الأنشودة العاشرة
أوديسيوس في ضيافة حارس الرياح
أوديسيوس يقترب من وطنه
بحارة أوديسيوس يفتحون الكيس
«ويحه! ما أعظم حب وتكريم الناس لهذا الرجل أينما ذهب! إنه يحمل معه كنزًا ضخمًا من أرض طروادة، أخذه من الغنائم، بينما نحن، الذين قمنا بنفس الرحلة معه، قد عدنا بأيدٍ خالية. وها هو ذا أيولوس قد أعطاه هذه الهدايا، بمحض المودة والمحبة، هيا أيها الرفاق، أسرعوا بنا لنرى ما بهذا الكيس، ماذا يحوي من الذهب والفضة.»
هكذا قال الرفاق فيما بينهم، وتَمَّ لهم ما دبَّروا من خطَّةٍ شريرة، فما إن حلُّوا رباط الكيس، حتى انطلقَت سائر الرياح من عقالها، واكتسحَتْهم ثانية إلى البحر بعيدًا عن الوطن. أما أنا فاستيقظتُ من نومي، وفكرتُ في قلبي العظيم هل أُلقي بنفسي من السفينة وأَهلِك في البحر، أم أقاسي الويلات في صمت، وأظل باقيًا على قيد الحياة. وعلى أية حال، فقد كظمتُ غيظي وبقيت، ثم غطَّيتُ رأسي وظللتُ راقدًا في السفينة. بيد أنه هبَّت على السفن ريحٌ عاتية هوجاء، حملَتها جميعًا وعادت بها إلى الجزيرة الأيولية، فراح رفقائي يعَضُّون بنان الندم ويئنُّون.
أيولوس لا يُرحِّب بأوديسيوس ثانية
سِرنا بحذاء الشاطئ هناك، وأخذنا كفايتنا من الماء، وفي الحال تناوَل زملائي طعامهم بجانب السفن السريعة. وبعد أن تناولنا الطعام والشراب، صحبتُ معي رسولًا ورفيقًا واحدًا، وذهبنا إلى قصر أيولوس المجيد، فوجدناه يولم بجانب زوجته وأولاده، فدخلنا القصر، وجلسنا بجانب قوائم الباب، فوق العتبة، فعَجبوا لرجوعنا، وبُهِتوا في قرارة نفوسهم، وسألونا قائلين:
«كيف جئتَ إلى هنا يا أوديسيوس؟ أي ربٍّ شرير هاجمك؟ لا شك أننا قد بعثنا بك مُعززًا مكرمًا، لكي تصل إلى وطنك ومنزلك أو إلى أي مكان تريد.»
قالوا هذا فأجبتهم بقلبٍ ملؤه الحزن والكمد، فقلتُ: «خطأٌ شرير اقترفه زملائي الأشرار في حقي، وكذلك النوم اللعين، وأرجو أن تُصلِحوا أيها الأصدقاء، ما أفسد هؤلاء؛ لأن القوة معكم.»
وصول أوديسيوس إلى بلاد اللايستروجونيين
قلتُ هذا، وتحدَّثتُ إليهم في عباراتٍ رقيقة، غير أنهم لزموا الصمت، ثم أجاب أبوهم قائلًا:
«ارحلوا عن جزيرتنا بسرعة، يا أشَر مَن على ظهر البسيطة. لا أستطيع بأي حالٍ أن أمُد يد المساعدة لرجلٍ تمقُته الآلهة المباركة، أو أُرسله في طريقه. إليكم عنا؛ فإنما قد حضَرتم إلى هنا، قومًا يكرههم الخالدون.»
وقوع أوديسيوس في قبضة كيركي
«أيها الأصدقاء، لم يَحِن موعد هبوطنا إلى بيت هاديس بعدُ، رغم ما نحن عليه من آلام؛ إذ لم يحلَّ علينا يوم القضاء. هلموا بنا، طالما لا يزال هناك طعام وشراب في سفينتنا السريعة، نفكر في طعامنا، حتى لا نذوي من الجوع.»
هكذا تكلَّمتُ، فتحطَّمتُ أرواحهم في داخل أجسادهم، وقد استعادوا في مُخيِّلتهم ما فعله أنتيفاتيس اللايستروجوني، وقسوة الكوكلوب المُتحجِّر القلب، من أكل لحوم البشر، فأخذوا يبكون عاليًا، وذرفوا الدموع السواجم، ولكن ذلك لم يُجدِهم نفعًا.
رجال أوديسيوس ينمسخون خنازير
«أيها الأصدقاء، إن بالداخل شخصًا يروح ويجيء أمام نسيجٍ فخم، يشدو بصوتٍ رخيم، لدرجة أن الأرض كلها تُدوِّي بصدى غنائه، لا بد أن يكون هذا الشخص ربةً ما، أو سيدةً من السيدات، هلُموا بنا، نُسرِع بالنداء عليها.»
أوديسيوس يستمع إلى محنة رفقائه
أسرع يورولوخوس، من فَوْره، بالعودة إلى السفينة السوداء السريعة، لينقل إلينا خبر رفقائه، ومصيرهم المخزي. لقد ألجم الحزنُ لسانه فلم يستطع أن ينطق بكلمةٍ واحدة، رغم تلهُّفه إلى الإفضاء بما وراءه من الأخبار. وقد اغرورقَت عيناه بالدموع، وانصبَّت روحه على النحيب، فلما سألناه مدهوشين، قَصَّ علينا ما نال الآخرين من أصدقائه من مصير، قائلًا:
«انطلقنا خلال الأدغال، كما أمرتَنا أيها النبيل أوديسيوس، فوجَدْنا في ممرات الغابة مكانًا جميلًا، مشيدًا من الصخور المصقولة، في مكانٍ رحب. وكان هناك شخصٌ يغدو ويروح أمام نسيجٍ هائل، يغني بصوتٍ واضح، ربَّةٌ ما، أو امرأة، فصاحوا عاليًا ونادَوْها، فخرجَت من فورها وفتحَت الأبواب اللامعة، وأَمرتْهم بالدخول، فدخلوا معها جميعًا بحماقتهم. أما أنا فتخلَّفتُ وبقيتُ في الخارج؛ لأنني شككتُ في أن يكون هناك كمين. بعد ذلك اختفَوا كلهم، ولم يظهر منهم أحدٌ ثانية، رغم أنني انتظرتُ جالسًا في الخارج مدةً طويلة، وظللتُ أُراقب.»
أوديسيوس يهمُّ لنجدَة رفقائه
عندما سمعتُ كلامه هذا، وضعتُ سيفي المرصَّع بالفضة حول كتفي، وكان سيفًا ضخمًا من البرونز، وعلَّقتُ قوسي حول جسمي، وأمرتُ يورولوخوس بأن يقودني، عائدًا من نفس الطريق. بيد أنه أمسكَني بكلتا يدَيه، وأخذ يتوسَّل إليَّ واضعًا يدَيه على ركبتَي، وكلَّمني وهو يبكي بكلماتٍ حماسية، فقال:
«لا تقُدني إلى هناك، بالرغم مني، يا سليل زوس، ولكن اتركني هنا فإنني أعلم يقينًا، إما أنك لن تعود ثانية، أنت نفسك، وإما أنك لن تُحضِر أي واحدٍ من الزملاء، دعنا نهرب بمن معنا هنا. بأقصى سرعة، طالما يُمكِننا أن ننجو من اليوم الشرير.»
هكذا تكلَّم، ولكني أجبتُه بقولي: «يا يورولوخوس، يمكنك أن تبقى هنا في هذا المكان، تأكل وتشرب بجانب السفينة الواسعة السوداء، أما أنا فإني ذاهب؛ إذ تقع ضرورةٌ مُلِحة على عاتقي.»
هيرميس يخفُّ لمساعدة أوديسيوس
ما إن قلتُ هذا، حتى انطلقتُ من السفينة، والبحر. بيد أنني، وأنا أجتاز الممرات المقدسة، وأوشكتُ على بلوغ منزل الساحرة كيركي، المنيف، قابلني هيرميس، ذو الصولجان الذهبي، التقى بي وأنا ذاهب إلى المنزل، في صورة شابٍّ يافع يتألق وجهه كأنه الفجر الباكر، ويتجلى في مُحيَّاه سحر الشباب بأجمل مظاهره، فأمسك بيدي، وخاطبني بقوله:
«إلى أين أنت ذاهبٌ ثانية، أيها الرجل التعيس؟ أهكذا تسير وحدك وسط التلال، دون أن تعرف عن البلاد شيئًا؟ يؤسفني أن رفقاءك، هناك في كيركي، محبوسون في الحظائر المتقاربة القضبان، في هيئة خنازير، فهل أتيتَ لتُخلِّصهم؟ إنني أُخبرك، بأنك لن تعودَ ثانية، أنتَ نفسك، ولكنكَ ستبقى هناك مع الآخرين، ولكن تعالَ؛ فإني سأُنقذكَ من الأذى وأُنجِّيك. دونكَ هذا العشب القوي، وانطلق إلى بيت كيركي، فإنه سوف يُجنِّب رأسك لليوم المشئوم. هيا، استمع إليَّ، فسأُخبرك بجميع حيل كيركي المؤذية. إنها ستخلط لك شرابًا، وتضع في الطعام عقاقير، ولكنها بالرغم من ذلك لن تستطيع أن تَسحَرك؛ لأن العشب القوي الذي سأُعطيكه، لن يتأثَّر بتلك العقاقير. وسوف أُخبركَ بكل شيء، فعندما تضربك كيركي بصولجانها الطويل، استلَّ سيفكَ الحاد من جانب فخذك، واهجُم عليها، كما لو كنتَ ستقتلها؛ عندئذٍ سيتملَّكُها الخوفُ منك، وتأمركَ بالرقاد معها. بعد ذلك إياك أن ترفُض الرقاد في مخدع الربة، لكي تُطلِق سراح زملائك، وتُقدِّم لك الضيافة، ولكن مُرها بأن تقسم يمينًا عظيمة بالآلهة المباركين، أنها لن تُدبِّر لك أي أذًى من جديد، أو تَحيكَ ضدك ما يؤذيك، خشية أنها — وقد جعلتكَ عُريان — قد صيَّرتكَ ضعيفًا عديم الرجولة.»
قال أرجايفونتيس، ذلك القول، وأعطاني العشب، وقد نزَعَه من الأرض، مبينًا لي خصائصه. كان أسودَ من جهة الجذر، ولكن زهرتَه كانت ناصعةً كاللبن. إنه النبات الواقي من السحر؛ فهكذا يُسمِّيه الآلهة، ومن العسير على البشر أن ينزعوه من الأرض، غير أن كل شيءٍ مستطاع لدى الآلهة. بعد ذلك انصرف هيرميس إلى أوليمبوس الشامخ، خلال الجزيرة ذات الغابات، فانطلقتُ في طريقي إلى قصر كيركي، بينما راح قلبي يُفكِّر في أمورٍ كثيرة، متشائمًا وأنا ذاهب؛ ومِن ثَمَّ وقفتُ عند أبواب الربة الجميلة الجدائل، وقفتُ هناك وناديت، فسمِعَت الربة صوتي وفي الحال أقبلَت، وفتحَت الأبواب اللامعة، وأَمرتْني بالدخول، فذهبتُ معها، وقلبي مضطربٌ غاية الاضطراب. أدخلَتْني وأجلَستْني فوق كرسيٍّ مُرصَّع بالفضة، كرسي جميل، بديع الصنع، ومن أسفله كرسيٌّ صغير للقدمَين. وأعدَّت لي الجرعة في كأسٍ ذهبية، كي أشربها، ووضعَت فيها عقارًا، وهي تُضمِر السوء في قلبها، غير أنه عندما تناولْتُها منها، وشربتُها، لم أُسحَر، فضربَتْني بصولجانها، وهي تقولي: «انطلق الآن إلى الحظيرة، وارقد مع بقية زملائك.»
أوديسيوس يقهر كيركي
قالت هذا، ولكني سلَلتُ حسامي البتَّار من جوار فخذي، وهجمتُ على كيركي، كما لو كنتُ سأقتُلُها. بيد أنها صاحت صيحةً بالغة، وارتمت على الأرض، ممسكةً بركبتي، وأخذَت تتحدَّث إليَّ بعباراتٍ حماسية، وهي تبكي، فقالت:
«مَن تكونُ يا هذا بين البشر، ومن أين قَدِمت؟ أين تقع مدينتُك، وأين أبواك! إنني لأعجبُ من أنك تجرَّعتَ تلك الكأس المسحورة، ولم تؤثِّر فيك بحالٍ ما؛ فما من رجل كائنًا من كان، استطاع مقاومة هذه الرُّقْية بمجرد أن يشربها وتمر من بين شفتَيه. كلا، إن قلبك، الكائن في صدرك، ليس من النوع الذي يُخدع. لا رَيْب أنك أوديسيوس، الحاضر الحيلة، الذي كثيرًا ما أخبرني أرجايفونتيس، ذو الصولجان الذهبي، أنه سيأتي إلى هنا، وهو في طريقه إلى الوطن، قادمًا من طروادة، في سفينته السريعة السوداء. خلِّ عنك، وضع سيفَكَ في غمده، وهيَّا بنا نصعد إلى فراشي، حتى إذا ما ضمَّنا الفراش معًا في عشق، استطاع كلٌّ منا أن يثق بالآخر.»
هكذا تكلَّمَت الربة، ولكني أجبتُها بقولي: «أي كيركي، كيف تأمرينني بأن أكون رقيقًا معك، أنت يا من حوَّلتِ رفاقي إلى خنازيرَ في ساحاتك، والآن تحتفظين بي هنا، وبنيةٍ خدَّاعة تأمرينني بالذهاب إلى حجرتك، والصعود معك إلى فراشك، حتى إذا تجردتُ من سلاحي وملابسي، أمكنكِ أن تجعليني ضعيفًا مخنَّثًا؟ كلا أيتها الربَّة؛ فما أنا بالشخص الذي يتوق بحقٍّ إلى الصعود إلى فراشك، إلا إذا وافقتِ أيتها الربة، على أن تُقسمي يمينًا لا حِنث فيها، أنكِ لن تحيكي ضدي أي أذًى جديد ضارٍّ بي.»
كيركي تَعِد أوديسيوس بالأمان
هكذا قلتُ لها، فأقسمَت في الحال أنها لن تُنزل بي أي ضرر، كما أمرتُها، وبعد أن حلفَت اليمين، وانتهت منها، صَعِدت إلى فراشها الجميل، فراش الربة كيركي.
كانت وصيفاتها، في تلك الأثناء، مشغولات في الساحات. إنهن خادماتها الأربع، اللواتي كن يعشن معها في ذلك البيت. إنهن بنات الينابيع والكهوف والأنهار المقدسة التي تتدفَّق وتصُب في البحر، فشَرعَت إحداهن تضع فوق الكراسي طنافسَ جميلة من الأرجوان، وفرشَت من تحتها قماشًا من الكتَّان، وجاءت أخرى بمناضدَ من الفضة وضعَتْها أمام المقاعد، ووضعَت فوقها أسفاطًا من الذهب، بينما راحت ثالثةٌ تخلط الخمر الحلوة العسلية في طاسٍ من اللجَين، وأخذَت تُقدِّم كئوسًا من العسجد، بينما أحضَرت الرابعة ماءً، وأوقدَت نارًا عظيمة تحت قِدْرٍ كبيرة، فصار الماء يسخن. ولمَّا غلى الماء في البرونز اللامع أدخلَتْني إلى الحمام، وغسَّلَتْني بالماء من القِدْر الكبيرة، وكانت تمزجه بالماء البارد ليصير مناسبًا لاحتمالي، فطَفِقَت تَسكُبه فوق رأسي وكتفي، حتى أزالت التعب المُهلِك للروح، من أطرافي. وبعد أن انتهى الاستحمام، ودعَكَت جسمي جيدًا بالزيت، ودثَّرتني في عباءةٍ جميلة ومعطف، قادَتْني إلى البهو، وأجلَستْني فوق كرسيٍّ مرصَّع بالفضة — كرسي جميل بديع الصنع عند أسفله كرسيٌّ صغير للقدمَين. بعد ذلك جاءت إحدى الإماء بماء لغسيل الأيدي، في إبريقٍ بديع من الذهب، وسكَبَته في طستٍ من اللجَين، كي أغسل يدي، ودفعَت إلى جانبي منضدةً لامعة، ثم جاءت ربَّة البيت القاسية، ووضعَت أمامي خبزًا، ولحمًا كثيرًا، واهبةً ذلك بكرم، من خزينها. وبعدئذٍ أَمرتْني بتناول الطعام، غير أن قلبي لم يكن ميالًا إلى ذلك؛ فبالحري، جلستُ وقد انتابتني الأفكار، وأنذرَتْني روحي بشر.
«لِم تجلس هكذا، يا أوديسيوس، أشبه بشخصٍ أبكم، تُذيب قلبك همًّا وحزنًا، دون أن تمَسَّ أي طعام أو شراب؟ هل تقدح ذهنك تفكيرًا في حيلةٍ أخرى؟ كلا، لستَ بحاجةٍ لأن تخاف شيئًا ما، بأية حال من الأحوال، طالما أنني قد أقسمتُ لك تلك اليمين، التي لا حِنث فيها قط، بألا أوذيك.»
هكذا قالت، ولكني أجبتُ بقولي: «أيا كيركي، أي رجلٍ سليم العقل، يمكنه إجبار نفسه على تذوُّق الطعام أو الشراب، قبل أن يُطلَق سراح زملائه، ويُبصِر بهم أمام وجهه؟ فإذا كنتِ بنيةٍ خالصة، تأمرينني بتناول الطعام، والشراب، فهيا أطلقي سراحَهم كي تُشاهِد عيناي رفقائي الأوفياء.»
الخنازير تنمسخ رجالًا كما كانوا
كان هذا حديثي إليها، فانطلقَت كيركي عَبْر البهو، تحمل في يدها صولجانها، وفتحَت أبواب الحظيرة، وأخرجَتْهم في صورة خنازير سنُّها تسع سنوات، فوقفوا أمامها هناك على تلك الهيئة، وذهبَت هي في وسطهم، وأخذَت تدهن كل رجلٍ بجرعةٍ سحرية أخرى، فطَفِق الشعر يتساقَط من أطرافهم، ذلك الشعر الذي نما عليها بتأثير العقار الضار، الذي كانت أعطتهم إياه كيركي الجليلة. وهكذا صاروا رجالًا من جديد، أقرب إلى الشباب مما كانوا من قبلُ، وأبهى منظرًا وأطول قامة، للرائين. لقد عرفوني، فتعلَّق كل رجلٍ منهم بيدي، وتشنَّجَت أطرافهم من فَرْط فرحهم، ودوَّى المنزل من حولهم بالأعاجيب، حتى إن الربة نفسها، ثارت فيها عاطفة الشفقة.
بعد ذلك اقتربَت الربة الفاتنة مني، وقالت: «يا ابن لايرتيس، يا سليل زوس، أي أوديسيوس، الواسع الحيلة، انطلق الآن إلى سفينتك السريعة، وإلى ساحل البحر، وابدأ أولًا، وقبل كل شيء، بسحب السفينة فوق البَر، واخزن أمتعتكَ وسائر حاجياتكَ وحبال سفينتك في الكهوف، ثم ارجع إلى هنا، أنتَ نفسكَ، وأحضِر معك زملاءكَ المخلصين.»
أوديسيوس ورفاقه يقيمون لدى كيركي
«ما أعظم سُرورَنا لعودتك، أيها المنحدر من زوس، كما لو كنا قد عدنا إلى وطننا، إيثاكا! هيا، قُص علينا ما حدث لبقية الرفاق.»
هكذا قالوا، فأجبتُهم برقيق الألفاظ، قائلًا: «هيا بنا، أولًا وقبل كل شيء نسحب السفينة فوق اليابسة، ونخزن أشياءنا وجميع الحبال في الكهوف، ثم ننطلق جميعًا، لكي تَروْا زملاءكم في ساحات كيركي المقدسة يشربون ويأكلون، وأمامهم خزينٌ لا ينضُب معينه.»
ما إن قلتُ لهم هذا، حتى صدَعوا بالأمر. وكان يورولوخوس وحده هو الذي حاول أن يمنع جميع الزملاء من تلبية أمري؛ إذ خاطبهم بعباراتٍ حماسية، فقال:
«ويحكم أيها الرجال الأشقياء! إلى أين نحن ذاهبون؟ لماذا أنتم مُغرمون بهذه المحن هكذا؟ كأن تذهبوا إلى منزل كيركي، التي سوف تُحوِّلُنا جميعًا إلى خنازير، أو إلى ذئاب أو أسود، لتُرغمنا على حراسة بيتها بالقوة! هكذا فعل الكوكلوب أيضًا. عندما ذهب زملاؤنا إلى كهفه، بصحبة هذا الطائش أوديسيوس؛ لأنه من جرَّاء تهوُّر هذا الرجل هلَكُوا هم أيضًا.»
كان هذا قوله، فاحتار قلبي، ما أفعل، هل أستل سيفي الطويل من جانب فخذي المسكين، فأحزُّ به رأسه، ليتدحرج على الأرض، بالرغم من أنه يمتُّ إليَّ بصلة النسب من ناحية الزواج؟! غير أن رفقائي، حاولوا، واحدًا بعد آخر، أن يمنعوني، برقيق الألفاظ، قائلين:
«أيها المنحدر من زوس، إننا طَوعُ أمرك، فلو أمرتنا لتركنا هذا الرجل هنا بجانب السفينة، لكي يحرسها، أما نحنُ فلكَ أن تقودنا إلى بيت كيركي المقدس.»
قالوا هذا، وخرجوا من السفينة والبحر. ولم نترك يورولوخوس بجانب السفينة الواسعة، بل ذهب معنا؛ إذ خَشِي لَوْمي اللاذع.
عندما بلَغْنا ساحاتِ كيركي، غسَّلَت باقي زملائي في اهتمامٍ بالغ، ودهنَتهم جيدًا بالزيت، ودثَّرتْهم في عباياتٍ من الصوف ومعاطف، ووجَدْنا رفاقنا جميعًا يُولِمون في الساحات، ملء بطونهم، فلمَّا رأَوا الآخرين، وتَعرَّف كلٌّ منهم على الآخر، وجهًا لوجه، بكَوا وانتحَبوا ودوَّى البيت من حولهم بالبكاء، فاقتربَت مني الربة الحسناء، وقالت:
«كُفُّوا بعد الآن عن هذا النحيب المرير؛ فإنني، أنا نفسي على علمٍ بجميع المحن التي تكبَّدْتموها وسط الخِضَم الزاخر، وكل المصائب التي أنزلَها بكم أولئك الأقوامُ الأفظاظُ فوق سطح الأرض. هلُموا، إلى تناول الطعام والشراب والخمر، إلى أن تستردُّوا من جديدٍ أرواحكم إلى داخل صدوركم، كما كنتم في البدء عند رحيلكم من وطنكم إيثاكا الوعرة؛ فإنكم الآن قد ذَوَيْتم، وخارت قواكم، من جرَّاء تفكيركم في الرحلات الشاقَّة، ولم تدخل السعادة قلوبكم قط؛ إذ في الحقيقة، قد تكبَّدتُم الكثير.»
كيركي توافق على رحيل أوديسيوس
هكذا قالت كيركي، فوافقَت قلوبنا العالية؛ ومِن ثَمَّ بقينا هناك، يومًا بعد يوم، لمدة عامٍ كامل، نُولِم على لحمٍ وفيرٍ، وخمرٍ لذيذة، فلمَّا انقضَت السنة ومرَّت الفصول، بتعاقُب الشهور، ومرور الأيام الطويلة في مجراها، استدعاني زملائي الأوفياء، وقالوا لي:
«أيها الرجل الغريب، أما آن لكَ أن تُفكِّر الآن، أخيرًا في وطنك إذا كان مكتوبًا لك أن تنجو، وأن تصل إلى بيتك السامق السطح؟»
هكذا تكلَّموا فوافق قلبي السامي، وبقينا اليوم بطوله، حتى غروب الشمس، جالسين إلى موائدَ زاخرة باللحم الكثير والخمر اللذيذة، فلمَّا اختفَت الشمس وراء الأفق، وجاءت الظلمة، رقَدوا في الساحات الظليلة لينعموا بالنوم، بينما صَعِدتُ أنا إلى فراش كيركي الوثير، وتوسَّلتُ إليها، جاثيًا عند ركبتَيها، فسمِعَت الربة تضرُّعي، وتكلَّمتُ مخاطبًا إياها بعباراتٍ سريعة، فقلت:
«هيا كيركي، حَقِّقي لي الوعد الذي قَطعتِه على نفسك، بأن تبعثي بي إلى الوطن؛ فإن روحي تتوق الآن إلى الرحيل، وكذلك أرواح زملائي، الذين يُذيبون قلبي. وهم يجلسون من حولي يبكون، كلما تصادف أن تكوني بمنأًى عنهم.»
أوديسيوس يذهب إلى هاديس
هكذا قالت الربة، فتداعت روحي داخل صدري، وشرعتُ أبكي وأنا اجلس فوق الفراش، ولم يعُد لقلبي أية رغبةٍ في الحياة ورؤية ضوء الشمس، وبعد أن بكيتُ ما شئتُ أن أبكي وأُولوِل، أجبتُ كيركي، متحدثًا إليها بقولي:
«أي كيركي، مَن ذلك الذي سيقودنا في هذه الرحلة؟ فلم يسبق لبشرٍ أن ذهب قَط إلى هاديس في سفينةٍ سوداء.»
هكذا قالت، وفي الحال، لاح الفجر الذهبي العرش، فألقت حولي عباءة ومعطفًا، وتدثَّرت الحورية في ثوبٍ طويل أبيض، دقيق النسيج جميل، وشدَّت وسطها بزنَّارٍ بديع من الذهب، وألقت فوق رأسها خمارًا، فسِرتُ عَبْر الساحات، وأيقظتُ رجالي برقيق الألفاظ، متجهًا نحو كل رجلٍ بدوره أقول لهم:
«لا تناموا بعد الآن، ولا تستغرقوا في الكرى اللذيذ، بل هلُموا بنا ننطلق؛ فلِلعجَب، أن كيركي الجليلة قد أفضَت إليَّ بكل شيء!»
إلبينور يبقى مع كيركي
وبينما كان رجالي في طريقهم خاطبتُهم بقولي: «إنكم تظنُّون أنكم ذاهبون بحقٍّ إلى وطنكم العزيز، ولكن كيركي قد عيَّنَت لنا رحلةً أخرى، إلى بيت هاديس وبيرسيفوني المهوبة، لنستشير روح تايريسياس الطيبى.»
ما إن أخبرتُهم بهذا حتى جزعَت أرواحهم في داخلهم، ولمَّا اعتلَوا في مجلسهم حيث كانوا، أخذوا يبكون، وشدُّوا شعورهم، بيد أن بكاءهم لم يُجدِهم نفعًا.
وبينما نحن في طريقنا إلى السفينة السريعة، وإلى شاطئ البحر، محزوني الفؤاد، نَذرِف الدموع السواجم، كانت كيركي، في نفس الوقت، قد سبقَتْنا إلى هناك، ووضَعَت إلى جانب السفينة السوداء كبشًا ونَعجةً سوداء؛ إذ كان من اليسير عليها أن تذهَب قبلنا إلى هناك. ومن ذا الذي يستطيع بعيونه رؤيةَ رب، ضد رغبته، سواء أكان غاديًا أم رائحًا؟