ضربات القدر وطعنات السكين بين بيتهوفن ونجيب محفوظ
«جاء في العدد رقم ٢٢٠ من مجلة الثقافة الجديدة الصادرة عن الهيئة العامة لقصور الثقافة في يناير ٢٠٠٩م، وتحت العنوان التالي؛ «انفراد، محمد سلماوي يروي الحلم الأخير لنجيب محفوظ.» وذُكر في الصفحة رقم ٣٢ ما يلي: «في ذلك المساء تطرَّق حديثنا — نجيب محفوظ ومحمد سلماوي — إلى الأحلام، فقال لي إن هناك حلمًا يحيِّره، فقد جاءه منذ بضعة أيام، لكنه كان ما زال يفكر كيف سيحوِّله إلى نص أدبي ينتظم مع بقية أحلام فترة النقاهة، ثم رواه لي فقال: إني حلمت بأنني كنت سائرًا في أحد الشوارع، وكان ينتابني خوف بسبب وجود بعض قُطَّاع الطرق الذين يهاجمون المارة ويسرقونهم وقد يصيبونهم بأذًى أيضًا بالمطاوي والسكاكين التي يحملونها. ووسط خوفي هذا قابلت بالمصادفة صديقي المرحوم الدكتور حسين فوزي، الذي أصبح يظهر الآن بشكل متكرر في أحلامي، وما إن رأيته حتى قصصت عليه قصة هؤلاء المجرمين الخارجين على القانون، والذين يتربصون بالناس في الطريق العام. فقال لي حسين فوزي على الفور: ده أنا أمنيتي أن أقابلهم، ألحقني بهم. فدُهشت لذلك لكني أخذته إلى حيث يوجدون وتركته ومضيت إلى حالي. وبعد فترة جاءني الدكتور حسين فوزي يقول: تعالى بقى شوف الحرامية بتوعك! فذهبت معه وأنا ما بين الخوف وحب الاستطلاع؛ فوجدت المجرمين الذين كنت أخافهم وقد ارتدَوا البدل السموكنج السوداء مثل عازفي الأوركسترا السيمفوني، وكل منهم أمامه النوتة وفي يده آلته، وهنا قال لي الدكتور حسين فوزي: حاسمعك دلوقتِ سيمفونية بيتهوفن الخامسة! وبالفعل عزفت لي أوركسترا قطاع الطرق السيمفونية الخامسة لبيتهوفن. وما إن انتهى الأستاذ من الحلم حتى قلت له إنه حلم جميل ومعناه أجمل؛ فهو يروي كيف يمكن للفن أن يحوِّل المجرم إلى عازف مرهف الحس، قال: لكني ما زلت أقلِّبه لا أعرف ماذا سأصنع به. وإلى أن رحل محفوظ بعد ذلك بخمس سنوات لم يكن قد نُشر هذا الحلم.»»
هذه هي المرة الأولى التي يتاح فيها نشر حلم حقيقي رآه نجيب محفوظ، ومن ثم سنحاول الإجابة على السؤال التالي.
ما دلالة الحلم؟ وهل يكشف عن إصابة نجيب محفوظ باضطراب الضغوط التالية للصدمة؟
هذا الحلم الذي بين أيدينا يستمد قيمته من أنه حلم حقيقي — نقي — رآه نجيب محفوظ أثناء النوم، ولم يتدخَّل فيه نجيب محفوظ بالإبداع، ومن ثم فهو يُعد وثيقةً مهمةً جدًّا تكشف في واحد من أهميتها عن الحالة النفسية التي عاشها نجيب محفوظ في عام ٢٠٠١م، كما يقرر بذلك محمد سلماوي بقوله: «وإلى أن رحل محفوظ بعد ذلك بخمس سنوات لم يكن قد نشر هذا الحلم.» ورحيله كان في عام ٢٠٠٦م. وإذا استحضرنا عناصر الحلم ودلالاتها لكي نقوم بتحليله فإننا سنكون أمام عنصر بيتهوفن والسيمفونية الخامسة، واللصوص والسكاكين والمطاوي، والدكتور حسين فوزي.
فأما الدكتور حسين فوزي فيُطلق عليه السندباد المصري، وهو عالم قدير، تولَّى رئاسة البرنامج الموسيقي بالإذاعة، وكان صديقًا لنجيب محفوظ، وكثيرًا ما تناقشوا في كل شيء تقريبًا، وكانا — حسين فوزي ونجيب محفوظ — من المداومين على حضور ندوة توفيق الحكيم بجريدة الأهرام.
واللصوص والمطاوي والسكاكين يرمزون إلى المجموعة الإرهابية التي حاولت قتله في حادث مؤلم ومروِّع وقاسٍ؛ إذ قام أحد الشباب بطعنه في رقبته وتمت النجاة بمعجزة. وظل من بعدها يعاني من آثار ذلك الحادث؛ حيث أصيب بشلل في يده وقلة الحركة مع ضعف السمع والبصر.
وكما يلاحظ في الحلم أن نجيب محفوظ صاحب طبيعة مسالمة محبة للحياة والخير والناس، ومتعاطف مع الطبقة المتوسطة في المجتمع، وأنه لم يغيِّر عاداته من حيث المشي في الشوارع والجلوس في المقاهي، وذلك بالرغم مما حققه من شهرة واسعة وسمعة عالمية وعمره المتقدم، فهو أثناء الحادث كان قد تجاوز الثمانين عامًا في ظل وهن الصحة واعتلالها وضعف حواسه. والمفاجأة حيث سرعة تنفيذ العملية — محاولة الاغتيال — حتى إنه ظن أن الشاب قادم ليحييه فهمَّ نجيب محفوظ برد تحيته، ولكن الشاب فاجأه وطعنه بالسكين.
أما لودفيج فان بيتهوفن (١٧٧٠–١٨٢٧م) فهو مؤلف موسيقي ألماني وُلد عام ١٧٧٠م في مدينة بون، يعتبر من أبرز عباقرة الموسيقى. وبدأ بيتهوفن يفقد سمعه في الثلاثينيات من عمره، إلا أن ذلك لم يؤثر على نتاجه الذي ازداد في تلك الفترة وتميَّز بالإبداع. ومن أجمل أعماله السيمفونية الخامسة. وبدأت إصابة بيتهوفن بصمم بسيط سنة ١٨٠٢م؛ فأخذ في الانسحاب من الأوساط الفنية تدريجيًّا. إلا أنه لم يتوقف عن الإنتاج الفني، ولكن أعماله أخذت اتجاهًا جديدًا. ومع ازدياد حالة الصمم التي أصابته امتنع عن العزف في الحفلات العامة، وابتعد عن الحياة الاجتماعية واتجه للوحدة، وقلَّت مؤلفاته، وأصبحت أكثر تعقيدًا، حتى إنه رد على انتقادات نقاده بأنه يعزف للأجيال القادمة. وفي مرحلة من حياته كان بيتهوفن يعاني من ضائقة مالية شديدة، وكان يسكن في الطابق السفلي، وفي هذه الأثناء تأخَّر بيتهوفن عن دفع الإيجار عدة شهور، وبعد عدة مرات طالبه فيها صاحب المنزل بالإيجار؛ بدأ بيتهوفن يتهرَّب من هذا الرجل، فينتظر خروجه إلى عمله في الصباح حتى يخرج بيتهوفن.
وفي أحد الأيام بينما كان بيتهوفن عائدًا من الخارج، وعندما وجد فناء المنزل خاليًا، تقدم ليصعد إلى السلم. وعند منتصف السلالم خرج صاحب البيت وشاهد بيتهوفن؛ فأخذ ينادي عليه، فما كان من بيتهوفن إلى أن قفز على السلالم حتى باب غرفته، ودخل وأغلقها خلفه وهو يشعر بخوف شديد، وصعد صاحب المنزل وهو متأكد أن بيتهوفن في الداخل، وأخذ يطرق الباب بعنف مناديًا على بيتهوفن ومهددًا إياه! وكان الرجل يطرق الباب على بيتهوفن أربع طرقات ولكن بمنتهى العنف والقوة! هنا، وفجأةً وبيتهوفن يستمع إلى كل هذه الطرقات، قفز إلى البيانو الموجود في وسط الغرفة، وأخذ يعزف مع الطرقات، كلما سمع دفعةً من الطرقات (أربع طرقات) أتبعها بأربع نغمات على البيانو وتوقف، ثم أربعة أخرى، ثم توقف. وهكذا لو سمعتم الحركة الأولى لوجدتموها عبارةً عن أربع دقات متتالية، ثم أربع أخرى، ثم أربع أخرى، تتابع بشكل أسرع، وألَّف بيتهوفن الحركة الأولى كلها منذ بدايتها إلى نهايتها معتمدًا على أربع دقات تتتابع وتتنوع بين آلات الأوركسترا.
أما عن تحليل الحركة الأولى المميزة لهذه السيمفونية، فإن بيتهوفن تخيَّل أن القدر — ممثل هنا في صاحب المنزل — قد هجم عليه بمنتهى القوة، وتوالت ضرباته على بيتهوفن لتجعل كل أوقاته تعيسة، وهي ضربات تتراوح ما بين القوة والضعف. وهكذا الضربات تتوالى حتى نهاية الحركة الأولى من هذه السيمفونية الرائعة التي سُميت «ضربات القدر».
وبعض هذه الأعراض قد تجاوزها نجيب محفوظ، ولكن بعضها الآخر ظل موجودًا في اللاشعور يؤرقه. ونعود الآن للحلم الحقيقي الذي بين أيدينا، فكما هو واضح في الحلم أن نجيب محفوظ لا يتمنى العقاب للمجرمين، ولكن يتمنى هدايتهم وإصلاحهم، وهذا يتفق مع رؤيته التي ذكرها في كتابه «وطني مصر»، وهو يضم عددًا من الحوارات أجراها معه محمد سلماوي فيها انتقاد للإرهاب والقمع ورغبته في توجيه الشباب للعمل والمعرفة والثقافة الجادة. كما أنه من الثابت أن نجيب محفوظ طلب العفو عن المتهمين في قضية محاولة الاغتيال عام ١٩٩٤م، ومن ثم فالحلم قد عبَّر عن تأثير اضطراب ضغوط ما بعد الصدمة عليه، حيث يستحضر جانبًا كبيرًا من الأزمة بحيث يتذكر الخوف المصاحب لها وفزعه من اللصوص وقطاع الطرق ونجاته منها وعفوه عنهم. نكتشف أيضًا أن نجيب محفوظ توحَّد ﺑ «بيتهوفن» الذي كان مصابًا بالصمم، واعتزل الناس، وكذلك نجيب محفوظ ضعف سمعه حتى اقترب من الصمم في سنواته الأخيرة، وضعف بصره لدرجة العمى؛ ولذلك اعتزل الناس إلا من بعض الزيارات القليلة. وبرغم ذلك أبدع «أصداء السيرة الذاتية» و«أحلام فترة النقاهة» — آخر ما كتب — وكذلك بيتهوفن أبدع أعظم أعماله في ظل فقدان السمع. وعندما نعرف أن السيمفونية الخامسة تحمل عنوان «ضربات القدر» يبدو أن الحلم من التجلي والوضوح، بحيث يكون هو الآخر ضربات للقدر، فضربات السكين في رقبة نجيب محفوظ في محاولة الاغتيال تشبه ضربات القدر في السيمفونية الخامسة.
وخلاصة التحليل النفسي لهذا الحلم النقي الحقيقي لنجيب محفوظ أنه دلالة على مرور نجيب محفوظ بأعراض اضطراب الضغوط التالية للصدمة، وإحساسه العميق بالإيمان بالقدر، وكأن اختياره لرموز الحلم — اللصوص والسيمفونية الخامسة لبيتهوفن وحسين فوزي — لهو تعبير صادق جدًّا عن بنائه النفسي المتسامح مع المخطئين، والمؤمن بدور الفن في علاج المجرمين.