الأنشودة التاسعة
أوديسيوس يحكي مغامراته
مغامرة أوديسيوس مع الكيكونيس
معركة أوديسيوس مع الأمواج والأعاصير
أوديسيوس في بلاد آكلة اللوتس
أوديسيوس في بلاد العمالقة
وهكذا أبحرنا من هناك، والحزن يملأ قلوبنا، وبلغنا بلاد الكوكلوبيس، أولئك القوم المتغطرسين الذين لا يخضعون لأي قانون، بل جلُّ اعتمادهم على الآلهة الخالدين، لا يغرسون بأيديهم نبتًا، ولا يحرثون أرضًا، بل تنمو كل مزروعاتهم دون بَذْر ولا حَرْث، القمح والشعير والكروم الحاملة لعناقيد الخمر الغنية، كما يهبُهم زوس المزيد بأمطاره. إنهم لا يعقدون اجتماعاتٍ للتشاور، ولا يتبعون قوانينَ محدودة، بل يعيشون فوق ذؤابات الجبال الشامخة، في كهوفٍ واسعة، وكلٌّ منهم يسنُّ القوانين لأطفاله وزوجاته، ولا يسلب أحدهم الآخر شيئًا.
ما إن هتك الفجر المبكر الوردي الأنامل حُجُب الظلام، حتى شرعنا نجوسُ خلال الجزيرة وقد عجبنا منها، وقامت الحوريات بنات زوس، حامل الترس، بإثارة معيز الجبل، كي يستطيع زملائي أن يأخذوا منها ما يُعِدُّون به طعامهم. وفي الحال تناولنا قسِيَّنا المعقوفة، وسهامنا الطويلة من السفن، وبعد أن انتظمنا في ثلاثِ فِرق، أنشأنا نضرب، وسرعان منا وهبَنا الرب فرائس تُشبع جوعنا. كانت السفن التي تتبَعُني اثنتَي عشرة سفينة، فسقط لكلٍّ منها تسع عنزات، قسمناها بالاقتراع، أما أنا فكان نصيبي عشر عنزاتٍ انتقَوها لي.
وهكذا مكثنا اليوم بطوله حتى غربَت الشمس، جالسين هناك نُولم على لحمٍ وفير وخمرٍ لذيذة؛ إذ لم تكن الخمر الصهباء قد نفدَت من سفننا بعدُ، بل كان لا يزال منها لدينا بقية؛ لأننا كنا قد وضعنا منها خزينًا وافرًا في قُدور، لكل فريقٍ من الملاحين، يوم أن استولَينا على قلعة الكيكونيس المقدسة، ثم اتجهنا بأبصارنا إلى بلاد الكوكلوبيس، القاطنين بقربنا، ولاحظنا الدخان، وصوت الرجال والخراف، والماعز. ولمَّا اختفَت الشمس وراء الأفق، وخيَّم الظلام على الكون، استلقَينا فوق شاطئ البحر طلبًا للراحة. وما كاد الفجر الباكر الوردي الأنامل يلوح في أفق السماء، حتى ناديت رجالي، وجمعتهم سويًّا، وتحدثت في وسطهم جميعًا، فقلت:
«انتظروا هنا الآن، يا جميع الباقين، يا زملائي الأوفياء، بينما أنطلق بسفينتي وبحَّارتي، إلى أولئك القوم، لأستطلع من يكونون، وهل هم من الأفظاظ، المتوحشين الظالمين، أم ممن يحبون الغرباء، ويتَّقون الآلهة في قرارة نفوسهم.»
وبعد أن أتممتُ حديثي ذاك، صَعِدتُ إلى ظهر السفينة، وأمرتُ رفاقي بالصعود كذلك، وبحل حبال الكوثل، فأذعنوا للأمر، وامتطَوا صَهوتَها فورًا، واستَووْا في مقاعدهم. وبعد أن اعتدلوا في مجالسهم بنظام، وأخذوا يضربون البحر السنجابي بالمجاذيف، فلما بلغنا المكان، وكان قريبًا جدًّا من البحر، أبصرنا كهفًا شاهقًا، مسقوفًا بفروع أشجار الغار. ورأينا هناك كثيرًا من قطعان الأغنام، والماعز، كانت نائمة معًا في حظيرةٍ واحدة. ومن حول الكهف ساحةٌ عالية، مشيدة في الصخور المغروسة عميقًا في الأرض، والمُدعمَة بأشجار الصنَوبَر الباسقة، وأشجار البلُّوط ذوات القمم الشاهقة. وكان هناك رجلٌ ضخم عملاق، ينام في ذلك الكهف، وكان يرعى قطعانه بمفرده في مكانٍ قصي، ولم يكن يختلط بغيره، بل يعيش في عزلة، يؤمن في قلبه بعصيان القانون؛ لأنه كان قد خُلق وحشًا غريبًا، ولم يشبه الإنسان آكل الخبز، بل كان أشبه بقمةٍ شامخة لجبلٍ ضخم، كثيرة الغابات، تعلو بارزةً وحدها أمام الناظرين، ومنفصلةً عن غيرها من الذؤابات الشامخات.
أوديسيوس في كهف العملاق بولوفيموس
سرعان ما بلغنا الكهف، فلم نجد العملاق بداخله؛ إذ كان يرعى قطعانه السمينة في الحقول؛ ومِن ثَمَّ دخلنا الكهف وطُفنا نتعجَّب من كل شيءٍ وقَع عليه بصرنا هناك. كانت السلال مملوءة بالجُبن، والحظائر تَعجُّ بالحِملان والجداء. كل نوعٍ بمفرده داخل سياج؛ الحملان غير البالغة وحدها، وكذلك الحملان البالغة في مكانٍ آخر وحدها، وأيضًا الحديثة المولد. وكانت الجرار الحديثة الصنع مملوءة بالشرش، وكذلك الدلاء والطسوت التي يُحلب فيها اللبن، فلما رأى رفاقي ذلك، أشاروا عليَّ بأخذ بعضٍ من الجبن، والانصراف، ثم أُسرع في قيادة الجداء والحملان داخل الحظائر إلى السفينة السريعة؛ ومِن ثَمَّ نُبحر عَبْر الماء الملح. بيد أنني لم أستمع لنصحهم — ويا ليتني فعلت؛ إذ كان هذا خيرًا لنا، أي خير — رغبةً في رؤية الرجل نفسه، وطمعًا فيما عسى أن يُعطيَنيه من هدايا التكريم. غير أن ظهوره، كما حدَث، لم يكن منه أي غبطة لزملائي.
بعد ذلك أشعلنا نارًا، وقدَّمنا ذبيحة، وتناولنا، نحن أنفسنا من الجبن، فأكلنا، ثم جلسنا ننتظر العملاق داخل الكهف، حتى عاد يسوق قطعانه. وكان يحمل مقدارًا ضخمًا من الخشب الجاف؛ ليستخدمه في إعداد عَشائه، وقذَف به من فوق ظهره، إلى داخل الكهف، مُحدثًا صوتًا مدويًا، فاستَبدَّ بنا الفزع، وانكمشنا في إحدى زوايا الكهف، بينما كان يدفع قطعانه السمينة إلى داخل المغارة الواسعة؛ سائر الإناث التي كان يحلبها. أما الذكور — الكباش والماعز — فقد تركَها خارج صحن الكهف المترامي الأطراف. وبعد ذلك رفع صخرة الباب الضخمة، ووضعها في مكانها، ويا لها من صخرة بالغة الكبر، تنوء برفعها عن الأرض اثنتان وعشرون عربةً ذات أربع عجلات، من العربات المتينة! إنها كتلةٌ هائلة من الصخر، تلك التي وضَعها أمام المدخل. وبعد ذلك جلس يحلب النعاج والماعز الثاغية، كلًّا بدوره، ووضع تحت كل أنثى صغيرها. وفي الحال خثَّر نصف اللبن الناصع البياض، ووضَعه في سلال من غصون الصفصاف، وحملها بعيدًا. أما النصف الآخر فوضَعه في أوعية ليتمتع بأن يعُبَّ منه في عَشائه. وهكذا شُغل بإنجاز مهامه ثم عاد يُشعل النار، فوقع بصره علينا، فسألنا قائلًا:
المعركة الكلامية بين العملاق وأوديسيوس
«من أنتم أيها الغرباء؟ ومن أين قدمتم بحرًا عَبْر المسلك المائية؟ ألغرضٍ بعينه جئتم، أم مجرد تجوالٍ تقومون به فوق صفحة اليم كما يجوس القراصنة، مغامرين بحياتهم لجلب الأذى على أقوام البلاد الأخرى؟»
قال هذا، فبلغَت أرواحُنا التراقي، من داخل صدورنا، فزعًا وهلعًا من صوته المنكَر وحجمه المهُول، ولكن رغم ذلك، أجبتُه بقولي:
ما إن قلتُ هذا، حتى أجابني بفظاظة وغلظة قلب، فقال: «أأنتَ أحمق أيها الغريب، أم أنك قدمتَ من بلدٍ قصي؛ إذ أراك تأمرني، إما بالخوف وإما باجتناب غضب الآلهة؟ إن الكوكلوبيس لا يهابون زوس، حامل الترس، ولا الآلهة الخالدين؛ إذ إننا أفضلُ منهم بكثير؛ وعلى ذلك فلن تفلتَ مني، أنت ولا أيٌّ من رفاقك، لكي أتحاشى غضب زوس، إلا إذا أمرني قلبي، ولكن خبِّرني: أين أرسيت سفينتك المتينة الصنع عندما قدِمتَ إلى هنا؟ أكان ذلك مصادفةً عند مكان قصي من البلاد، أم في موضعٍ قريب؟ إن لي رغبة في معرفة ذلك.»
هكذا تكلَّم، قاصدًا إغرائي، بيد أنه لم يُوقع بي، بسبب دهائي العظيم، فأجبتُه ثانية، بألفاظٍ ماكرة، قائلًا:
«إن سفينتي، قد حطَّمها بوسايدون، مزلزل الأرض، إلى أشلاء، قاذفًا بها إلى فوق الصخور عند تُخوم بلادك؛ إذ دفع بها قريبًا من اليابسة، وجرفَتْها الريح من البحر إلى الداخل، غير أنني نجوتُ، مع هؤلاء الرجال، من الهلاك الشامل.»
العملاق يتعشَّى باثنين من رجال أوديسيوس
العملاق يفطر برجلَين آخرين
ما كاد الفجر الباكر، ذو الأنامل الوردية، يلوح حتى نهض العملاق، وأشعل النار، وحلَب قطعانه العظيمة، كلًّا بدوره، ووضع صغير كل أنثى تحتها. وبعد أن انتهى من إنجاز أعماله تلك، انبرى، وأمسك من جديدٍ برجلَين، وأعدَّ منهما وجبتَه في الحال. وبعد أن فرغ من طعامه، ساق قطعانه السمينة إلى خارج المغارة، وأزاح صخرة الباب الضخمة في يسر، ثم أعادها مكانها ثانية، كما يضع المرء الغطاء فوق الجعبة. وبصفيرٍ مُدوٍّ، ذهب الكوكلوب بقطعانه السمينة صوب الجبل، بينما بقيتُ أنا هنا في الكهف، أُدبِّر الشر في قرارة نفسي، حتى أنتقم منه بأية وسيلة، وقد منحَتْني أثينا المجد.
خطة أوديسيوس للقضاء على العملاق
أوديسيوس يثمل العملاق
«أيها الكوكلوب، خذ هذه الخمر، واشربها بعدَ وجبتك من لحم البشر، لتعرف أي لونٍ من الشراب، هذا الذي احتوته سفينتنا. لقد أحضرتُ هذا الشراب، خصيصًا لك، كشراب تقدمة، عسى أن تأخذك الشفقة بي، وتُرسلني في طريقي إلى الوطن، بيد أنك تثور بطريقة تفوق كل ما يمكن احتماله. أيها الرجل الفظ، كيف يستطيع أي رجل، من سائر جموع الناس، أن يأتيك بعد الآن؟ لأنني أراك قد صنعتَ ما يُخالف القوانين.»
هكذا قلتُ، فأمسَكَ الكأس، وأفرغَها في جوفه، وابتهج كثيرًا؛ إذ تناول الشراب الحلو، وسألني المزيد منه مرةً أخرى، قائلًا:
«زدني من هذا، ثانيةً، بقلبٍ رضي، وأخبرني في الحال عن اسمك، حتى يمكنني أن أُعطيكَ هدية ضيف؛ ليبتهج بها قلبك؛ لأن أرض الكوكلوبيس، واهبة الغلال، تحمل عناقيد العنب الغنية بالعصير، وأمطار زوس تمنحها المزيد، غير أن هذه ليست سوى جرعة من الأمبروسيا والنكتار.»
ما إن قال هذا حتى ناولتُه الخمر المُستعرة. ثلاث مراتٍ أصبها له وأُعطيه، وثلاث مراتٍ يفرغ الشراب بحمق في جوفه. وبعد أن سلبَت الخمر لب الكوكلوب، خاطبتُه بعباراتٍ رقيقة، قائلًا:
«تسألني عن اسمي المجيد، أيها الكوكلوب، وعلى ذلك سأذكره لك، حتى تُعطيني هدية الضيف، كما وعدتَني، إن اسمي هو «لا أحد» فهكذا يُسمِّيني أبي وأمي، وجميع رفقائي أيضًا.»
هكذا قلتُ له، فأجابني في الحال بقلبٍ لا يعرف الرحمة، قائلًا:
«سوف آكل «لا أحد» بعد سائر رفقائه، وآكلهم جميعًا قبله، وهذه ستكون هديتي.»
الخمر تلعب بعقل العملاق
ما إن قال هذا، حتى سقط مستلقيًا على قفاه، وانحنى عنقه الغليظ مائلًا، وقد تملَّك منه النوم، الذي يقهر الجميع، ومن حَلقِه تدفَّقَت الخمر وقِطعٌ من الحم البشر؛ إذ تقيأ في نومه الثمل. عندئذٍ وضعتُ الوتدَ تحت الرماد العميق، حتى حمي الوتدُ وغدا شديد السخونة، وشجَّعتُ جميع رفاقي بألفاظٍ مفرحة، حتى لا يرتجف أحدهم ذُعرًا وهلعًا. وما كاد وتد خشب الزيتون يشتعل؛ لأنه كان أخضر، وبدأ يتوهَّج بعنف، حتى اقتربتُ وأخرجتُه من النار، ووقف زملائي إلى جانبي، وبَثَّ فينا أحد الأرباب شجاعةً بالغة. لقد أمسكوا بوتد الزيتون المدبَّب الطرف، ودفَعوه في عينه، بينما ارتميتُ أنا بثقلي عند طَرفه، وأخذتُ أُديره، وكما يثقب المرء أخشاب السفينة بالمثقاب، بينما يحافظ مَن يمسكون بالمثقاب من أسفل بواسطة السير، على استمرار دورانه، ويظل المثقب يدور دون توقُّف. هكذا أمسكنا بالوتد الناري الطرف، وأدرناه في عينه، وتدفَّق الدم حول القضيب المحمي، وألهبت النيران جفنَيه وحاجبيه من حول المقلة المُحترقة، التي طقطَقَت جذورها في النار. وكما يغمس الحداد فأسًا ضخمة أو بلطةً في الماء البارد، وسط الفحيح العالي، ليُقسِّيها — إذ بهذه الطريقة يستمد الحديد قُوَّته — هكذا أيضًا راحت عينه تفحُّ حول وتد خشب الزيتون، فأخذ العملاق يطلق الصراخ عاليًا مدويًا بفظاعة، وطنَّ الصخر من كل جانب، وإذ استولى علينا الفزع والذعر، وانكمشنا في ناحية، بينما أخرج هو الوتد من عينه، وكان ملطخًا كله بالدم، وقذف به بعيدًا وصار يُلوِّح بذراعَيه بوحشية. وبعد ذلك أخذ ينادي الكوكلوبيس القاطنين حوله في الكهوف وسط المرتفعات الشديدة الرياح، فسمعوا صياحه وهبُّوا لنجدته من كل حدب وصوب، ووقفوا حول كهفه يسألونه ماذا يؤلمه بقولهم:
فأجابهم بولوفيموس العتيد، من داخل المغارة، بقوله: «يا أصدقائي لا أحد يقتلُني بالحيلة ولا بالقوة.»
قالوا ذلك القول وانصرفوا إلى حال سبيلهم، بينما ضحك قلبي في داخلي؛ إذ خَدعَهم اسمي وخطَّتي الموضوعة بمكر ودهاء، إلى ذلك الحد. بعد ذلك صار الكوكلوب يتلمس حوائط الكهف بيديه، وهو يتأوَّه ويتوجَّع حتى بلغ الباب، فأزاح الصخرة، وجلس بنفسه عند الباب باسطًا ذراعَيه، أملًا في أن أي واحدٍ منا قد يُحاول الخروج مع الخراف — بمنتهى الغباء — لأنه في الحقيقة، كان يأمُل في قرارة نفسه أن يعثر عليَّ، ولكني دبَّرتُ خطةً لإنجاز كل شيءٍ على أتم وجه، راجيًا أن أُوفَّق إلى خطةٍ ما للهرب من الموت، أنا وزملائي، فأخذتُ أقدح الفكر سعيًا وراء كل سبل الحيلة والرأي السديد، كما يفعل المرء إزاء مسألة حياة أو موت؛ لأن الشر المحدق بنا كان عظيمًا، فوُفِّقْتُ إلى خطَّة، بدت لي خير فكرة. كانت هناك كباشٌ سمينة غليظة الجزَّة، حيواناتٌ رائعة وكبيرة، ذات صوفٍ أدكن كالبنفسج، فربطتُ هذه مع بعضها، في سكون، بأغصان الصفصاف المجدولة، التي كان ينام عليها الكوكلوب، ذلك الوحش ذو القلب المؤمن بالتمرُّد والعصيان، فكنتُ أربط كل ثلاثة كباشٍ سويًّا، يحمل أوسطها رجلًا، بينما يسير الكبشان الجانبيان، كل واحدٍ منها إلى جانب، منقذين رفقائي. وهكذا حمل كل ثلاثة خرافٍ رجلًا، أما فيما يختص بنفسي، فقد كان هناك كبشٌ ضخم، هو خيرُ ما في القطيع كله، فأمسكتُه من ظهره، وبسطتُ نفسي أسفل بطنه الأشعث، جاعلًا وجهي إلى فوق، وبقلبٍ ثابتٍ جريء، تعلَّقتُ بشدةٍ بيديَّ في جزَّته العجيبة، وهكذا بقينا، بالنحيب ننتظر قدوم الفجر اللامع.
هروب أوديسيوس بخديعة الكباش
ما إن لاح الفكر الباكر، ذو الأنامل الوردية، حتى أَسرعَت ذكور القطيع خارجةً لترعى، بينما شَرعَت الإناث تثغو حول الحظائر دون أن يحلبها أحد؛ إذ كانت ضروعها منتفخة، وسيدها يتلظَّى حزنًا بآلامه المُبرِّحة، فراح يتحسَّس ظهور جميع الخراف وهي تمر أمامه، ولكن لحماقته، لم ينتبه إلى أن رجالي كانوا مربوطين أسفل صدور كباشه الغزيرة الصوف. وآخر جميع القطيع، خرج الكبش المحمَّل بثقل جزَّته، وبشخصي الماكر، فلما تحسَّس بولوفيموس ظهره تحدَّث إليه قائلًا:
«يا هذا الكبش الكريم، لماذا بربك تخرج هكذا من الكهف آخر القطيع؟ ما كان من عادتك أن تُبطئ في الخروج وراء سائر الخراف، بل كنتَ دائمًا أول من يرعى النبت الغض من الحشائش، سائرًا بخطًى واسعة، وكنتَ أول من يصل إلى مجرى النهر المائي، وأسبق من كان يتوقَّد لهفة إلى العودة إلى الحظيرة في المساء. أما الآن فإنك آخر الجميع. لا شك أنك حزينٌ على عين سيدك، التي أعماها رجلٌ شرير، هو وأعوانه الأشقياء، بعد أن تغلَّب على حصافتي بالخمر، إنه لا أحد، الذي أؤكِّد لك أنه لم ينجُ بعد من الهلاك. آه! لو كنتَ فقط، تستطيع أن تُحس كما أُحس، أو لك القدرة على الكلام لتُخبرني أين يتوارى هو من غضبي، إذن لحطَّمتُ مخه، وجعلتُه يتدفَّق على الأرض في كل مكان هنا وهناك، في شتى أنحاء الكهف بعد أن أُشبعه ضربًا. وعندئذٍ كانت تزول المحن التي أنزلها بي هذا اللاأحد، العديم النفع، وتخفُّ عن قلبي.»
بعد أن انتهى الكوكلوب من كلامه ذاك، نحَّى عنه الكبش. وما إن ابتعدنا قليلًا عن الكهف وصَحنه، حتى خلَّيتُ نفسي أولًا عن الكبش، ثم فكَكتُ زملائي وأطلقتُ سراحهم، وبسرعةٍ سقنا تلك الأغنام الطويلة السيقان والممتلئة بالدهن، ونحن نتلفَّت كثيرًا حولنا، حتى وصلنا إلى السفينة. كانت رؤيتنا موضع ترحيب من زملائنا الأعزاء الذين سَرَّهم أن يرَوْنا وقد نجَوْنا من الموت، ولكنهم بكَوا على فقد الآخرين. غير أنني لم أدَعْهم طويلًا في البكاء، بل أمرتُ كل رجل، وأنا مقطَّب الأسارير أن يُسرِع بوضع الأغنام على ظهر السفينة، تلك الخراف الكثيرة العدد، ذات الجزَّات العظيمة، حتى نُسرِع بالإبحار عَبْر الماء الملح؛ وعلى ذلك صَعِدوا بسرعة، وبعد أن أخذوا مجالسهم في نظام، شَرعوا يضربون البحر السنجابي بمجاذيفهم. وما إن صرتُ على مدى سماع صوت المرء وهو يصرخ، صحتُ إلى الكوكلوب بألفاظٍ ساخرة أقول:
«أيها الكوكلوب، يبدو أن ذلك الرجل لم يكن ضعيفًا، هذا الذي كان في نيتك أن تلتهم رفقاءه بالقوة الغاشمة في كهفك الفسيح. ما من شَكٍّ في أن أعمالك الشريرة قد حاقت بك ونزلَت فوق رأسك أيها الشقي الفَظ، الذي لم تَتورَّع في أن تأكُل ضيوفك داخل بيتك؛ ولذلك فقد انتقم منك زوس والآلهة الآخرون.»
العملاق يهاجم أوديسيوس بصخرةٍ هائلة
هكذا قلتُ، فزاد حنقًا في قلبه، وكَسَر قمة جبلٍ شامخ، وطوَّح به نجونا، فسقطَت أمام السفينة القاتمة الحيزوم. وماج البحر من جراء سقوط تلك الصخرة، وكان ارتداد الماء المزاح أشبه بفيضانٍ من الأعماق، فحمل السفينة بسرعةٍ وجرفَها نحو البَر فوق الشاطئ. بيد أنني أمسكتُ بقضيبٍ طويل، ودفعتُ السفينة بعيدًا عن الشاطئ وبحذائه، ثم أومأتُ برأسي إلى رفقائي، وأمرتُهم أن يُعمِلوا التجذيف كي نستطيع النجاة من تلك المحنة الماحقة الشريرة، فانحَنَوا على مجاذيفهم وجذَّفوا بعنف. وما إن صرنا فوق صفحة البحر، وابتعَدْنا عن البَر بمسافةٍ ضعف الأولى، تاقت نفسي إلى أن أصرُخ إلى الكوكلوب، رغم أن زملائي، حولي قد حاولوا منعي، الواحد بعد الآخر، ناصحين إياي بكلماتٍ رقيقة، قائلين:
«أيها الطائش، لماذا تثير حنق رجلٍ متوحش؟ لقد رمى حجرًا إلى البحر العميق فدفع سفينتنا إلى الوراء نحو البَر، حتى خلنا، أننا حقًّا قد هلكنا. ولو سمع واحدًا منا يُخرج صوتًا أو يتكلم؛ لأمسك بصخرة مسنَّنة الأطراف، ولرمى بها محطمًا رءوسنا وأخشاب سفينتنا؛ إذ إنه يقذف بقوةٍ هائلة.»
هكذا تكَّلموا، ولكنهم لم يستطيعوا التأثير على نفسي الجريئة، فقلتُ ثانيةً بقلبٍ غاضب:
«أيها الكوكلوب، إنْ سألَك سائلٌ من البشر عمَّن سبَّب عمى عينَيك المخجل، فقل إنه أوديسيوس، مُخرِّب المدن، هو الذي أعماها. إنه لابن لايرتيس، الذي موطنه إيثاكا.»
العملاق يطالب بوسايدون الانتقام من أوديسيوس
قلتُ هذا، فصلَّى الكوكلوب لبوسايدون، باسطًا ذراعَيه كلتَيهما، إلى السماء ذات النجوم، يقول: «استمع إليَّ يا بوسايدون، يا مُطوِّق الأرض، أيها الرب ذو الشعر الأدكن، فلو أنني كنتُ ابنك حقًّا، وأعلنتَ أنت نفسكَ أنكَ أبي، لا تجعل أوديسيوس مُخرِّب المدن يصل أبدًا إلى وطنه، أوديسيوس بن لايرتيس، الذي موطنه إيثاكا، أما إذا كان مقدرًا له أن يرى أهله، ويصل إلى منزله المتين البناء، ووطنه، فليكن وصولُه متأخرًا، وفي حالةٍ يُرثَى لها، بعد أن يفقد سائر رفقائه ويعود في سفينة لرجلٍ آخر، وليُعانِ المحن في بيته.»
هكذا قال في صلاته، وسمعه الرب الأدكن الشعر. أما الكوكلوب، فقد رفع إلى فوق، من جديد، صخرةً أخرى، أضخم بكثير من السابقة، ولوَّح بها في الهواء، ثم قذَفها، واضعًا في رميته قوةً لا حد لها. لقد رمى بها خلف السفينة الدكناء الجؤجؤ، فسقطَت بقربها، وأخطأ الدفَّة بمسافةٍ بسيطة أو ما كادت، فهاج البحر تحت قوة سقوط الصخرة، وحملَت اللجة السفينة إلى الأمام، وجرفتها إلى الشاطئ.
وصلنا عندئذٍ إلى الجزيرة حيث كانت ترسو جميع سفننا الأخرى، ذات المقاعد المكينة، وقد جلس حولها رفقاؤنا، ينتظرون عودتنا، وهم يبكون. وعندما وصلنا إلى هناك، أرسينا سفينتنا فوق الرمال، ونزلنا، نحن أنفسنا إلى شاطئ البحر. بعد ذلك أنزلنا من السفينة الواسعة قطعان الكوكلوب، وقسمناها، بقَدْر ما كان في مقدوري أن أقسم، حتى لا يُحرم أي رجل من نصيبه العادل. أما الكبش الكبير، فقد تركه لي زملائي، فأعطَوه لي وحدي، كجائزةٍ منفصلة، عندما قسمتُ القطعان، فنحرتُه فوق الشاطئ ذبيحة لزوس بن كرونوس، رب السحب القاتمة، وسيد الجميع، وأحرقتُ قِطع الأفخاذ، ولكنه مع ذلك لم يكن ليهتَم بذبيحتي، بل كان يُدبِّر كيف تتحطَّم جميع سُفني المتينة المقاعد، وكذا زملائي الأعزاء الأوفياء.
ومِن ثَمَّ، طفقنا طوال اليوم كله، إلى أن أغربت الشمس، جالسين نولم على لحمٍ وفير وخمرٍ لذيذة. ولمَّا احتجَبَت الشمس وراء الأفق، وخيَّم الظلام على الكون، رقدنا لنستريح فوق شاطئ البحر، وما كاد الفجر الباكر، ذو الأنامل الوردية، يظهر في السماء، حتى أيقظتُ رفاقي، وأمرتُهم بالصعود إلى السفن، وحل حبال الكوثل، فصَعِدوا في الحال، وجلَسوا فوق المقاعد، وبعد أن استَووْا في مقاعدهم بنظام، أخذوا يضربون البحر السنجابي بمجاذيفهم.
من هناكَ أبحرنا بقلوبٍ مثقَلة بالأحزان، ولكننا كنا مسرورين لنجاتنا من الموت، بالرغم من أننا فقدنا زملاءنا الأعزاء.