الأنشودة الرابعة
وصول تيليماخوس إلى بيت مينيلاوس
خادم مينيلاوس يرى الضيفَين
«أي مينيلاوس، يا ربيب زوس، بالباب رجلان غريبان، يشبهان نسل زوس العظيم، ولكن قل لي هل تسمح بأن نُخلِّي عن جوادَيهما السريعَين، أم نردُّهما ليذهبا إلى مُضيفٍ آخر، يستطيع إكرامهما؟»
مينيلاوس يرحب بالغريبين
مينيلاوس يبالغ في تكريم الغريبَين
هكذا تكلَّم مينيلاوس، فأسرع خادمه عَبْر القاعة، وأمر غيره من الخدم، الذين كانوا مشغولين بأعمالهم، أن يتبعوه، فخلَّوا عن الجوادَين المُتفصِّدَين عرقًا، من تحت النِّير وربطوهما في حظيرة الجياد، ووضعوا أمامهما القرطم مخلوطًا بالشعير الأبيض، ثم أسندوا العربة إلى حائط المدخل المتألق، وصحبوا الرجلَين إلى القصر المقدس. وبينما كان الضيفان يمران وسط قصر الملك، ربيب زوس، ذُهلا ودُهشا؛ إذ كان هناك ضوءٌ كضوء الشمس أو نور القمر، فوق منزل مينيلاوس المجيد، المرتفع السقف، فأخذا ينظران في عجبٍ ويُمتِّعان أنظارهما بذلك القصر البديع، ثم دخلا إلى الحمامات اللامعة، واغتسلا، وبعد أن غسلتهما الإماء، ودهَنَّ جسمَيهما بالزيت، وألبسنهما عبايتَين ورداءَين من الصوف، جلسا على مقعدَين بجانب مينيلاوس بن أتريوس. بعد ذلك جاءت أمَةٌ بماء في جرَّةٍ جميلة من الذهب ليغسلا أيديهما، وصبَّتْه في طستٍ من الفضة، وأتت بخوانٍ وضعته بجوارهما. وأحضَرتْ ربة البيت الموفرة الخبز ووضعَتْه أمامهما، ومعه الكثير من أطايب الأطعمة التي أحضرتها بسخاء من خزينتها. وجاء الخادم بصحافٍ عديدة مملوءة بشتى ألوان اللحوم وحطَّها أمامهما، كما وضع جوارهما كئوسًا ذهبية، ثم حيَّا مينيلاوس ذو الشَّعر الجميل، ضيفَيه، بقوله:
«تناولا الطعام، وانشرحا صدرًا. وبعد أن تنتهيا من العشاء، سنسألكما عن شخصيتكما، مَن من البشر أنتما؛ فلم يَضِع فيكما نسل آبائكما، بل أنتم نسل قوم، ملوكٍ ذوي صوالجة، منحدرين من زوس؛ إذ لا يمكن للصعاليك أن ينجبوا أبناءً مثلكما.»
قال هذا، وأمسك بيدَيه قِطعًا من الشواء، ووضعها أمامهما، حتى قِطَع سلسلة الظهر الدسمة التي كانوا قد وضعوها أمامه تبجيلًا له، قدَّمها لهما. وهكذا أكل الضيفان من الطعام الشهي الموضوع أمامهما. وبعد أن أكلا وشربا كفايتهما، تكلَّم تيليماخوس، مخاطبًا ابن نسطور، بعد أن قرَّبَ رأسه إليه حتى لا يسمع الآخرون حديثهما، فقال:
مينيلاوس يستعرض مصادر ثرائه
بيد أن مينيلاوس، ذا الشعر الجميل، سمع ذلك الحديث، فخاطبهما بكلماتٍ مجنحة قائلًا:
تيليماخوس يبكي … ومينيلاوس يرمقه
ما أن قال هذا، حتى أثار رغبة تيليماخوس في البكاء حزنًا على أبيه، فترك العبرات تتساقط من مآقيه إلى الأرض، عندما سمع اسم أبيه، فرفع طرف عبايته الأرجوانية بكلتا يدَيه ووضعه على عينَيه، فلاحظ مينيلاوس ذلك، وفكَّر في عقله وقلبه، ما إذا كان يجب عليه أن يتركه يتكلَّم بنفسه عن أبيه، أو يبادره بالسؤال عنه. وفي كلتا الحالَين لا بد له أن يعرف الحقيقة.
زوجة مينيلاوس تتعرف على تيليماخوس
«هل تعرف، يا مينيلاوس، يا ربيب زوس، من يكون هذان الرجلان، هذان الضيفان اللذان شرَّفا منزلنا؟ هل أُخفي ما يجول بخاطري أم أقول الحق؟ كلا، لن أسكت؛ فإن قلبي ليأمرني بالتكلُّم. لم يحدُث قَط أن رأيت شخصًا شديد الشبه بآخر، سواء أكان رجلًا أو امرأة — إن العجب ليتملكني، وأنا أمعن النظر — ما أعظم شبه هذا الرجل بابن أوديسيوس العظيم القلب! إنه دون شك تيليماخوس، الذي تَركَه ذلك المحارب طفلًا حديث الولادة في بيته، عندما قَدِمتُم، معشر الآخيين، من أجلي أنا السيد غير الحيية، أسفل حوائط طروادة، وقد انتويتم في قلوبكم إشعال نار الحرب الضروس.»
مينيلاوس يؤيد كلام زوجته
عندئذٍ أجابها مينيلاوس الجميل الشعر، قائلًا: «وأنا نفسي أيضًا، ألاحظ هذا الأمر الآن، يا زوجتي. ألاحظ الشبه الذي لاحظتِه أنتِ؛ فهكذا كانت قدماه، وهكذا كانت يداه، ونظرات عينَيه، ورأسه بشعره ذاك. وزيادةً على ذلك، فما إن ذكرتُ الآن أوديسيوس، وقصصتُ جميع المحن والمتاعب التي قاساها من أجلي، حتى ذرف هذا الشابُّ دموع الحزن من تحت حاجبَيه، رافعًا عباءته الأرجوانية أمام عينَيه.»
بايسيستراتوس يكشف عن شخصية أوديسيوس
فقال بايسيستراتوس بن نسطور: «أي مينيلاوس، يا ابن أتريوس، وربيب زوس، يا قائد الجيوش، حقًّا إن هذا الشاب لهو ابنه حقًّا كما تقول. غير أنه شابٌّ حصيف، ويخجله أن يبدأ الكلام عن نفسه في حضرتك ولا سيما في أول مقابلة. وإننا لنُسَرُّ من صوته كما لو كان صوتَ إله. وقد أرسلني معه، الفارس، نسطور الجيريني، لأُرشِدَه في المجيء إلى هنا؛ لأنه كان مشتاقًا لأن يراك، عسى أن تطمئنه بكلمة أو بعمل؛ فما أعظم أحزان الابنِ في ساحاته عندما يرحل والده، وعندما لا يجد له مساعدًا آخر، كما هو الحال الآن مع تيليماخوس؛ فقد ذهب والده ولم يرجع، وليس هناك بين الناس من يمكنه أن يدفع عنه الخراب.»
مينيلاوس يُظهِر حبه لأوديسيوس
ليس البكاء على الأموات عارًا
مينيلاوس يرجو الكَفَّ عن البكاء
فأجاب مينيلاوس، الجميل الشعر، بقوله: «حقًّا يا صديقي، لقد نطقتَ بكل ما يمكن الرجل العاقل أن يقول أو يفعل، وتكلَّمتَ بكلام من يكبرك سنًّا؛ لأنك نشأت من مثل ذلك الأب؛ ولذلك أراك تتكلَّم بحكمة، فما أسهَلَ علينا أن نعرف نسل ذلك الرجل الذي يغزل له ابن كرونوس خيط الحظ السعيد عند الزواج وعند الميلاد! فهكذا قُدِّر على نسطور في سائر أيام حياته وإلى الأبد، أن يصل هو نفسه إلى شيخوخةٍ موفورة الصحة في ساحاته، وأن يصبح أبناؤه، حكماءَ وذوي جُرأة في استخدام الرمح. والآن، هلُم بنا نكُف عن البكاء الذي لم يبدأ سوى الآن، وهيا بنا نعود ثانيةً فنفكِّر في عشائنا، وندعهم يصُبُّون الماء على أيدينا، حتى إذا ما أصبح الصباح، أخذتُ أقُصُّ على تيليماخوس كثيرًا من القصص، كما أنه سيروي لي ما فيه الكفاية.»
هيلينا تُعدِّد مناقب أوديسيوس
«أي مينيلاوس يا ابن أتريوس، يا سليل زوس، وأنتم أيها الحاضرون هنا، يا أبناء النبلاء إن زوس يهب الخير والشر، تارة لهذا وطورًا لذاك؛ لأنه يستطيع أن يفعل كل شيء. اجلسوا الآن في هذه الساحات، وأولِموا، وتمتَّعوا برواية القصص؛ فإنني سأقُص على مسامعكم ما يناسب المقام. ليس في مقدوري أن أحكي أو أروي كل شيء، جميع أعمال أوديسيوس، ذي القلب الجريء الراسخ، ولكن ما فعله ذلك الرجل العتيد وقاساه في أرض الطرواديين، حيث عانيتم، أنتم أيها الآخيون، الأهوال! فشوَّه جسمه بكدماتٍ وحشية، وألقى حول كتفَيه عباءةً بالية، وعلى هذه الصورة دخل مدينة الأعداء الفسيحة الطرقات في هيئة عبد، ثم تنكَّر في صورة شخصٍ آخر، شحَّاذ، ولم يكن هو بمثل تلك الصورة في سفن الآخيين. في مثل هذه الهيئة دخل مدينة الطرواديين، ولم يكونوا جميعًا سوى أطفال. وكنت أنا الوحيدة، التي عَرفَته في ذلك التنكُّر، وسألْتُه الخبر، بيد أنه حاول أن يتحاشاني بدهائه. ومع ذلك كنتُ أغسل جسمه وأدهنه بالزيت، وبعد أن ألبستُه الرداء، وأقسمتُ يمينًا لا حنث فيها ألا أكشف أمره بين الطرواديين على أنه أوديسيوس، قبل أن يصل إلى السفن السريعة والأكواخ، وعندئذٍ أخبرني أخيرًا بغرض الآخيين كله. وبعد أن قتل كثيرًا من الطرواديين بسيفه الطويل، عاد إلى حشد الأرجوسيين يحمل إليهم أنباءً كثيرة. وبعد ذلك شَرعَت السيدات الطرواديات الأخريات ينتحبن ويُولوِلن عاليًا، غير أن روحي كانت سعيدة؛ إذ كان قلبي يتلهَّف إلى العودة إلى وطني، وتأوَّهتُ نادمةً على العمى الذي أعطَتْنيه أفروديتي عندما قادَتْني من وطني العزيز إلى طروادة، تاركةً طفلي، وهاجرةً حجرة عرسي، وزوجي الذي لم ينقصه شيء، سواء في الحكمة أو في الجمال.»
مينيلاوس يُدلي بمزيدٍ من الأقوال الطيبة
تيليماخوس يبدي رغبته في النوم
فقال تيليماخوس الحكيم: «أي مينيلاوس يا ابن أتريوس، ويا سليل زوس، وقائد الجيوش، إنه لأشد إيلامًا، أن شيئًا من هذا كله لم يمنع عنه الهلاك المُحزِن، بحالٍ من الأحوال، رغم أن قلبه في داخل جسمه كان من حديد. والآن، هلُم، ابعث بنا إلى الفراش، حتى إذا ما داعب النوم اللذيذ عيوننا، استطعنا أن نستريح ونأخذ متعتنا.»
مينيلاوس يسأل تيليماخوس عما يطلب
ما إن لمع الفجر، الوردي الأنامل، مبكرًا في أفق السماء، حتى استيقظ مينيلاوس، الماهر في صيحة الحرب، ونهض من فراشه، فارتدى ملابسه، وعلَّق حُسامه البتار على كتفه، ولبس صندلَيه الجميلَين في قدمَيه البراقتَين، وخرج من حجرته يتلألأ أشبه بإلهٍ للناظرين، ثم أخذ مجلسه بجانب تيليماخوس، وبدأ الحديث، مخاطبًا إياه بقوله:
«أيها الأمير تيليماخوس، أي حاجةٍ جاءت بك إلى هنا، إلى لاكيدايمون العظيمة، عَبْر ظهر البحر الفسيح؟ ألموضوعٍ عامٍّ قَدِمْت، أم لأمرٍ خاص بك؟ صارحني القول وأخبرني بالحقيقة.»
تيليماخوس يسأل عن أبيه
عندئذٍ ردَّ عليه تيليماخوس العاقل، قائلًا: «أي مينيلاوس؛ يا ابن أتريوس، ويا سليل زوس، وقائد الجيوش، اعلم أنني قَدِمتُ إلى هنا، عسى أن تستطيع إخباري بما تعلمه من أنباء والدي. إن بيتي لَيُسلب، وضياعي الغنية لَتُخرَّب، وإن منزلي لَيعجُّ بجمعٍ من الرجال الأعداء لا يَكُفون أبدًا عن ذبح أغنامي الكثيرة، ونحر أبقاري السمينة، ذات المشية المتثاقلة. إنهم يغازلون والدتي بغطرسة وعجرفة وصفاقة؛ ومِن ثَمَّ جئتُ الآن إليك، متوسلًا إلى ركبتَيك، علَّك تكون على استعدادٍ لأن تُنبئني عن مصيره المحزن، والميتة المشئومة التي لاقاها، سواء رأيتها مصادفة بعيني رأسك، أو تكون قد سمعتَ بها من شخصٍ آخر، يعرف قصة تجوالاته؛ فقد حزنَت عليه أمه حزنًا لم تَحزنه أم على ابنها من قبلُ. ولا تأخذنَّك شفقة ولا عطف فتلجأ إلى العبارات المُطمْئِنة المهدِّئة، بل قل الحقيقة كيف استطعتَ أن تراه. إنني أتوسل إليك وأستحلفك بأبي أوديسيوس النبيل، عسى أن يكون قد وعدَك بشيء، سواء كان قولًا أو عملًا، وبَرَّ بوعده لك في أرض الطرواديين حيث لقيتُم الأحزان، أيها الآخيون، إلا ما قلتَ لي الحقيقة، متذكرًا ذلك الشيء الذي حقَّقه لك.»
مينيلاوس يُدلي بمعلوماته
هكذا تكلَّمت، فأجبتها قائلًا: سوف أُفصح وأُخبرك مهما كانت درجتك بين الربات؛ فإنني لست محبوسًا هنا، بمحض رغبتي قَط، بيد أنني لا بد أن أكون قد أخطأتُ في حق الخالدين، الذين يحتلُّون السماء الفسيحة الأجواز، ولكن هل يُمكنكِ أن تخبريني؛ لأن الآلهة تعرف كل شيء من الآلهة يُقيِّدني هنا، وقد منعني المضي في طريقي؟ وحدِّثيني عن عودتي، وكيف يمكنني أن أعبر ذلك الخضم الزاخر.
هكذا، قلتُ لها، وفي الحال أجابت الربة الفاتنة، بقولها: إذا كان الأمر كذلك، فحقًّا، سأُخبرك، أيها الغريب، في صراحة، بكل شيء. هناك رغبة في أن يأتي إلى هنا عجوز البحر المعصوم من الخطأ، الخالد بروتيوس المصري، الذي يعرف قرار كل بحر، وخادم بوسايدون. إنه كما يقولون، أبي الذي أنجبني، فإذا أمكنكَ، بطريقةٍ ما، أن تكمُن له وتقبض عليه، فإنه سوف يُخبرك عن طريقك، وعن طول المسافة التي ستقطَعها في رحلتك، وعن عودتك، وكيف تستطيع الإبحار عَبْر الخِضَم الزاخر، كما أنه سوف يُخبرك، يا سليل زوس، لو شئتَ، عما حدث في ساحاتك من خير أو شر، وأنت غائب في طريقك الطويل المفجع.
هكذا تكلَّمَت الربة، فأجبتُها بقولي: وهل تتفضَّلين الآن، بأن تضعي لي خطةً أكمُن بها في انتظار ذلك العجوز المقدس، خشية أن يراني قبل أن أُمسك به، أو ينتبه لغرضي فيتحاشاني؛ إذ من الصعب على إنسان أن يسيطر على إله.
ما إن قلتُ هذا، حتى قالت الربة الجميلة: إذن، حقًّا، أيها الغريب، أقول لك كل شيء في صراحة. عندما تصل الشمس إلى كبد السماء، يتلهَّف عجوز البحر، المعصوم من الخطأ، إلى الخروج من البحر عندما تهُبُّ الريح الغربية، مختفيًا وسط الأمواج القائمة، وعندما يظهر، يستلقي في الكهوف الخاوية لينام، ومن حوله تنام عجول البحر، سلالة ابنة البحر الحسناء، في جموعٍ كثيرة بعد أن تخرج من المياه السنجابية. وما أمَرَّ الرائحة التي تتنفَّسها هذه من أعماق البحر! فعندما يبزغ الفجر، سآتي وأقودكم إلى هنا، وأجعلكم ترقدون جميعًا في صف؛ لأنه يجب عليك أن تختار ثلاثةً من رفاقك، وتنتقيهم بعناية، من خيرة من تختارهم في سفنك المتينة المقاعد. وسوف أخبرك بجميع حيل ذلك العجوز السحرية. في أول نزوله إلى الجزيرة، سوف يعُد العجول، ويُحصيها، وعندما يأمرها بالانصراف جميعًا، خمسة خمسة، ثم ينظر إليها وهي تأخذ أماكنها، يذهب وسطها ويرقد، كأنه راعٍ وسط قطعان الأغنام، فما إن تبصرونه قد رقد ليستريح حتى تتشجَّعوا وتملئوا قلوبكم بالقوة والجرأة، فتنقَضُّوا عليه، وتُمسِكوا به هناك، رغم مقاومته وما يبذله من جهدٍ جهيد للفرار؛ لأنه سوف يحاول الإفلات منكم، وسوف يتشكل بهيئة جميع الأشياء التي تتحرك على ظهر البسيطة، وفي الماء، وبهيئة النار المستعرة العجيبة، ولكن بالرغم من كل ذلك، يجب عليكم أن تُمسِكوا به دون أي تراخٍ، وتُضاعفوا من قبضتكم عليه أكثر فأكثر. وأخيرًا، عندما يبدأ الكلام من تلقاء نفسه، وهو في الصورة التي رأيتَه عليها وهو راقد ليستريح، ويسألك ماذا تريد، عندئذٍ، أيها البطل، كُفَّ عن القبض عليه، وأَطلِق سراحه، واسأله عمن من الآلهة غاضب منك، وكذا عن طريق عودتك، وكيف يمكنك أن تُبحِر عَبْر اليم الفسيح.
«وأيا ابن أتريوس، مَن من الآلهة أشار عليك بأن تكمن في انتظاري، وتقبض عليَّ ضد إرادتي؟ وما هي حاجتك؟»
هكذا قال عجوز البحر، فأجبتُه بقولي: إنك تعرف أيها العجوز — لماذا تحاول مماطلتي بهذا السؤال؟ — كم من مدةٍ طويلة بقيتُ أنا محبوسًا في هذه الجزيرة، ولا أجد دليلًا قط على الخلاص، وظل قلبي يزداد ضعفًا في جوفي، فهل لك أن تخبرني — لأن الآلهة تعرف كل شيء — مَن من الآلهة يُقيِّدني هنا، وقد حال بيني وبين طريقي؟ كذا أريد أن تُحدِّثني عن عودتي، وكيف أستطيع أن أجتاز ذلك الخضم المترامي الأطراف.
قلتُ هذا، وفي الحال ردَّ عليَّ قائلًا: وكان يجبُ عليك حقًّا أن تُقدِّم الذبائح الطيبة لزوس والآلهة الآخرين قبل الإقلاع بسفنك، فلو فعلتَ لكان في مقدورك أن تصل إلى بلدك بمنتهى السرعة، متخذًا طريقك عَبْر البحر القاتم كالخمر؛ لأنه مكتوب لك ألا ترى أصدقاءك، أو تصل إلى منزلك المحكم البناء، أو إلى وطنك، إلا بعد أن تكون قد ذهبتَ مرةً أخرى إلى مياه أيجوبتوس، ذلك النهر السماوي الغذاء، وتكون قد نحرتَ ذبائح مئوية مقدَّسة إلى الآلهة الخالدين، الذين يحتلون السماء الفسيحة؛ فبعدئذٍ فقط، سوف تمنحك الآلهة الرحلة التي تشتهيها.
هذا ما قاله، وعندئذٍ تحطَّمَت روحي في داخل جسمي؛ لأنه أمرني بالذهاب مرةً أخرى عَبْر اليم المظلم إلى أيجوبتوس، في طريقٍ طويل شاق. ومع كلٍّ، فرغم ذلك أجبته قائلًا:
سمعًا وطاعة، أيها العجوز، سأقوم بكل هذا، كما تأمر، تمامًا. والآن هل لك أن تُخبرني، وتُصارحني القول بصدق، هل عاد الآخيون في سفنهم، دون أن يصيبهم أذى، جميع أولئك الذين تركتهم أنا ونسطور، عندما أقلعنا من طروادة؟ أم هل لاقى أحدٌ منهم ميتةً قاسية فوق ظهر سفينته، أو بين سواعد أصدقائه، بعد أن وضعَت الحرب أوزارها؟
هكذا قلتُ له، فأجاب من فوره بقوله: يا ابن أتريوس، لِمَ تسألُني عن هذا؟ فما ينبغي بحالٍ من الأحوال أن تعرف، أو تعلم مكنون صدري، وإني لأعتقد، أن الأحزان والبكاء سيحُلَّان بك لفترةٍ طويلة، إذا أخبرتك بكل شيء على حقيقته؛ إذ قُتل كثيرٌ منهم وبقي الكثير أيضًا، ولكن اثنَين من رؤساء الآخيين المتدثِّرين بالبرونز هلكا وهما في طريقهما إلى الوطن، أما عن القتال، فقد كنت هناك أنت نفسك، وأظن أن هناك واحدًا، لا يزال حيًّا، ومحجوزًا فوق سطح البحر البعيد الأجواز.
ما إن قال ذلك القول، حتى تحطَّمَت روحي في داخلي، وطفِقتُ أبكي وأنا جالسٌ فوق الرمال، ولم تعُد لقلبي رغبة في البقاء على ظهر الدنيا ورؤية ضوء الشمس. وبعد أن بكيتُ كفايتي، وشبعتُ نحيبًا، قال لي عجوز البحر المعصوم من الخطأ:
«يا ابن أتريوس، لا تسترسلنَّ في البكاء هكذا طويلًا بغير انقطاع؛ إذ هذا لا يجدي بحالٍ ما. كلا لا فائدة منه قَط، بل الأجدر بك أن تُكافِح بكلِّ ما يمكنك من سرعة، إلى أن تصل إلى وطنك؛ لأنك إما أن تجد أيجيسثوس على قيد الحياة، وإما أن يكون أوريستيس، قد سبقك إليه وقتله، وربما أدركت وليمة جنازته.»
إنني أعرف هذين الرجلَين، ولكن ألا يُمكنُك أن تسمى الثالث، ذلك الذي لا يزال حيًّا، والذي هو محجوز وراء البحر العريض؟ أم أنه مات؟ إنني لأتلهَّف إلى سماع خبره رغم أحزاني.
ما إن قال هذا، حتى قفز وسط اللُّجَج الصاخبة، أما أنا فذهبتُ إلى سفني مع رفقائي شبيهي الآلهة، بينما راح قلبي يفكِّر في أمورٍ كثيرة، ولكن عندما نزلنا إلى السفينة وإلى البحر، وأعددنا طعام العشاء وتناولناه، وأقبل الليل السرمدي بدياجيره، رقدنا لنستريح فوق شاطئ البحر. وما إن لمع الفجر الوردي الأنامل مبكرًا في دجى الظلام، حتى بدأنا نُنزِل سفننا إلى البحر اللامع، وأقمنا الصواري والأشرعة في السفن الجميلة، وذهب الرجال أيضًا، فوق ظهور المراكب وجلَسوا على المقاعد، واعتدَلوا في أماكنهم استعدادًا لأن يضربوا البحر السنجابي بمجاذيفهم، فأقلعوا عائدين من جديد إلى مياه أيجوبتوس، ذلك النهر الذي تُغذِّيه السماء، وهناك ألقينا مراسي السفن، وقدَّمتُ الذبائح المئوية التي كنت أرجو ثمارها. وبعد أن أرضيتُ الآلهة الخالدين، واجتنبتُ غضبهم، صنعتُ كَومةً لأجاممنون تُخلِّد شهرتُه خلودًا لا تخمدُ جذوتُه. وعندما انتهيتُ من هذا، وهبَني الخالدون ريحًا مواتية، حملَتْني بسرعة إلى وطني العزيز. والآن، امكُث عندنا في ساحاتي، إلى أن يأتي اليوم الحادي عشر أو الثاني عشر، وعندئذٍ أُرسلك موقَّرًا، وأعطيك هدايا رائعة؛ ثلاثة جياد، وعربةً بديعة الطلاء، فضلًا عن كأسٍ جميلة تستطيع أن تسكُب منها السكائب للآلهة الخالدين، وتذكُرني جميع أيام حياتك.»
تيليماخوس يقبل هدايا مينيلاوس ويسأله الرحيل
عندئذٍ رد عليه تيليماخوس الحكيم قائلًا:
«يا ابن أتريوس، لا تحجزني هنا مدةً طويلة؛ فإنني، والحق يُقال، أُسَر للبقاء في قصرك عامًا دون أن أتوق إلى رؤية بيتي ووالدي؛ إذ أجد لذةً عجيبة في سماع حكاياتك وحديثك، ولكن رفاقي ينتظرونني في بولوس المقدسة، بينما أنت تحجزني هنا مدةً طويلة. أما الهدايا التي تُزمِع تقديمها لي، فلتكن كنوزًا، وأما الجياد فلن آخذها إلى إيثاكا، بل سأتركها لك هنا لتتمتع بها؛ فأنت سيد هذا السهل الفسيح، الزاخر باللوتس، والخلنجان والقمح والشوفان، والشعير الأبيض العريض السنابل، أما في إيثاكا، فليس هناك ممرات ولا طرقٌ فسيحة تتسع لها، ولا أية مروج؛ فهي مرعى المعيز أكثر منها مرعى للجياد؛ فما من جزيرةٍ وسط البحر تصلح لتربية الخيول، ولا يمكن أن تكون غنية بالمروج، ولا سيما إيثاكا التي هي أقلها جميعًا.»
هكذا تكلَّم، فابتسم مينيلاوس، الماهر في صيحة الحرب، وربَّت عليه بيده، وخاطبه قائلًا:
هكذا طَفِقا يتبادلان الحديث، وفي ذلك الوقت أقبل المدعوون إلى قصر الملك المبجَّل، يسوقون أمامهم خرافًا، ويُحضرون معهم خمرًا مُقوِّية، وأرسلَت لهم زوجاتهم ذوات الخمار الجميلة، خبزًا؛ وعلى ذلك كانوا ينعمون بالوليمة في ساحات القصر.
العُشَّاق ينزعجون لرحيل تيليماخوس
فقال أنتينوس بن يوبايثيس: «قل الحق يا هذا، متى رحل، وأي شبانٍ ذهبوا معه؟ أهم من شباب إيثاكا المختارين، أم مأجورون، أم من عبيده؟ وهل استطاع أن يقوم حتى بهذا؟ وصارحني القول بصدق، كي أعرف كل شيءٍ تمامًا، هل استطاع أن يأخذ سفينتَك بالقوة وعلى غير إرادتك، تلك السفينة السوداء، أم أعطيتَها له طائعًا مختارًا بمحض إرادتك عندما توسل إليك؟»
فأجاب نويمون بن فرونيوس، قائلًا: «لقد أعطيتُها له، بنفسي، طائعًا مختارًا، فهل يستطيع أحدٌ أن يفعل غير ما فعلتُه عندما يرجوه رجلٌ مثله، قد أثقلَت الهموم قلبه؟ كان من العسير رفض الهدية. وإن الشبان الذين صَحِبوه في الرحلة لأنبلُ مَن في البلاد بعدنا، وقد لاحظت بينهم واحدًا على ظهر السفينة، كقائدٍ لهم، يشبه مينتور، أو كأنه إلهٌ يشبه مينتور تمام الشبه. وما أعجب له، هو أنني رأيتُ مينتور العظيم هنا في فجر أمس الباكر، ولكنه في ذلك الوقت ركب سفينته قاصدًا بولوس.»
ما إن أتم حديثه ذاك، حتى انصرفَ إلى بيت أبيه. أما قلبا هذَين الشامخَين فقد استشاطا غضبًا، وأمرا العُشَّاق المغازلين في الحال، بأن يكفُّوا عن مبارياتهم ويجلسوا، وقام أنتينوس بن يوبايثيس، مستاءً يتحدَّث وسطهم، وقد تملَّك الحنق من قلبه الأسود حتى الثُّمالة، والشرر يتطاير من عينَيه، فقال:
«ويلٌ له، الحق أن تيليماخوس يُزمع القيام بعملٍ من أعمال الوقاحة، في رحلته تلك، التي ما كنا نحسب أنه سيستطيع إتمامها؛ فرغم كوننا هنا جميعًا، رحل ذلك الصبي في هدوء، مُنزلًا السفينة إلى الماء، ومنتقيًا خير ما في البلاد من رجال. لقد بدأ شيئًا فشيئًا، يكون مجلبةً للشر، وإنني لأتمنى أن يُحطِّم زوس قُوَّتَه قبل أن يبلُغ مبالغ الرجال. والآن هيَّا، أعطوني سفينةً سريعة وعشرين رجلًا، حتى يُمكِنني أن أكمُن له وهو يمر في المضيق الواقع بين إيثاكا وساموس الوَعْرة، وبهذا تنتهي الرحلة التي قام بها بحثًا عن أبيه شر نهاية.»
هكذا تكلَّم، فنالت كلماته تقريظ الجميع، الذين طلبوا منه أن يُنجز فورًا ما انتَواه. وفي الحال نهضوا جميعًا وذهبوا إلى منزل أوديسيوس.
بينيلوبي تعلم بخطَّة العشاق ضد ابنها
«أيها الرسول، لِمَ بعث بك المغازلون الأمجاد؟ هل لتأمر خادمات أوديسيوس الجليل بالكَفِّ عن أشغالهن، ويبدأن لهؤلاء بإعداد وليمة؟ لا مغازلة بعد ذلك، ولا أي زواج في مكانٍ آخر، فهل لهم الآن أن يأدبوا هنا مأدبتهم الأخيرة، وحتى أنتم يا من تحتشدون هنا وتُبدِّدون أموالًا طائلة، من ثروة تيليماخوس العاقل. لا شك أنكم لم تسمعوا أبدًا، في سالف الأزمان، عندما كنتم أطفالًا، وعندما كان يحكي آباؤكم أي لونٍ من الرجال كان أوديسيوس بين أولئك الذين أنجبوكم، وأنه لم يقترف إثمًا أو خطأً قَط في حق أي فرد من مواطني البلاد، سواء بالقول أو بالفعل، كما كانت عادة الملوك الأجلاء، يكرهون رجلًا، ويحبون آخر، ولكنه لم يظلم أي رجل على الإطلاق، وإنما عقولكم وأفعالكم غير المشروعة، هي الواضحة كل الوضوح للعيان، ولن يُقدِّم أي فردٍ ثناءً على أية أعمالٍ حسنة لكم.»
هدف الخطة قتل تيليماخوس
فأجابها ميدون، ذو القلب الحكيم، بقوله: «أرجو، أيتها الملكة، أن يكون هذا هو أقصى ما ابتُليتِ به من شَر؛ لأن هناك أمورًا أخرى أمر وأدهى وأكثر إيلامًا من هذه، يحيكها العُشَّاق المغازلون، أمورًا أتمنَّى ألا يُكلِّلها ابن كرونوس بالنجاح. لقد بيَّتوا النية على قتل تيليماخوس بحد السيف البتار وهو في طريق عودته إلى الوطن؛ لأنه ذهب يستقي الأخبار عن أبيه، إلى بولوس المقدسة، وإلى لاكيدايمون العظيمة.»
ما إن قال هذا، حتى وهنَت ركبتاها وهي جالسة، وغاص قلبها، وصمتَت مدةً طويلة، وترقرقَت الدموع في مقلتَيها واحتبس صوتها، ثم تكلَّمَت أخيرًا قائلة:
«أيها الرسول، لِمَ ذهب ابني؟ لم تكن به حاجة للسفر فوق ظهور السفن العريضة السريعة، التي يستخدمها البشر مطية البحر، وتعبُر اليم المترامي الأطراف. ألم يكن لاسمه أن يظل باقيًا وسط الرجال؟»
فأجابها ميدون، الحكيم القلب، يقول: «لستُ أعلم، يا سيدتي، ما إذا كان قد اضطَره إلى ذلك إلهٌ ما، أم أنه ذهب من تلقاء نفسه إلى بولوس، ليستطلع الأنباء عن عودة أبيه، أو عن المصير الذي لاقاه.»
بينيلوبي تلوم خادماتها
هكذا تكلَّم وانصرف من منزل أوديسيوس، فغمرها الحزن بلواعجه، ذلك الحزن الذي يفتك بالروح، ولم تستطع الجلوس بعد ذلك على أيٍّ من المقاعد الكثيرة بالحجرة، بل ارتمَت خائرة القوى فوق عتبة حجرتها الجميلة البناء، وهي تتأوَّه كمدًا، فراحت خادماتها ينتحبن حولها، كلُّ من في البيت، من فتياتٍ وعجائز، فقالت بينيلوبي وهي تبكي:
اعتراف يوروكليا بذنبها
بينيلوبي تصلي والعشاق يصخبون
ما إن قالت هذا، حتى هدأَت ثائرة بينيلوبي، وكفكَفَت دموعها، ثم قامت فاغتسلَت، وتسربلَت برداءٍ نظيف، وصَعِدَت إلى حجرتها العليا مع خادماتها، وبعد أن وضعَت بعض حبات من الشعير في سفطٍ، راحت تُصلي إلى أثينا بقولها:
«يا ابنة زوس، حامل الترس، أصغي إلى صلاتي، يا من لا يتطرق التعب إلى جسمك، بحقِّ ما أحرقَه لك أوديسيوس الكثير الحيل، في ساحاته، من قِطع أفخاذِ عِجلةٍ أو نعجةٍ سمينة، أتوسَّل إليكِ أن تتذكَّري هذه الأشياء الآن، وتهُبِّي لنجدة ولَدي العزيز، وجنِّبيه شر مؤامرة المغازلين.»
هكذا تكلَّمَت، وأرسلَت الصيحة المقدسة، فسَمِعَت الربة صلاتها. بيد أن العُشَّاق انفجروا صاخبين في سائر أنحاء القاعات الظليلة، فقال أحد الشبان المتغطرسين:
«حقًّا إن الملكة التي يُغازِلها الكثيرون، تتأهَّب لزواجنا، ولا تعرف على الإطلاق أن الموت في انتظار ولدها.»
وهكذا كان أحدهم يتكلَّم، غير أنهم لم يعرفوا كيف ستسير تلك الأمور، فخاطب أنتينوس جمعهم قائلًا:
«أيها السادة الأمجاد، كُفُّوا عن عبارات الزهو، أيًّا كان نوعها، خشية أن ينقل شخصٌ ما حديثكم إلى داخل البيت. هلُموا ننطلق في صمت، ونقوم بتنفيذ خطَّتنا، التي أدخلت السرور إلى قلوبنا جميعًا.»
العُشَّاق يُعدُّون سفينة وبينيلوبي في حجرتها حزينة
هكذا تكلَّم، واختار عشرين رجلًا، من خيرة الجمع، وانطلقوا في طريقهم إلى شاطئ البحر حيث السفينة السريعة؛ فأول عملٍ قاموا به، هو أن سحبوا السفينة إلى اليم العميق، ورفعوا الصاري، وثبَّتوا الشراع في السفينة السوداء، وربَطوا المجاذيف فيها بسيور من الجلد، في نظامٍ بديع، ونشروا الشراع الأبيض. وأحضر لهم السادة المتغطرسون أسلحتهم، وأنزلوا السفينة وربطوها في المرسى ثم تركوها هم أنفسهم، وذهبوا يتناولون طعام العشاء، وانتظروا حتى أقبل المساء.
أما بينيلوبي الحكيمة، فرقَدَت في حجرتها العليا دون أن تذوق أي طعام، سواء أكان لحمًا أو شرابًا، وكان جل فكرها منحصرًا في ولدها، هل سينجو من الموت، أم سيقتله العشاق الوقحون، فكانت كأسدٍ وقع في وسط جمعٍ من الرجال فظل نهبًا للخوف، وهم يُضيِّقون عليه الخناق. هكذا كانت مُبلبلة الأفكار عندما داعب النوم اللذيذ عينَيها، فارتمت إلى الوراء ونامت، وارتخت جميع أطرافها.
أثينا تزور بينيلوبي في صورة طيف
«يا بينيلوبي، أتنامين حزينة القلب؟ كلا، إن الآلهة التي تعيش في رخاء، لن تُحمِّلكِ مشقة البكاء، ولن تجعلك تعيسة؛ لأن ابنك سيعود إليك؛ إذ هو بريءٌ أمام الآلهة من كل إثم.»
بييلوبي تُبدي مخاوفها للطيف
عندئذٍ ردَّت عليه بينيلوبي الحكيمة، وهي تنعم بنومٍ لذيذ جدًّا، على أبواب الأحلام، فقالت:
والطيف يُشجِّعها ثم ينصرف
فأجاب الطيف القاتم، قائلًا: «تشجَّعي ولا تفكِّري في أي خوف، طالما أن مرشدةً كبالاس أثينا، تقف إلى جانبه، تلك التي كثيرًا ما توسَّل الرجال إليها لكي تقف إلى جانبهم، وإنها لتُشفقُ عليكِ من ذلك الحزن، فأرسلَتني لأُخبركِ بهذا.»
فقالت بينيلوبي الحكيمة: «إن كنتِ حقًّا إلهة، وأصغيتِ إلى صوت إله، تعالي، خبِّريني، كذلك عن ذلك التعيس، ألا يزال حيًّا يرى ضوء الشمس، أم قد مات وذهب إلى بيت هاديس؟»
فأجابها الطيف القاتم، بقوله: «كلا، لن أُحدِّثك عن هذا بكلمةٍ واحدة، سواء أكان حيًّا أم في عداد الأموات. إنه لإثمٌ أن أقول كلامًا لا جدوى منه، كالريح.»