تُواجهنا صعوبةٌ في تحديد التاريخ والعصر اللذَين عاش فيهما هوميروس.
وفي الواقع ليست هناك أيةُ تواريخَ محدَّدة لمولده أو لمماته. والسبب
في ذلك يرجع إلى افتقارنا الشديد إلى تاريخٍ ثابت حقيقي جاء ذكره في
أيٍّ من ملحمتَيه أو في أي مؤلَّفٍ من مؤلَّفات معاصريه، ولأن باحثي
الآثار كذلك لم يتركوا لنا ما يشير إلى هذه التواريخ؛ إذ أغفَلوا ذكر
البيانات الزمنية التي يمكننا أن نستند إليها؛ ولذا فأيةُ محاولةٍ منا
لتحديد العصر الذي عاش فيه هوميروس لا بد وأن تكون محاولةً قائمة على
عنصر التخمين والحدْس لا تعطي القارئ نتيجةً حتمية بل نتيجة
تقريبية.
ومع ذلك فهناك حقيقةٌ سافرة وهي أن تاريخ هوميروس يمكننا أن نربطه
بتاريخ شاعرٍ آخر يُدعى هسيود Hesiod
يقول البعض إنه عاش قبل هوميروس، كما يقول فريقٌ آخر مثل هيرودتس Herodotus المؤرخ اليوناني الشهير إنه
وهوميروس عاشا في عصرٍ واحد؛ أي إنهما متعاصران. بيد أن هناك من يقول
إن هسيود عاش في عصر يلي عصر هوميروس. وأصحاب هذا الرأي الأخير من
أمثال فيلوخوروس Philochorus
وإكسينيفون Xenephon وبوسيدونيوس Posidonius يؤيِّدون رأي النقاد
الإسكندريين، فأيهم يحق لنا أن نُصدِّق؟
أما الذين يعتقدون بأن هسيود عاش في عصرٍ سابق لعصر هوميروس فيؤيدون
وجهة نظرهم قائلين إن هسيود عاش في بداية حكم الملك أركسيبوس Arxippos في حين أن هوميروس عاش في نهاية
حكم هذا الملك، وبذا يضعون هسيود قبل هوميروس بثلاثين عامًا تقريبًا،
ولكنَّ هناك دليلًا قاطعًا يُثبِت خطأ رأي هذا الفريق؛ إذ كيف
يُحدِّثنا هسيود في منظومته «الأعمال والأيام» Works and Days عن عصر الأبطال،
ذلك العصر الذي جاء ذكره فقط في
منظومتَي هوميروس؟ كيف تأتَّى له أن يذكُر لنا ذلك العصر بالتفصيل
فيُشوِّه بذلك حلقة العصور كما حاول أن يُصوِّرها هو لنا، فيُحدِّثنا
عن عصر الأبطال الذي أبدع هوميروس في الحديث عنه؟
أما الذين يميلون إلى الاعتقاد بأن هوميروس عاش في عصرٍ سبق عصر
هسيود فمنهم من يرى أنه عاش قبله بقرنٍ واحد من الزمان، وبذا يُحدِّد
له عام ٨٥٠ إلى ٨٣٥ق.م.، ويؤيد هذا الرأي العالم كروازيه Croiset بقوله: إنه من المستحيل أن يكون
هوميروس قد عاش بعد عام ٨٥٠ق.م. ويدعم رأيه قائلًا: إن أثَر الأشعار
الهومرية كان واسعًا شاسعًا، وشهرتها كانت قد وصلت الآفاق البعيدة في
الوقت الذي كانت فيه المنظومات الهسيودية لا تزال في دور الوضع أو قد
شارفَت النهاية؛ ولذا لا يمكن إزاء هذا أن يكون هسيود قد عاش بأية حالٍ
قبل نهاية العصر الهومري.
ولئن أخذنا برأي الذين يُخبرون بمعاصرة هسيود لهوميروس، لاستطعنا أن
نُحدِّد لكليهما تاريخًا معينًا، فهيرودتس أحد الذين يدينون بهذا الرأي
يقول: إن هوميروس وهسيود عاشا في عصرٍ يسبق عصره بأربعمائة سنة تمامًا.
ولمَّا كان هيرودتس قد وُلد عام ٤٨٤ق.م.، ومات عام ٤٣٠ق.م.، إذن فلا بد
وأن شاعرَيْنا قد عاشا في الفترة بين ٨٨٤ و٨٣٠ق.م.؛ أي ما يمكن لنا أن
نُحدِّده بعام ٨٥٠ق.م. تقريبًا. وهذا تاريخ يُنسَب عادة إلى هوميروس
ويُعضِّده الأديبان الإنجليزيان ألن Allen وبيرن Burn.
موقف هوميروس الأدبي
لعب هوميروس دورًا عظيمًا في تسجيل أحداث زمانه، والترنُّم
بشجاعة رجاله وأبطاله، والإشادة بجسارة المحاربين الذين تفانَوا في
الدفاع عن سمعة وطنهم وشَرف نسائهم.
وكان هوميروس يُعتبَر معلمًا ولكنه — بخلاف هسيود، وريث عرش
الشعر من بعده — معلمٌ غير مباشر؛ إذ كان دائمًا خياليًّا في فنه
وتصويره، حتى لَنصدُق إن قلنا إنه علَّم الشعراء الآخرين كيف
يُتقِنون فن الأكاذيب كما يجب، فضلًا عن أنه راح يُعلِّم بني جنسه
الشئون الحربية.
إذن كان الإغريق القدماء يعتبرون هوميروس شاعرهم التربوي،
وملقنهم الأوحد، ورائدهم الأعظم؛ ولذلك انتشَرت أشعاره في نطاقٍ
واسع.
ورغم اعتبار كلٍّ من هوميروس وهسيود مُعلمَي العصور القديمة،
ورغم استعمالهما لهجةً واحدة وأسلوبًا واحدًا، إلا أن هوميروس غير
هسيود، ومعلومات الأول غير معلومات الثاني، فالفرق بينهما شاسع بلا
شك؛ إذ لا يخاطب هوميروس غير الأشراف وطبقة الأرستقراطيين، ولا
يكترث بطبقات العوام ولا يلتفت إليها، بينما لم يهتم هسيود لغيرِ
طبقة العوام، فالأخير بلا شك لسانُ حال هذه الطبقة.
فلا تُكرِّم إلياذة هوميروس وأوديسته غيرَ طبقة الأشراف ولم
يُوجِّه صاحبهما نظره قَط إلى طبقة العامة؛ إذ يرى المرء أن هذه
الطبقة لا تتطلب من المرء أي اهتمام لما يصدر منها من نشاط، فلم
يحفل بها ولم يعبأ بشئونها، فليس من شئون الفلاح أو الجندي العادي
الذي حارب أمام أسوار طروادة أن يتدخل في العلاقة بين الآلهة
والبشر.
كان هوميروس فوق ذلك أشبه بالخيال أو الطيف، يكتنفه الغموض
وتتضاربُ حول شخصه الأقوال، لا يُحاول قَط أن يُحدِّثك عن أية
شخصية، ولا حتى عن شخصيته هو، فلم يذكر اسمه إطلاقًا في أي سطرٍ من
سطور منظومتَيه الشهيرتَين.
ويتناول هوميروس في أشعاره الروايات التاريخية والمغامرات
والمواضيع المسلِّية، كما أنه يتغلغل في نفوس النساء فيحاول أن
يُصوِّر ما ينتابهن من مشاعر وإحساسات، فبدت أشعاره صورةً رائعة
تعجُّ فيها الجاذبية ويَسبَح بين سطورها الغرام.
كان هوميروس مغرمًا بالأبطال، فأمراؤه أبطال وكذا زعماؤه
وقُوَّاده وإلا لما ابتكر عصر الأبطال الذي تشبه أبطالُه أنصافَ
الآلهة.
ونلمس في هوميروس إحساساتٍ مملوءة بالعاطفة واختلاجاتٍ مفعمة
بالمشاعر، هي سندنا في حكمنا عليه بأنه شاعرٌ متفائل.
وتتجلى عظمة هوميروس فيما بلغ إليه من صيتٍ عريض، لدرجة أن سبع
مدن كانت تتنازع عليه كلٌّ تريد أن تستأثر به لنفسها دون غيرها.
ومن أشهر المدن التي تنافسَت على شخصية هوميروس هما مدينتا
خيوس Chios وسمورنا Smyrna؛ إذ دأبت كلتاهما على الادعاء
بأن هوميروس هذا ملكها، وقد وُلِد في ربوعها ونشأ في أحضانها
وتَربَّى على خيراتها.
أما المدن الأخرى التي ادَّعَت بانتماء هوميروس إليها فهي
رودوس Rhodus وكولوفون Colophon وسلاميس Salamis وأرجوس Argos وأثينا Athenae.
ومما لا يرقى إليه الشك أن أشعار هوميروس كانت الأساس المكين
الذي نَهضَت عليه الآداب والتعاليم الإغريقية.
ويرجع الفضل أيضًا إلى المنشدين في المحافظة على أشعار هذا
الشاعر الفطحل؛ فمن المعروف أن هوميروس عاش في عصرٍ لم تكن الكتابة
تُزاوَل فيه إلا قليلًا جدًّا إن لم يكن نادرًا.
وصولون Solon هو أوَّل من لفَت
نظر مواطنيه إلى ما في ملحمتَي هوميروس من وحدة وترابُط، أما
بيزستراتوس Peisistratus فأوَّل
من جمع أشعار هوميروس المشتَّتة وأمر بتدوينها كتابة.
هذا ويَنسِبُ الأقدمون إلى هوميروس أشعارًا أخرى — عدا الإلياذة
والأوديسة.
ولعل أشهر هذه المنظومات الهومرية المنظومة المُسمَّاة
«معركة
الضفادع والفيران» Batrachom
yomachia وهي موجودة، وكذلك «المارجيتيس» Margites وهذه مفقودة، وتسخر من
رجلٍ قيل إنه يعرف أشياءَ كثيرة ولكن بطريقةٍ سيئة لا تدُل على أنه
يعرف شيئًا.
وكما حاول الكثيرون الطعن في هوميروس كمؤلِّفٍ لملحمتَي الإلياذة
والأوديسة، طعنُوا فيه أيضًا كمؤلِّفٍ لأي منظوماتٍ شعرية
أخرى.
فقد بدت هذه الأعمال الأدبية في نظرهم فوق مقدور رجلٍ واحد وعقلٍ
واحد، ولكن مما لا شك فيه أن هوميروس بن
مايون Maeon، الشاعر الضرير هو ذلك العملاق الذي كتب
بملحمتَيه صفحاتِ الخلود بحروفٍ من نارٍ ونورٍ، فكان الشاعر الخالد
والصخرة التي لم تستطع أمواج الزمان أن تُحطِّمها ولا معاولُ
القدَر أن تُفتِّتها، ولا حتى عقول البشر أن تسمو إليها، أو إلى
سماكها الأعلى.