ضاد الصادرة عن اتحاد الكُتَّاب المصريين في عددها التذكاري عن نجيب محفوظ نوفمبر ٢٠٠٦م، وكان عددها ثلاثة، كما أُعيد نشر تلك الأحلام في الطبعة الحالية التي نعتمد عليها.
الحلم رقم «١٨٠»
الحلم رقم «١»
«رأيتني في مستشفًى لإجراء بعض التحاليل، وهناك علمت أن مصطفى النحاس يرقد في العنبر المجاور، فذهبت إليه وتأثرت لمنظره وقلت له: سلامتك رفعة الباشا.
فقال: إن المرض الذي أعانيه الثمرة الحتمية لنكران الجميل.
وفي هذا الحلم الذي يبدو وكأن نجيب محفوظ يعود مريضًا (مصطفى النحاس)، وهو أحد زعماء مصر، ويتضح مدى الإجلال والتقدير الذي يحفظه له واضحًا في كلمة رفعة الباشا، ولا ينكر أحد مدى تقدير نجيب محفوظ لمصطفى النحاس، ولكنه في الوقت نفسه يحذِّر نجيب محفوظ من نكران الجميل، وبخاصة لأولائك الذين خدموا مصر وضحوا من أجلها. ولا يستتر أن نجيب محفوظ يخشى من أن يتنكَّر له شعبه بعد رحيله — وما يدعم ذلك قول نجيب محفوظ نفسه إن آفة حارتنا النسيان — الذي بدأ يشعر قربه كما رحل من قبلُ مصطفى النحاس. وهذا الحلم بهذا الشكل والمضمون ليشير إلى كونه واحدًا من إبداع وحكمة نجيب محفوظ، واستبصاره بقرب رحيله.
الحلم رقم «٢»
في هذا الحلم يلفتنا نجيب محفوظ إلى ضرورة أن نُيَمِّمَ في واحد من اهتمامنا إلى أفريقيا التي ننتمي إليها جغرافيًّا، حيث تظهر المرأة الزنجية اللون والجميلة القسمات، خاصةً وهو يرى جمهرةً من المثقفين المصريين لا يرون الخير إلا في التوجُّه نحو الثقافة الغربية. ويأتي ختام الحلم بأن الحياة في أفريقيا لا تقل في رُقيِّها عن الحياة الغربية، كما يتحدَّث نجيب محفوظ بوعي غريب؛ فهو يرى أن أفريقيا لا بد وأن تدخل في موازنات القوى ثقافيًّا وسياسيًّا. وهل نستطيع أن نؤَوِّل النص «الحلم» إلى تحذيره من مغبة ترك الساحة الأفريقية للأيدي الإسرائيلية والأمريكية التي يمكن أن تهدد الأمن القومي لمصر، بتأجيج الصراع على مصادر المياه (يقصد النيل وحصة مصر منه)؟ — نلاحظ بعد ذلك الحلم بثلاث سنوات تقريبًا تظهر مشكلة تقسيم مياه نهر النيل على أشُدها، باعتبارها أخطر مشكلة يمكن أن تواجه الوطن في المستقبل، ولا يخفى أن هذا الحلم المعجزة والنبوءة قد نبهنا إلى ذلك الخطر، أو الفتن التي قد تنشأ في السودان — لا يخفى أن مسألة تقسيم السودان باتت وشيكة الحدوث، وما هي إلا شهور قليلة وتكون الدولة الجديدة في الجنوب أمرًا واقعًا، أو إثيوبيا التي تتزعَّم ضرورة خفض حصة مصر من مياه النيل، ولا غرابة في موقفها حين نعلم أن لها علاقات وثيقةً بإسرائيل، ولا ننسى أنها دعمتها من خلال هجرة اليهود الفلاشا من إثيوبيا إلى إسرائيل خلال السنوات الماضية، أو غيرهما مما يؤثر على مصر. وأحسبنا سنقدر هذا الحلم إذا لم ننتبه لفهمه وإعادة قراءته من جديد.
الحلم رقم «٢٢٨»
ونتساءل؛ هل هذا حلم أم إبداع ورسالة محمَّلة بخلاصة للفكر الداعي إلى تعليم الدين الصحيح كحل وحيد لمواجهة التطرُّف الذي عانى هو شخصيًّا من آثاره. ثم يقدم انتقاده للأحزاب السياسية في الحلم التالي.
الحلم رقم «٢٣٠»
الحلم رقم «٣»
«رأيتني سائرًا في الطريق في الهزيع الأخير من الليل، فترامى إلى سمعي صوت جميل وهو يغني.
زوروني كل سنة مرة!
في هذا الحلم المعجزة والنبوءة أيضًا يدرك نجيب محفوظ أنه سائر إلى الرفيق الأعلى، وهو يبتهج في هذه الرحلة وهذا السير؛ فهو يحب لقاء الله، ويتمنَّى بأن نزوره ونذكره ولو مرةً واحدةً في كل عام. ولا أملك إلا أن أقول له: «فلْيطمئن قلبك، فالخالدون لا يموتون أبدًا؛ لأنهم فوق الموت وفوق الحياة.»
(٨) قصيدة النثر في أحلام فترة النقاهة
الحلم رقم «١٢٢»
ولقد تم من خلال التقصي ما يدعم الرؤية بأن هذه الأحلام فن جديد من فنون السرد العربي ابتدعه نجيب محفوظ.
خاتمة
بعد أن عرضنا لنماذج من أحلام فترة النقاهة، ورأينا كيف استطاع نجيب محفوظ بقدرته الإبداعية الخارقة أن يقدم لونًا جديدًا من أنواع السرد في اللغة العربية (الرواية والقصة القصيرة والمقامة)، يقوم على الإيجاز، ويتفق مع آليات إخراج الحلم، كما جاءت في نظرية التحليل النفسي على مؤسسها سيجموند فرويد، يحق لنا أن نطلق عليه «الأحلام». ولعلنا نستحث نقاد الأدب بهذه النظرة أن يقدِّموا رؤيتهم وتنظيرهم لتصحيح ما نذهب إليه إن كان خاطئًا، أو أن يبنوا عليه إن كانت الأخرى. كما نود أن نختم بأن أحلام فترة النقاهة بحاجة لسلسلة من البحوث للكشف عن السيرة الذاتية والقدرة التنبؤية للمستقبل، كما تجلَّت في الأحلام وغيرها من الموضوعات الواجب دراستها، بالإضافة إلى الجوانب الجمالية والرمزية والفنية والصوفية ولغة الشعر، نقصد هنا أن هناك أحلامًا كثيرةً غلب عليها شكل قصيدة النثر الحديثة.