كلمة لا بد منها
لأول مرة أُحِسُّ بأنني أُقدِّم شيئًا نفيسًا للقارئ العربي.
ولأول مرة أجدُني فخورًا بتقديم هذا السِّفْر الثمين الرائع.
ولعل القارئ يُدرِك لأول وهلةٍ مقدار الجهد الذي بذلتُه في نقل هذا
التراث الخالد من لغته الأصلية نقلًا لا يرقى إليه الشك، في ثوبٍ لا
يقل عن ثوبه الأصيل جمالًا وروعة.
ولكم يُسعِدني أن أكون أوَّل مصري، بل أوَّل عربي، قد أوفى هوميروس،
ذلك الشاعر الفريد، حقَّه علينا، بأن ترجمتُ له ملحمتَيه الأزليتَين
السرمديتَين!
ومما لا شك فيه أن كُلَّ من سَبَق له أن قرأ «الإلياذة» مترجمةً عن
النص اليوناني ضمن «مطبوعات كتابي» المشهورة، لَيتحرَّق شوقًا إلى
قراءة «الأوديسة» أيضًا مترجمة عن مصادرها الأصلية وعن اللغة التي
كتبَها بها هوميروس، فَلْتةُ زمانه وكلِّ زمان حتى هذا الأوان.
ولستُ مُكبرًا أو مُعظمًا هذا المجهود بدون وجه حقٍّ أو استحقاق،
ولكنني أُدرِك ما أقول، وأستبين خطورةَ ما أجاهر به من أن ترجمتي
لإلياذة هوميروس فيما مضى، ثم ترجمتي اليوم للأوديسة لنفس هذا الشاعر
الجبَّار لتُعَد في حدِّ ذاتها ووحدها، في تاريخ المكتبة العربية
والنهضة الفكرية الشرقية، حدثًا جللًا خطيرًا لا يمكن لأحد أن يغُضَّ
الطرف عنه أو أن يدَعَه يمُر عليه مَرَّ الكرام.
وليس هوميروس الشاعر، كسائر الشعراء، ولا هو كأيٍّ من الأدباء أو
القصصيين، بل يفوقهم الكثير، ويفوقهم بما هو أكثر من الكثير.
ولئن كان هوميروس يحتل بين الشعراء المكانة الأُولى منذ الأزل حتى
اليوم، فإن ملحمتَيه «الإلياذة» و«الأوديسة» لتحتلَّان كذلك الصدارة من
دون ما وصلَنا حتى عصرنا من ملاحمَ وقصصٍ رائعة.
هذه إذن «أوديسة» هوميروس، ملحمة هذا الشاعر الفطحل، وهي قصةٌ شعرية
بل ملحمةٌ قصصية راسخةٌ متينة البنيان، مكينة الأركان، تُصوِّر لنا
أمورًا لها العجب العجاب، وترسم لنا أحداثًا يشيب لهولها الولدان،
وتحمل إلينا أجواءً مفعمة بالعجائب والغرائب تبهرنا بروعتها، فتُزهق
أرواحنا حينًا، وتبعث الأنفاس فينا طورًا.
البطل أوديسيوس
طوفان من الوقائع والروائع في خِضَمٍّ من
الأحداث الممتعة الشيقة يقوم بها بطلٌ من أمجد أبطال الإغريق، ومن
أكثرهم براعةً في الأعمال وجسارةً في القتال ومهارةً في الخداع
والاحتيال.
هذا هو «أوديسيوس» Odysseus أو
«أولوسيس» Ulysseus أو
«أوليكسيس» Ulyxes أو «أوليكسيس» Ulixes، ابن لايرتيس Laertes ملك «إيثاكا» Ithaka و«أنتيكليا» Anticlea الذي تزوَّج بينيلوبي Penelope وأنجب منها ابنًا اسمه تيليماخوس Telemachus.
نعم، هذا هو أوديسيوس — كما كان يُحب الأغارقة أن يُسمُّوه —
أشهرُ أبطال الإغريق الصناديد؛ لأنه كان يفوقُهم في الصيت وبُعد
الشهرة.
إصابة أوديسيوس
ولأوديسيوس هذا — في شبابه — حكاية؛ فقد حدث أن التقى بخنزيرٍ
بَرِّي أثناء الصيد الذي اشترك فيه ذات يومٍ عند زيارة جدَّيه في
بارناسوس Parnassus فجرحه الخنزير
في ركبته أثناء صراعه معه، فترك هذا أثرًا في جسمه.
قوس أوديسيوس
واشتُهر أوديسيوس أيضًا بقوس له قصة، كان أبوه قد أرسله إلى
لاكيدايمون Lecedaemon في سفارة،
فأهداه صديقه المُضيف «إيفيتوس» Iphitus قوس «يوروتوس» Eurytus المشهور الذي ساعدَه في مناسبات طيبة.
وبعد مُضي عدة سنواتٍ قام أوديسيوس برحلةٍ ثانية ليحصُل من ورائها
على سُمٍّ لسهامه، طاف فيها حتى وصل «بافوس» Paphos لأن صديقًا له يُدعى «إلوس» Ilus كان يسكُن عن قرب، رفض الظعن
خوفًا من الآلهة.
دور أوديسيوس في زواج هيلينا
وكان أدويسيوس في ذلك الحين، أو قُبيل ذلك، قد انضم إلى جماعة
خُطَّاب «هيلينا» Helen الذين
وافقوا جميعًا على فكرة أوديسيوس بأن يتركوا لهيلينا، أفتَنِ نساء
عصرها، حريةَ اختيار زوجها، وأن يَحْموها في المستقبل وقتَ
الحاجة.
ولكم تَمنَّى أوديسيوس أن يتزوَّج هيلينا هذه؛ فقد كانت في عيونه
حلوةً كالشهد، بيد أنه لم يُوفَّق كما لم يُوفَّق غيره من
المتقدمين للزواج منها، ولكنه عزَّى نفسه بزواجه السابق من
بينيلوبي اللبيبة الغنية. وإلى هذا كان عليه أن يجنح إلى حياةٍ
سهلةٍ خالية من الهموم، فكان سعيدًا وملكًا قادرًا شهيرًا معروفًا
بكرمه واحترامه للآلهة وخاصة زوس، كبير الآلهة، وأثينا، ربة
الحكمة.
زوجة أوديسوس
كانت بينيلوبي، إذن زوجة أوديسيوس بطل الأبطال، فمن هي بينيلوبي
هذه؟!
كانت بينيلوبي ابنة «إيكاريوس» Icarius والحورية «بيريبويا» Periboea، أنجبَت بعد زواجها من أوديسيوس ولدًا
اسمه «تيليماخوس».
كان قد تقدم الكثيرون إلى بينيلوبي وهي عَذْراءُ يطلبون يدها،
ولكن والدها رفض أن يُزوِّجَها إلا لمن يفوز في سباقٍ على الأقدام،
ففاز أوديسيوس إلا أن إيكاريوس أراد أن يحنث في وعده، فاقترح
أوديسيوس أن يُترك الأمر لبينيلوبي تفصل فيه، فأبدت رغبتها في أن
تذهب معه بعد أن أخفَت حُمرة الخجل تحت النصيف.
وعندما سافر أوديسيوس إلى الحرب الطروادية كانت بينيلوبي لا تزال
فتاة في ريعان الصبا، كما كان تيليماخوس طفلًا، فانتظَرتْه عشرين
عامًا استغرقَت الحرب منها عشر سنين، وكان يتجوَّل أوديسيوس في
العشر سنين الأخرى.
العشاق ينهبون وبينيلوبي تخدعهم
وليس غريبًا أن يكون قد
التفَّ حول منزل بينيلوبي، إبَّان غياب بعلها، كثيرٌ من طالبي يدها
وراغبي الزواج منها، ثم راحوا يُجرِّدونها من أملاكها، ويُنغِّصون
عليها عيشتها، قائمين في منزلها ليلَ نهارَ آكلين وشاربين، ينتظرون
كلمتها ورضوخها للزواج من أحدهم.
وقد أفلحت بينيلوبي، المخلصة في مراوغتهم ثلاث سنوات بأن احتجت
بأنها لا بد وأن تنسج كفنًا للايرتيس والد أوديسيوس العجوز، ثم
تَفصِل في الأمر بعد أن يتم، ولكنها كانت تحلُّ بالليل ما تنسجُه
بالنهار. وأخيرًا وشى بها خدامها وأطلعوا راغبي الزواج على حيلتها،
وتحرَّجَت الحال لآخر درجة، حتى عاد أوديسيوس في ثوبِ سائلٍ،
فتعرَّفَت عليه زوجته مستعينةً بعدة علامات، وابتهجَت بعودة
أوديسيوس ورجوع سعادتها وهنائها.
كيف صوَّر الشاعر زوجة البطل؟
كانت بينيلوبي إذن تُعتبَر مثال الزوجة المخلصة التقية، الصالحة
الوفية التي صوَّرها هوميروس في الأوديسة كامرأةٍ رائعة الجمال
حميدة الخصال، كريمةٍ ذكية فطنة وفية، محبة لزوجها وابنها مُحتَرمة
في بيتها، ماهرة في الفنون التربيبية، تتحمل المصائب بجلد وروية،
رقيقة الإحساس مُوقَّرة بين الناس.
أوديسيوس يتظاهر بالجنون
نعود الآن إلى المغوار أوديسيوس لنذكُر لك شيئًا عن مغامراته
وأحاييله.
لما خطَف «باريس» Paris
«هيلينا» من زوجها «مينيلاوس» Menelaus، قامت الحرب الطروادية. وبالرغم من
محاولات أوديسيوس السابقة لحماية مصالح هيلينا وزوجها، كان غيرَ
راغبٍ في الذهاب إلى الحرب، فتظاهَر بالجنون وصار يحرُث مع
الحيوانات التي لا يمكن وضع النِّير فوق أعناقها، وأخذ يبذر الملح
كأنه يبذر بذورًا، ولكن «بالاميديس» Palamedes أحد أبطال الإغريق، أدرك هذه الحيلة
واتهم أوديسيوس بادعاء الجنون، وبرهَن على صحة قوله بأن وضَع
تيليماخوس — ابنه الوحيد — في طريق المحراث ليرى هل سيتفادى
أوديسيوس ابنه. وترتب على ذلك أن ذهَب أوديسيوس إلى الحرب تطنُّ في
آذانه النبوءة المحزنة القائلة بأنه سوف لا يرجع إلى بلده إلا بعد
عشرين عامًا، ويكون وحيدًا مُعوِزًا مجهول الشخصية فاقدًا جميعَ
سُفنه ورفاقه.
حرب طروادة
والآن، ما الدور الذي لعبه أوديسيوس في تلك الحرب الضروس التي
قامت في «طروادة» Troy واستَمرَّت
عشر سنواتٍ من أجل الملعونة هيلينا؟!
عندما احتشدَت السفن بالقرب من طروادة كانت سُفنُ أوديسيوس
الاثنتا عشرة في وسط الصف عند الشاطئ حيث كان مركز القيادة العامة.
وكان أوديسيوس أحد الرؤساء العظام في هذه الحرب الذين اتصفوا
بالقوة والإقدام وسرعة العَدْو. وكان أشهَر رجلٍ في استخدام القوس
بعد «فيلوكتيتيس» Philoetetes،
وكان هو المسئول عن النصر والدفاع العنيف ساعة اليأس، وبالأخص في
المشورة؛ إذ كان أحكَم الجميع في وضع الخطط، وأكثرهم فصاحةً وقوة
إقناع؛ ولذا كان سفيرًا جديرًا ورجلًا عظيمًا يقضي على الخلافات
ويُسوِّي الأمور التي تنشب بين الإغريق بدهائه وقوة تفكيره؛ فهو
الذي أعاد خروسايس Chryseis
ثانيةً إلى أبيها بناءً على رغبة «أجاممنون» Agammemnon أكبرِ قادة الإغريق.
أوديسيوس يتدثَّر في ملابس النساء
وقبل أن ينضم «أخيل» Achilles
إلى قوات طروادة كان من مهام أوديسيوس البحث عن أخيل وحثُّه على
المجيء بعد أن كان مختفيًا في قصر «اللوكوميديس» Lycomedes متنكرًا في ملابس النساء تبعًا للخطة
التي دبَّرتْها أمه كي تحول بينه وبين الموت الذي ينتظره في
طروادة، فاخترق أوديسيوس باب القصر في زيِّ بائعٍ وعرض على السيدات
أسلحةً بين السلع الأخرى التي تجذب رغبة النساء، فأُعجب أخيل
بالأسلحة، وبذا كشف عن شخصه، واضطرَّ إلى مصاحبة أوديسيوس مع
«أجاكس
التيلاموني» Ajax the Telamonian للحصول على درع أخيل ففاز به.
كما أحضر «نيوبتوليموس» Neoptolemus بن أخيل إلى الحرب ليعمل محل أبيه،
وأقنع «فيلوكتيتيس» أن يدخل الحرب بعد أن صار معلومًا أنه لا يمكن
الاستيلاء على طروادة إلا بسهام هرقل Hercules التي في حوزته، فتنكَّر أوديسيوس في ثوبٍ بالٍ
لأحد العبيد، ودخل طروادة مع ديوميديس Diomedes كجاسوس، ونجح في حمل البالاديوم Palladium، وكان تمثالًا
لأثينا.
حصان طروادة
وإلى أوديسيوس يرجع الفضل في بقاء المدينة
يُخيِّم عليها السلام طُول مدة إقامته فيها. كما يرجع إليه الفضل
أيضًا في سقوط المدينة أخيرًا؛ إذ هو الذي وضع خطة الحصان الخشبي،
وقاد بنفسه جماعة المحاربين المختبئين داخله، وساعد في الاستيلاء
على هيلينا وأفلح في إرجاعها دون أن يلحقها أدنى ضرر، إلى
مينيلاوس.
عودة أوديسيوس من حرب طروادة
وهكذا انقضَت عشر سنين على غياب أوديسيوس عن
وطنه، وبعد ذلك ابتدأَت العودة إلى إيثاكا Ithaka التي اتخذها هوميروس موضوعًا لأوديسته Odyssey، فكانت أعظَم وأوَّل الأشعار
الحماسية مكانة.
رسا أسطول أوديسيوس في أول الأمر تكتنفه الرياح والأعاصير عند
«إسماروس» Ismarus مدينة
«الكيكونيين» Ciconians الذين
قتلوا عددًا من رجاله دفاعًا عن أنفسهم من النهب والسلب. وبعد ذلك
هبَّت ريحٌ شمالية عاتية استمرَّت عدة أيامٍ، فدفعَت الأسطولَ
بعيدًا إلى بلاد قومٍ يأكلون اللوتس، وبمجرَّد رسُوِّهم أرسل
أوديسيوس إلى السكان ثلاثةَ سُفراءَ من رجاله. فاستقبلوهم بكل
حفاوة وقدَّموا إليهم طعامًا من اللوتس كان تأثيره عليهم أن
أفقدَهم كل حنينٍ إلى الأهل والوطن، فلما لاحظ أوديسيوس الخطر
المُحدِق به وبرجاله أمرهم أن يتعلَّقوا بالسفن ثانية، فأبحروا حيث
وصلوا إلى بلاد «الكوكلوبيس» Cyclopes، وهم عمالقة ليس لهم إلا عينٌ واحدة،
يقطنون المغارات ويَرعَون الأغنام، فرسَا على شاطئهم وخرج هو واثنا
عشر رجلًا من زملائه الأشداء يجوسون خلال البلاد، فوجدوا كهفًا
لأحد الكوكلوبيس يُدعى بولوفيموس Polyphemus الذي عندما رآهم في كهفه أمسك باثنَين
منهم، وطرحهما أرضًا وابتلعَهُما، وحبس البقية في الكهف، ووضع
حجرًا ضخمًا على مدخله ليمنع خروجهم، ولكن أوديسيوس تغلَّب عليه
بدهائه، فأعطاه جرعاتٍ كبيرة من خمرٍ شديدة التأثير كان قد أحضَرها
معه. ولما نام من فعل الخمر وضع أوديسيوس قضيبًا هائلًا في النار
حتى استعر، وفقأ به عين بولوفيموس الذي هام على وجهه يصرخ داخل
الكهف وهو في سكرة الموت مناديًا زملاءه لنجدته، فلما لبَّوا نداءه
وسألوه عما أصابه أجابهم أن نومان Noman يقتله (ومعنى نومان «لا أحد») إذ كان أوديسيوس
أخبره بأن اسمه «نومان» فتركوه وانصرفوا قائلين إذا كان لا أحد
يقتلك فلا بُد وأن يكون ذلك فِعْل الآلهة، وهذه هي النهاية آتية من
عند زوس.
ولما قاد بولوفيموس الأعمى أغنامه في الصباح، ربط أوديسيوس
زملاءه تحت بطونها وهرب هو شخصيًّا بأن اختبأ تحت جسم كبشٍ كبير،
وبذلك أفلَت هو وزملاؤه من العملاق الذي كان يتحسَّس ظهور جميع
الأغنام وهي خارجة من باب الكهف.
ولمَّا ركبوا سفنهم أخذوا يُجدِّفون بسرعة، ولكن أوديسيوس لم
يُطِق كتمان شخصيته عن العملاق فنادى بأعلى صوته وأعلن اسمه
الحقيقي للعملاق، فتَميَّز الكوكلوب من شدة الغيظ، وألقى بصخرةٍ
هائلة نحو السفينة فأخطأها.
لعنة الكوكلوب تنزل على أوديسيوس
فصلَّى الكوكلوب الأعمى إلى أبيه بوسايدون Poseidon، رب البحر، أن يعاقب
أوديسيوس فلا يعيده إلى وطنه، وإن سمح له بالرجوع إلى وطنه،
فليَصِل وحده وبعد كل مشقةٍ وعناء، وتُلاقيه صعابٌ هناك.
اقترب أوديسيوس بأسطوله من جزيرة أيولوس Aeolus، ملك الرياح، الذي أكرمهم عنده شهرًا. وعند
رحيلهم سلط عليهم ريحًا مواتية لتشُق طريقَهم إلى الوطن، بينما حجز
جميع الرياح والزوابع المضادَّة في حقيبة من الجلد، وأعطاها
لأوديسيوس ليحتفظ بها حتى يصل إلى وطنه. ولمَّا صاروا قاب قوسَين
أو أدنى من أرض الوطن فتح البحَّارة الحقيبة في أثناء نوم
أوديسيوس، فجرفَتْهم الأعاصير إلى أيولوس ثانية، فلم يستقبلهم هذه
المرة.
فأبحروا بصعوبة حتى وصلوا إلى بلاد اللايستروجونيين Laestrygonians التي جذَب
ميناؤها إحدى عشرةَ سفينةً فوَلجَتْه. أما أوديسيوس فقد ظل خارج
الميناء، وكان حرصه هذا سببًا في نجاته؛ لأن السكان المتوحشين آكلي
لحوم البشر أغرقوا جميع السفن الأخرى، وقتلوا رجالها، فنجا
أوديسيوس بسفينته.
فلما وصل إلى جزيرة إيايا Aeaea
حيث كانت تَحكُم الساحرة كيركي Circe أرسل أوديسيوس رجاله لاستكشاف الجزيرة،
فحوَّلَتهم كيركي إلى خنازير، ولكن قائدهم يورولوخوس Eurolochus شك في أمرها فلم يذُق
طعامها السحري، وبذا نجا وأخبر أوديسيوس بالأمر، فخَفَّ في الحال
لنجدة رفقائه، فقابله هيرميس Hermes، رسول الآلهة، في الطريق وأعطاه نباتًا
واقيًا من السحر، فتحصَّن به وذهب لمقابلة كيركي شاهرًا سيفه
وهدَّدها بالموت إن لم تُطلِق سراح رجاله، ففعلت ذلك وما هو أكثر
من ذلك؛ إذ استقبلَتْهم جميعًا. وبهذا استمالت أوديسيوس فظل
بجوارها عامًا.
وأخيرًا حضَّه زملاؤه على الرحيل أولًا لزيارة بلاد الكيمبريين Cimbri وهي جزء من مملكة
بلوتو Pluto، رب الجحيم، لاستشارة
النبي تيريسياس Teirisias عن
مستقبله. وكان عليه أن يركب البحر كي يقوم بهذا، وأن يترك سفينَته
تحت رحمة الرياح تسوقُها أينما شاءت.
فعل ذلك وحَطَّ رحاله، وحفر خندقًا يجري فيه دم الحيوانات التي
نَحرها ذبيحةً للآلهة، فتجمَّعَت أرواح الموتى لتشرب من الماء،
فسمح أوديسيوس لتيريسياس أن يشرب فاسترجع قدرته على الحديث
وتَفوَّه بالنصائح والمعلومات المطلوبة، ثم شربَت والدة أوديسيوس
حتى صارت قادرةً على إطلاعه على حالة الوطن السيئة، كما تكلم معه
كثيرٌ من أولئك القُوَّاد الأبطال الذين ماتوا في حرب طروادة؛ ومن
ثَمَّ عاد أوديسيوس إلى كيركي، وأقلع إلى وطنه هو وجميع رفاقه،
فسار بمركَبه حِذاءَ الساحل حيث غنَّت السيرينيس Serines تُغوي الرجال إلى هلاكهم، فأراد أن يستمع
إلى أغنياتهن رغم تحذير كيركي جميع رجاله، إلا أن أوديسيوس أغلق
آذانهم بالشمع وأمرهم أن يُجدِّفوا عَبْر السيرينيس، ورغم أنها
جذَبَتْه كثيرًا كما جذَبَت الرجال الآخرين إلا أنه نجا.
أوديسيوس وسط وحوش البحر
أما المغامرة التالية فقد أودت به خلال مضيقٍ
يقوم على أحد جانبَيه حيوانٌ مخيف يُسمَّى خاروبديس Charybdes، غاطسًا في البحر ثلاثة
أيامٍ بالقرب منه وفوق ظهره جميع السفن. كما تقوم على الجانب الآخر
سكولا Scylla التي لا تقلُّ
بشاعةً عن الوحش، وكانت تبتلعُ كل من يصل إليها برءوسها الكثيرة،
فتتبَّع أوديسيوس تعليمات كيركي، وبذلك صان مركبته من خاروبديس،
ولكنه أبحر بالقرب من سكولا كثيرًا، ففقَد ستةً من رجاله استطاع
الوحش أن يمسك بهم أمام عينَي رأسه. ووصلوا بعد ذلك إلى
ثريناكيا Thrinacia حيث كانت
تَحجز ماشيةُ هيليوس Helius
الشمس. وكان أوديسيوس على وشك الرحيل لو لم تُحذِّره كيركي
وتيريسياس بأنه إذا قتل هذه الحيوانات المقدسة يجلب على نفسه
عقابًا قاسيًا، ولكن رجاله طلبوا أن يستريحوا فترةً؛ إذ كانوا في
حالة يُرثَى لها من شدة الإعياء والتعب، ووعدوه ألا يمسُّوا شيئًا
منها، فوافق أوديسيوس. غير أن الرياح المضادة حالت بينهم وبين
الإبحار مدةً طويلة حتى نفدَت مئونتهم، فانتهزوا فرصة نوم أوديسيوس
ذات يومٍ وذبحوا بعضًا من الماشية وأقاموا وليمة، فتألَّم هيليوس
من هذا التصرُّف واشتكى إلى زوس أمام الآلهة وطلب إنزال العقوبة
بهم، فلما ظعن أوديسيوس في النهاية، أرسل زوس عليهم ريحًا صرصرًا
عاتية حطَّمَت المركب، وأغرقت جميع الرجال ما خلا أوديسيوس
لبراءته، فأمسك بحُطام السفينة وحملَتْه الأمواج إلى خاروبديس مرةً
ثانية، غير أنه استطاع النجاة من شره بصعوبةٍ بأن تعلَّق بشجرة عند
حافة الماء ثم جدَّف بيدَيه مستندًا إلى كتلةٍ خشبية، وبعد أيامٍ
قذفَتْه الأمواج إلى ساحل أوجوجيا Ogygia جزيرة كالوبسو Calypso، فاستقبلَتْه الحورية بكل ترحاب، ثم هامت
بحُبه وأبقَتْه معها مدةً تزيد على سبع سنوات، ثم اشتاق إلى وطنه
وكانت تنقصه السفينة والملاحون، فحاولَت هي أن تَثنيَه عن عزمه بأن
وعدَتْه الخلود والشباب الأبدي إن بقي معها، ولكن لم يُجدِ ذلك
فتيلًا. وأخيرًا تشفَّعَت له أثينا عند زوس فأرسل هيرميس يأمر
كالوبسو بمساعدته في الرحيل، فاشتركَت معه في بناء زورقٍ سطحي،
وأمدَّتْه بالمؤن اللازمة للرحلة، فظل يُبحِر عدة أيام حتى لمحه
بوسايدون من بعيد وأحدث زوبعةً هشَّمَت زورقه. وفي هذه المحنة
قدَّمَت إليه ليوكوثيا Leocothea
حورية البحر، وشاحًا لفَّه حول وسطه فساعده كثيرًا؛ إذ استطاع أن
يسبح به ثلاثة أيام تقريبًا حتى وصل أخيرًا إلى شواطئ سخوريا Schyria، أرض الفياكيس Phaeaces. وكان هذا الشعب المسالم
القريب الوصول إلى الآلهة، شعبًا مهنته الإبحار وديدنه فنون البحر،
وكانت لسفنه سرعة الطيور ولا تحتاج إلى مُرشدٍ يقودها؛ إذ إن السفن
نفسها لم تنقصها الفطنة.
ناوسيكا تنقذ أوديسيوس
استلقى أوديسيوس منهوك القوى من جرَّاء كفاحه العنيف مع الأمواج،
فوق كَومةٍ من أوراق الأشجار بين الأعشاب، فجاءت في ذلك الوقت
ناوسيكا Nausica ابنة الملك إلى
الشاطئ تصحبها خادمتها كي تغسل ملابسها، وكانت أثينا قد أمرتها في
حُلمٍ أن تذهب هناك؛ لأنها أرادت منها مساعدة أوديسيوس، فأقلق
حديثُهن أوديسيوس وتقدَّم إليهن يطلب المساعدة، فأزعجهن منظره،
ولكن توسلاته حرَّكَت ناوسيكا فوعدته بحماية والدها، وأعطته ملابس
جديدة استقبله بها الملك ألكينوس Alcinous، وبعد أن عَرضَ أمام الملك شجاعته الرياضية
في المباريات، عاد إلى القصر ثانيةً واستمع إلى أنشودة ديمودوكوس Demodocus المُغنِّي الأعمى الذي ظل
يتغنى بحصان طروادة الخشبي، فحرَّكَت الأغنية مشاعر أوديسيوس، فبكى
أوديسيوس وأطلعَهم على اسمه الذي كان معروفًا لهم منذ زمنٍ طويل،
وبناءً على رغبة الملك أعاد أوديسيوس على مسامعه ذكريات مغامراته،
وتحقيقًا لتوسلاته الملحَّة أُرسِل إلى وطنه على ظهر سفينة وقفت به
عند إيثاكا ثم أبحرت، ولكن بوسايدون في ثورة غضبه حوَّلَها إلى
حجرٍ وثبَّتَها في البحر كجزيرةٍ صخرية.
عودة أوديسيوس إلى وطنه
وهكذا بعد مرور عشرين عامًا عاد أوديسيوس ثانية إلى وطنه الأصلي،
بَيْد أن مخاطراته لم تكن قد انتهت بعدُ، فلما استيقظ جاءت إليه
أثينا وحذَّرتْه بأن كثيرًا من شبان الوطن المتقدمين للزواج من
بينيلوبي، يقومون بإدارة الوطن في بيته بدلًا من بينيلوبي نفسها
وابنها تيليماخوس، ثم حوَّلَت الربَّة شكلَه إلى شحَّاذٍ يلبس
أسمالًا بالية لكي تحميه، فذهب في زيِّه هذا إلى كوخ يومايوس Eumaeus راعي خنازيره الأمين،
فاستقبله ولو أنه لم يتعرف عليه. وعند ذلك جاء تيليماخوس عائدًا من
رحلته الطويلة التي كان يبحث فيها عن معلوماتٍ عن والده، فكشف
أوديسيوس القناع عن حقيقة شخصه، ووضعَا معًا الخطة التي يمكن بها
استرجاع الحكم. وفي اليوم التالي ذهب في حُلَّته البالية إلى بيته
حيث لم يتعرَّف عليه أحد غير كلبه العجوز «أرجوس» Argos الذي مات من الفرح عند مقابلة سيده. أما
المتقدِّمون للزواج من بينيلوبي فسخروا منه، ولكن بينيلوبي أحسنَت
استقباله، وأمرت خادمتها المُسنَّة يوروكليا Euryclia أن تغسل قدمَي الغريب. وفي أثناء قيامها
بغسل قدمَيه اكتشفَت العلامة القديمة التي كان الخنزير الوحشي قد
تركَها فيه منذ عدة سنوات، وبذلك تعرَّفَت عليه.
مباراة تنقلب إلى مذبحة
وبأمرٍ من أثينا اقترحت بينيلوبي إقامة مباراة بين طالبي الزواج
منها، وجعلَت من حق الفائز أن يتزوجها؛ لأنها ظنَّت كما ظن الناس
جميعًا أن أوديسيوس قد لقي حتفه؛ لأنها حتى هذه الآونة كانت
تُنحِّيهم بنسيجها؛ إذ اتفقت أن تتزوج بعد أن تنتهي من ذلك النسيج.
وكانت تنسج بالنهار قليلًا ثم تعود بالليل فتحُل ما نسجَتْه. وفي
النهاية اكتشف المتقدمون للزواج منها حيلتها، فاقترحت عليهم أخيرًا
أن يحاول كل واحدٍ منهم شد وتَر قوسِ أوديسيوس الشهيرة ثم يطلق به
سهمًا خلال اثنتَي عشرة حلقةً متراصة في صفٍّ واحد، فوافق الجميع
إلا أنه لم يتمكَّن أحد من تركيب الوتر للقوس، فأعطى تيليماخوس
الشحَّاذ فرصةً كي يُجرِّب حظه وسط ضحك وسخرية المتقدمين للزواج،
فإذا بأوديسيوس يُركِّب الوتر بمنتهى السهولة إلى قوسه ويقذف
بالسهم خلال الحلقات، ثم انتقى سريعًا هدفًا آخر وسدَّد سهمًا إلى
أكثر المتقدمين للزواج سفاهةً فأرداه قتيلًا، فأسرع الجميع يبحثون
عن أقواسهم وعُدَّتهم التي سبق أن أخفاها تيليماخوس، ثم حاولوا
الهروب، بيد أن الأبواب كانت مُغلَقة. وبذلك تمكن أوديسيوس
وتيليماخوس وراعي الخنازير بمساعدة أثينا من قتل جميع المتقدمين
للزواج، ولكن بينيلوبي حتى هذه اللحظة لم تكن تثق بأنه هو أوديسيوس
حتى تبيَّنَت شخصيته تمامًا عندما قَصَّ عليها أسرارًا كانت تعرفها
هي وحدها. وواجه أوديسيوس حربًا أخرى عندما جاء أقارب المتقدمين
للزواج كي ينتقموا منه فهزمهم وأقام صرح السلام. ولو كان لنا أن
نؤمن بقول تيريسياس فإن أوديسيوس عُمِّر طويلًا، ومات أخيرًا في
وطنه في هدوء وسلام.
•••
هذه كلمةٌ جامعة لهذا العمل الذي بين يدَيك، وعُجالة تكشف لك
دعامات القصة التي أنت بصدد قراءتها، مع تصويرٍ لأبرز
أحداثها.
•••
بيد أنه لا تثريب عليَّ لو وجدتَني أنتقل من هذه العُجالة إلى
موضوعٍ آخر، إلى هوميروس نفسه، إلى الشاعر الذي ترجمنا لك أشعاره
في لذةٍ تفوق الوصف؛ فمما لا شك فيه أنه جديرٌ بعنايتنا وبالغ
اهتمامنا.