الأنشودة الثامنة عشرة
معركةٌ كلامية بين أوديسيوس وأرنايوس الشحَّاذ
«ابتعد، أيها الرجل العجوز، عن المدخل، لئلا أُجرجركَ في الحال من قدمك. ألا ترى جميع الرجال يشيرون إليَّ، ويأمرونَني بأن أُخرجك، ولكنني، أنا شخصيًّا، أجد من العار أن أفعل ذلك، فهيا انهض، خشية أن يتطوَّر نزاعنا إلى اللكَمات.»
عندئذٍ، استشاط المتشرِّد إيروس حنقًا، وقال: «انظروا الآن إلى فصاحة اللسان التي يتكلَّم بها هذا التعيس القَذِر، كما لو كان طاهيةَ عجوز، ولكني سأُدبِّر له الشر، فأَضرِبه ذات الشمال وذات اليمين، وأنثُر أسنانه جميعًا من فكَّيه فوق الأرض، كما لو كان خنزيرًا بريًّا يُخرب القمح. شمِّر عن ساعدَيك الآن، كي يشهد جميع هؤلاء الرجال قتالنا أيضًا، ولكن كيف تستطيع مقاتلة رجلٍ أصغر منك؟»
المغازلون يستمتعون بمشاهدة الشحَّاذين يتعاركان
وهكذا طَفِق كلاهما، فوق العتبة المصقولة أمام الأبواب الشاهقة، يثيران حنق بعضهما البعض الآخر بمنتهى العنف، ثم سمعا أنتينوس القوي العتيد، يُقهقِه ضاحكًا ملء شِدقَيه طربًا، وتحدث وسط المغازلين، يقول:
«أيها الأصدقاء، لم يسبق قَط أن رأينا أمرًا مثل هذا يحدُث؛ أن قد جلَب أحد الآلهة مباراةً مثل هذه إلى هذا المنزل. إن كلًّا من هذا الغريب وإيروس يستفز الآخر إلى تبادُل الضربات. هيا بنا نعجل بهما إلى ذلك.»
هكذا تكلَّم، فنهَضُوا جميعهم وهم يضحكون واحتَشدوا حول الشحَّاذين الثرثارين. وتَحدَّث أنتينوس بن يوبايثيس، في وسطهم؛ قائلًا:
«استَمِعوا إليَّ أيها المُغازِلون المزهوُّون، فسأقول لكم شيئًا ما. لقد وضعنا كروش الماعز بجانب الوطيس، لنُعِدَّها لعَشائنا، بعد أن ملأناها بالدهن والدم، فأي هذَين يتفوَّق على الآخر ويُبرهِن على أنه أفضل، دعوه ينهض ويَختَر لنفسه ما يروقهُ منها. وزيادةً على ذلك فلنسمح له بأن يُولِم معنا دائمًا، ولن نسمح لأي سائلٍ آخر بأن ينضَم إلى جماعتنا ويستجدينا.»
هذا ما قاله أنتينوس، فسُر الجميع من كلامه. وعندئذٍ قام وسطهم أوديسيوس الكثير الحيل، وتكلَّم بخبث، قائلًا:
«أصدقائي، إنه لمن المستحيل على رجل عجوزٍ بخَعتْه النوائب أن يقاتل رجلًا أصغر منه. ومع ذلك فإن بطني، الآمر بالسوء، يحثُّني، على أن أُهزم بلكماته. هلُموا الآن، وأَقسِموا جميعًا أمامي قسمًا لا حِنث فيه، ألا تمتدَّ يد أحدكم عليَّ بلكمةٍ غادرة بيدٍ ثقيلة، محابيًا إيروس، لئلا يُخضِعني بالقوة لهذا الزميل.»
ما إن قال هذا، حتى أقسَموا جميعًا ألا يضربوه، كما أمرهم تمامًا، ولكن بعد أن حلفوا اليمين وانتهَوا من القسم، قام تيليماخوس القوي العتيد، وتحدَّث في وسطهم ثانية، فقال:
«أيها الغريب، إذا كان قلبك وروحك الشامخة يأمرانك بضرب هذا الرجل، إذن فلا تخشَ أي رجلٍ من الآخيين؛ لأن من يضربك عليه أن يقاتل من هو أكثرُ منك. إنني مُضيفُك، والأميران أنتينوس ويوروماخوس، يوافقان على هذا، وكلٌّ منهما رجلٌ حصيف.»
قال هذا، فامتدح الجميع قوله. وعندئذٍ ربط أوديسيوس أسمالَه حول عَورته مظهرًا فخذَيه، جميلَين وعظيمَين، وبانت كتفاه العريضتان، وكذا صدره وساعداه القويان. واقتربَت أثينا فجعلَت أعضاء راعي الشعب أعظم مما كانت. وعندئذٍ عجب سائر المغازلين غاية العجب، فقال أحدهم وهو ينظر إلى جاره:
«سرعان ما سيجني إيروس، عديم التبصُّر، على نفسه؛ فمثل هذا الفخذ يُظهِره ذلك الرجل العجوز من تحت أسماله.»
أنتينوس يُعيِّر الشحاذ إيروس ويُهدِّده
هكذا كانوا يتكلَّمون، وذُعر عقل إيروس بصورةٍ فظيعة؛ ومع ذلك فقد منطقه الخدم، وساقُوه بالقوة وهو مملوءٌ كله بالهلع، وارتعَد فرائصَ وأعضاء. وعندئذٍ عيَّره أنتينوس، فخاطبه، بقوله:
أوديسيوس يقهر إيروس ويُلقي به خارج القصر
هكذا قال، وارتعدَت أطراف الآخر فَرقًا، وساقُوه إلى الحلبة فرفع كلٌّ من الرجلَين يده. وعندئذٍ حار أوديسيوس في عقله، هل يضربه حتى تهجُره الحياة وهو يسقط هناك، أو يكيل له ضربةً خفيفة فيطرحه أرضًا. وبينما هو متحير، رأى أن من الأفضل أن يُنزِل به ضربةً خفيفة فيُلقيه على الأرض، كيلا يجذب أفكار الآخيين إليه. وعندئذٍ، لما رفعا أيديهما، هوى إيروس بقبضته على كتفه اليمنى، أما أوديسيوس فضربه على عنقه أسفل أذنه وحطَّم العظام. وفي الحال تدفَّق الدم القاني من فيه، وسقَط يتخبَّط في التراب ويئن، واصطكَّت أسنانه، وركَل الأرض بقدمَيه. وعندئذٍ رفع السادة المغازلون أيديهم، وكادوا يموتون من كثرة الضحك. بعد ذلك أمسكه أوديسيوس من قدمه، وجرَّه بعيدًا خارج الباب إلى أن وصل به إلى الفِناء وبوابات الرواق، ثم وضَعه هناك وأسندَه إلى حائط الفِناء، وألقى عصاه في يده وتحدَّث إليه وخاطَبه بكلماتٍ حماسية، قائلًا:
«ارقُد هناك الآن، وخوِّف الخنازير والكلاب، ولا تكن سيد الأغراب والشحَّاذين، وأنت مسكين إلى هذا الحد، لئلا تلتقي بمن هو أسوأ فتجني شرًّا من هذا أيضًا.»
المغازلون يشكرون أوديسيوس ويُحيُّونه
قال هذا وألقى جرابه الرث المملوء بالثقوب، حول كتفَيه، وعلَّقه بحبلٍ مجدول. وبعد ذلك رجع إلى عتبة الباب فجلس، ودخل المغازلون، يضحكون مبتهجين، وحيَّوه، بقولهم:
«نتمنى، أيها الغريب، أن يمنحك زوس، وكذا سائر الآلهة الخالدة ما تصبو إليه وتُفضِّله على كل شيء، وأغلى أمنيةٍ يتطلع إليها قلبك؛ حيث إنكَ كفيتَ البلاد استجداءَ ذلك الرجل الذي لا يشبع؛ لأننا سنحمله بسرعة بعد ذلك إلى مملكة الملك إخيتوس، مُشوِّه جميع البشر.»
«مرحبًا، يا سيدي الغريب، أتمنى أن يكون الحظ السعيد حليفَكَ في الأيام المقبلة، رغم أنك الآن نهبٌ لأحزانٍ عديدة.»
أوديسيوس يُحذِّر أمفينوموس من زوج بينيلوبي
عندئذٍ أجابه أوديسيوس الكثير الحيل، بقوله: «أي أمفينوموس، حقًّا إنك لتبدو لي رجلًا حازمًا، وكذلك أيضًا، كان أبوك؛ فكثيرًا ما سمعتُ عن صيته الحسن؛ إذ كان نيسوس القاطن بدوليخيوم رجلًا مقدامًا ذا يسار. ويقولون، إنكَ انحدرتَ منه، ويبدو أنك رجلٌ رقيق الألفاظ؛ وعلى ذلك سأُخبرك بأمر، يجب أن تُعيره اهتمامك وتُصغي إليه. لا شيء تُغذِّيه الأرض أضعف من الإنسان، دون سائر المخلوقات التي تتنفَّس وتتحرك فوق الأرض؛ لأنه يعتقد أنه لن يعاني الشر قط في أيامه القادمة، طالما تهَبُه الآلهة الرخاء وركبتاه سريعتان. حتى إذا ما عاد الخالدون وكتبوا له الحزن، احتمله أيضًا بامتعاضٍ بالغ وهو راسخ القلب؛ لأن روح البشر وهم فوق الأرض هي تمامًا مثلها في اليوم الذي يجلبه عليها أبو الآلهة والبشر؛ فإنني، أيضًا، كنتُ في ذات يوم، ممن كُتب لهم الرخاء وسط الناس، غير أنني استرسلتُ كثيرًا في أعمال الشهوة، معتمدًا على قُوَّتي وعنفي، وعلى أبي وإخوتي؛ ومِن ثَمَّ لا تدع أي رجلٍ مهما كان يخرج على القانون في أي وقت، بل يجب أن يرعى صامتًا أي نعمةٍ تهبه الآلهة إياها. هذا حق؛ فإنني أرى المغازلين يخلعون عذارهم للشهوة، مُبذِّرين الثروة ومحتقرين زوجَ ذلك الرجل الذي، دعني أخبرك، بأنه لن يظل بعيدًا عن أصدقائه ووطنه مدةً طويلة، كلا؛ فإنه قريب جدًّا، ولكني أتمنى أن يقودك أحد الآلهة بعيدًا عن هنا إلى منزلك. وليتك لا تلتقي به وهو قادم إلى بيته وإلى وطنه العزيز؛ لأنه، حسب اعتقادي، لن ينفصل ذلك الرجل عن المغازلين بدون سفك دماء إذا ما عاد يومًا تحت سقف داره.»
هكذا تكلَّم، ثم سكب سكيبة، وشرب من الخمر العسلية المذاق، وأعاد الكأس إلى يدَي قائد الشعب. بيد أن أمفينوموس ذهب خلال الساحة بقلبٍ مثقل، مطأطئًا رأسه؛ إذ تنبأَت روحه بالشر، ولكنه بالرغم من هذا لم يهرب من مصيره، ولكنه هو، أيضًا، قيَّدته أثينا بالأغلال كي يُقتل في الحال على يدَي تليماخوس وبرمحه؛ ولذلك جلس من جديدٍ فوق الكرسي الذي كان قد نهض من فوقه.
بينيلوبي تُبدي رغبتها في الظهور أمام المغازلين
بعد ذلك حثَّت الربة، أثينا المتألقة العينَين، قلب ابنة إيكاريوس، بينيلوبي الحكيمة، أن تُظهِر نفسها للمغازلين، كي تدفع قلوبهم إلى الخفَقان وتكسب تمجيدًا من زوجها وابنها أكثر من ذي قبلُ، فضحكت ضحكةً لا معنى لها، وتكلَّمتْ، مخاطبة المُربية بقولها:
«إن قلبي ليتلهَّف، يا يورونومي، ولو أنه لم يتلهَّف قَط من قبلُ، إلى إظهار نفسي للمغازلين، بالرغم من شدَّة مقتي لهم. وكذلك أريدُ أن أقول كلمةً لابني ذات نفعٍ له، أعني، أنه لا يجب عليه أن يختلط بالمغازلين المتعجرفين، الذين يُكلِّمونه برقيق الألفاظ بينما يضمرون له الشر فيما بعدُ.»
فقالت لها المربية، يورونومي: «نعم، الحق معك، يا طفلتي؛ فإني أرى، أن كل ما قُلتِه صحيح. اذهبي، إذن، وقولي كلمتَك لابنكِ ولا تُخفيها؛ ولكن اغسلي جسدكِ أولًا وادهني وجهك بالزيت، ولا تذهبي كما أنت بوجنتَين مبلَّلتَين بالدموع. اذهبي؛ فلا يليق أن تسترسلي في الحزن دون انقطاع، فتأملي، الآن، ها هو ذا ابنُكِ قد بلغ مبالغ الرجال، وكان جل صلاتك للخالدين أن تَريْه رجلًا قد طرَّت لحيتُه.»
هكذا تكلَّمتْ، وانطلقَت السيدة العجوز عَبْر الحُجرة لتحمل النبأ إلى المرأتَين وتأمرهما بالمجيء.
أثينا تُضفي على بينيلوبي مزيدًا من الفتنة والجمال
«ويحي، لقد اجتاحني النوم الرقيق في تعاستي الشاملة. كم أتمنى الآن أن تُعطيني أرتيميس الطاهرة ميتةً رقيقة بتلك الصورة، حتى لا أُبدِّد حياتي بعد الآن والحزن يملأ قلبي، مشوقةً إلى براعة زوجي العزيز المزدوجة؛ إذ كان مُبرِّزًا وسط الآخيين.»
بينيلوبي تلوم تيليماخوس على ما حدث للشحَّاذ الغريب
قالت هذا وهبطَت من المقصورة العليا المتلألئة، ولم تكن وحدها؛ إذ كانت تتبعها وصيفتان، فلما وصلَت السيدة الفاتنة الآن إلى المغازلين وقفَت بجوار قائم باب الساحة المكينة البناء، وقد وضعَت النصيف المتألق أمام وجهها، ووقفت إلى كل جانبٍ من جانبَيها وصيفةٌ مخلصة، فما إن أبصرها المغازلون حتى ارتخت رُكبُهم وابتهجَت قلوبهم بالحب، وراحوا جميعًا يتوسَّلون إليها، وكل واحدٍ يتوق إلى البقاء إلى جوارها، ولكنها تحدَّثَت إلى تيليماخوس، ابنها العزيز، قائلة:
«أي تيليماخوس، لم يعُد عقلك وأفكارك رزينة كما كانت من قبلُ؛ فعندما كنت مجرد طفلٍ كنت تُدبِّر في عقلك أفكارًا أكثر دهاء. أما الآن وقد كَبرتَ وبلغتَ مبالغ الرجال، وإن من ينظر إلى قوامك وجمالك ليقول إنك ابن رجلٍ ثري؛ حيث إنه هو نفسه غريبٌ أتى من بلدٍ قصي، فإن عقلك وأفكارك لم تعُد صائبةً كما كانت من قبل. ماذا فعلتَ في هذه الساحة، حتى تسمح بإساءة معاملةِ هذا الغريب! وماذا الآن، لو تعرَّض الغريب، وهو جالسٌ هكذا في منزلنا، لبعض الأذى من جرَّاء المعاملة المُحزنة؟ إذن، لوقع عليك اللوم وجلَّلكَ العار بين الناس.»
فأجابها تيليماخوس الحكيم، قائلًا: «أماه، بخصوص ذلك الأمر لا أُسيء فهم سبب غضبك الجم. ومع ذلك فإنني أعرف في قلبي وأُدرك كل شيء، الخير والشر، في حين أنني لم أكن من قبلُ إلا محض طفل. بيد أنني لست قادرًا على تدبير كل شيء بحكمة؛ لأن هؤلاء الرجال هنا يُثبِّطون عزيمتي، ويلازمونني، الواحد من هذا الجانب والآخر من الجانب الآخر، بنيةٍ سيئة، ولا أجد لي مساعدًا. ومع ذلك، فإن في استطاعتي أن أُخبركِ بأن هذه المعركة التي نَشِبَت بين الغريب وإيروس لم تغب عن بال المغازلين، وقد أثبتَ الغريب تفوُّقه عليه. أتمنى؛ يا أبي زوس، ويا أثينا، ويا أبولُّو، أن يهدأ المغازلون كما فعلوا الآن في ساحاتنا، يُطِلُّون برءوسهم، البعض في الفِناء والبعض الآخر في البهو، وأن ترتخي أطراف كل رجل، تمامًا كما يجلس الآن إيروس هناك بجانب باب الفِناء، مطأطئًا رأسه أشبه برجلٍ سِكِّير، ولا يستطيع أن ينتصب فوق قدمَيه، أو أن يذهب إلى أي مكان يرغب في الذهاب إليه؛ إذ ارتخت أطرافُه.»
بينيلوبي تستعيد ذكرى كلمات أوديسيوس يوم رحيله من الوطن
هكذا كان يتحدَّث كلٌّ منهما إلى الآخر، ولكن يوروماخوس خاطب بينيلوبي، بقوله:
عندئذٍ أجابته بينيلوبي الحكيمة، قائلة: «أيا يوروماخوس، لقد حطَّم الخالدون روعتي كلها، سواء في الجمال أو في القد، في اليوم الذي رحل فيه الأرجوسيون إلى إليوس، وذهب معهم زوجي أوديسيوس؛ فلو أتى وأَشرفَ على حياتي هذه فقط، لصارت شُهرتي أعظم وأجمل. ولكنني الآن في حزن، وكثيرةٌ هي الهموم التي حطَّها على أحد الآلهة. حقًّا، إنه عندما رحل وغادر وطنه، أمسكَ بيدي اليمنى من الرسغ، وقال:
«يا زوجتي، لستُ أعتقد أن الآخيين المُدرَّعين تمامًا سيعودون جميعًا من طروادة سالمين آمنين؛ لأن الطرواديين، كما يقول الناس، قومُ حرب، ماهرون في قذف الرمح، وجذب القوس، وقيادة الجياد السريعة، التي تُقرِّر بسرعةٍ نتيجة صراع الحرب المتعادلة؛ وعلى ذلك لستُ أدري ما إذا كان الرب سيُعيدني، أم سوف أُعزل هناك في أرض طروادة. ومِن ثَمَّ أشرفي على كل شيء هنا. وتذكَّري أبي وأمي في الساحات بنفس الطريقة التي تَرعَينَهما بها الآن، أو ربما أكثر، في أثناء غيابي، حتى إذا ما رأيتِ ابني رجلًا قد طَرَّت لحيتُه، تزوَّجي من تشائين واتركي منزلك.»
هكذا تكلَّم زوجي، والآن قد حدَث كل ذلك. سيأتي الليل عندما يكون الزواج المَقيتُ من حظي أنا الملعونة، التي سلبها زوس سعادتها. وحل الحزن المرير في داخلي في قلبي وروحي؛ إذ إنكم تسلكون طريقًا لم يسلكه أي واحدٍ من المغازلين قبلكم، أولئك الذين يتوقون إلى مغازلة سيدةٍ كريمة، وابنة رجلٍ ثري، فيتنافسون فيما بينهم من أجلها، وهؤلاء يُحضِرون من تلقاء أنفسهم ماشيةً وأغنامًا كثيرة، ليُولِم عليها أصدقاء العروس، ويُقدِّمون إليها هدايا مجيدة، ولكنهم لا يأكلون أموال شخصٍ آخر فيما بينهم بالباطل.»
هكذا تكلَّمتْ، وسُر أوديسيوس العظيم البالغ التحمُّل؛ لأنها سحبَت منهم هدايا، وخدَعَت أرواحهم بمعسول الألفاظ، بينما كانت تُضمِر في نفسها أمورًا أخرى.
المغازلون يُحضِرون الهدايا لبينيلوبي
ثم تحدَّث إليها أنتينوس بن يوبايثيس، ثانية، فقال:
«يا ابنة إيكاريوس، يا بينيلوبي الحكيمة، أما الهدايا، فلو أزمع أي رجلٍ من الآخيين أن يُحضِرها إلى هنا، فيجب أن تقبليها؛ لأنه لا يليق أن ترفُضي هدية. أما نحن فلن نذهب إلى بلادنا ولا إلى مكانٍ آخر، إلا بعد أن تتزوَّجي من الرجل الذي تعتبرينه خير الآخيين.»
وأما المغازلون فشَرعُوا في الرقص والغناء والمرح، وطَرِبوا، وانتظروا مجيء المساء. وبينما هم في مرحهم خيَّم فوقهم المساء الدامس. وفي الحال أوقَدوا ثلاثة مواقد في الساحة لتضيء لهم، ووضَعوا حولها حطبًا جافًّا، مضت عليه مدةٌ طويلة منذ أن قُطع وتصلَّب، وشُقَّ بالفئوس حديثًا، ووُضِعَت المشاعل في مواضع الشقوق؛ وأخذَت وصيفات أوديسيوس، الثابت القلب، يتناوبن إشعال النار. بعد ذلك تكلم أوديسيوس، المنحدر من زوس والكثير الحيل، من تلقاء نفسه وسط العذارى، فقال:
«يا خادمات أوديسيوس، الذي رحل منذ زمانٍ بعيد، انصرفن إلى الحجرات حيث تمكُث مليكتكُن المبجَّلة، واغزِلن القطن بجوارها، وأدخلن السرور على قلبها، وأنتن جالسات في مقصورتها، أو مَشِّطن الصوف بأيديكن، وأنا أتولَّى إشعال النار لجميع هؤلاء الرجال؛ لأنهم إذا أرادوا الانتظار حتى مطلع الفجر الجميل العرش، فلن يُباروني بأية حال من الأحوال. إني امرؤٌ أستطيع أن أتحمَّل كثيرًا.»
ميلانثو الخادمة تسُب الشحَّاذ أوديسيوس
«أيها الغريب الحقير، ما أنت سوى رجلٍ مأفون، لا تريد أن تذهب إلى حدَّادٍ لتبيت عنده، أو إلى مسكنٍ عام لتنام فيه، بل تتسكَّع هنا باستمرار، ولا تخجل من وجودك بين حشد السادة العديدين، غير هيَّاب في قلبكَ ولا خائف. حقًّا، إن الخمر قد سيطَرتْ على ذهنِك، وإلا فإن عقلكَ هكذا دائمًا، حتى إنك تَهذي بهذا الهُراء. أَخرجتَ عن طوركَ لأنك غلَبتَ ذلك المتسول إيروس؟ حذارِ، خشية أن يأتيك الآن من هو أفضل من إيروس فيضربك بقبضته الثقيلة على أم رأسك، فيُضرِّجكَ بالدماء، ويطردكَ من المنزل.»
عندئذٍ نظر إليها أوديسيوس بغضبٍ مُقطبًا حاجبَيه، وقال لها «سرعان ما سأذهب إلى هناك، أيتها العديمة الحياء، وأُخبر تيليماخوس؛ حيث إنكِ تتكلَّمين بهذه الوقاحة، كي يُمزِّق في الحال جسدكِ إربًا إربًا.»
ما إن قال هذا حتى تفرَّقَت النساء، وهربن خلال البهو، وارتخت أطراف كل واحدةٍ منهن تحتها ذعرًا؛ لأنهن اعتقَدن أنه جادٌّ في قوله. أما أوديسيوس فوقف بجوار المواقد المشتعلة ليُمِدَّهم بالضوء، ويُلقي نظرةً على جميع الرجال، ولكن قلبه في داخله كان يفكِّر في أمورٍ أخرى؛ أمور لم تكن لتذهب دون إتمامٍ أو تنفيذ.
يوروماخوس يسخر من الشحَّاذ أوديسيوس
ولكن أثينا ما كانت لتسمح للمغازلين بالإحجام عن الاعتداء المرير بحالٍ ما، كي يحزَّ الألمُ في قلب أوديسيوس بن لايرتيس، إلى ما هو أعمق؛ ومِن ثَمَّ بدأ يوروماخوس بن بولوبوس، يتكلَّم ساخرًا من أوديسيوس، ليُضحِك زملاءه، فقال:
ما إن أدلى بهذه العبارة حتى استدعى أوديسيوس، سالبَ المدن، وقال له: «أيها الغريب، أتُشاوِر عقلك في أن تشتغل مقابل أجر، لو ألحقتُك بخدمتي في حقلٍ بعيد — إن أجرك سيكون حتمًا لك — جمعَ الأحجار للحوائط، وغرسَ الأشجار الباسقة؟ ولسوف أُمِدُّك هناك بالطعام طوال العام كله، وأكسوك لباسًا ونعالًا لقدمَيك، ولكن ما دمت قد تعلَّمتَ أعمال الشر فقط، فلن تهتم بأن تشغل نفسك بالعمل، بل بالحريِّ قد عوَّلتَ على التسكُّع خلال البلدان، كي تستطيع الحصول على ما يسُد نهَم بطنك الشَّرِه.»
أوديسيوس يتهم يوروماخوس بالوقاحة والضعف
عندئذٍ أجابه أوديسيوس العديد الحيل، قائلًا: «أي يوروماخوس، أتمنى لو تباريتُ معك في العمل في فصل الربيع، عندما يطول النهار، وقتَ حصد الأعشاب، فأُمسك أنا في يدي بمنجلٍ معقوف وأنت بمثله، وتكون الأعشاب كثيرةً حتى يمكننا أن نختبر مقدرتَيْنا على العمل، صائمين إلى ساعةٍ متأخرة من المساء. أو أتمنى أيضًا أن يكون هناك ثَوْران لنَقودَهما — خير ما هنالك من الثيران، ضخمان قد لفحَتْهما الشمس، وقد عُلِفَ كلاهما جيدًا بالأعشاب، من نفس السن ونفس القوة ليحملا النِّير، لا يتعبان من بذل الجهد — وأن يكون هناك حقلٌ مساحته أربعة أفدنة، ونعمل على شق التربة أمام المحراث؛ عندئذٍ كنتَ ترى، ما إذا كنتُ أستطيع أن أشُق أخدودًا مستقيمًا إلى نهاية الحقل أو لا أستطيع. أو أتمنى من جديدٍ أن ابن كرونوس يجلب علينا الحرب من حيث يستطيع في يومنا هذا، ويكون لي ترسٌ ورمحان وخوذةٌ كلها من البرونز، تُناسب تمامًا صِدغَي، إذن لرأيتَني بين محاربي المقدمة، وما كنتَ، لتُعيِّرني ببطني هذا. أما أنت فوقحٌ غاية الوقاحة، وقلبك قاسٍ، ولا شك في أنك تعتقد في قرارة نفسك أنك امرؤٌ على شيءٍ من العظمة والقوة؛ لأنك تختلط بحفنةٍ من الرجال الضعفاء. ولو رجع أوديسيوس فقَط، وعاد إلى وطنه، لأَثبتَت هذه الأبوابُ في الحال، رغم أنها مفتوحة على مصاريعها، أنها ضيقةٌ جدًّا أمامك لتهرب خارج المدخل.»
يوروماخوس يقذف أوديسيوس بمقعدٍ صغير فيخطئه
«أيها النذل، لأُصيبنَّك بالشر في الحال، طالما أنت تُثرثر بهذه الطريقة، غير خائفٍ في قلبك. لا شك أن الخمر قد لَعبَت بلُبِّك، أو أن عقلك هكذا دائمًا، تَهذي بتلك الخرافات. هل خرجتَ عن طَورِكَ وركبتَ رأسكَ لأنك غلبتَ ذلك المتسول إيروس؟»
قال هذا وأمسك مقعد قدمَين وقذَفه نحوه، ولكن أوديسيوس جلس على الأرض عند ركبتَي أمفينوموس الآتي من دوليخيوم، خوفًا من يوروماخوس، فأصاب المقعد ساقيًا في يده اليمنى، فسقط منه إبريق الخمر على الأرض مُحدثًا رنينًا. وتأوَّه الساقي، وسقط إلى الخلف فوق الثرى؛ عندئذٍ سادت الضوضاء بين المغازلين في شتى أنحاء الساحة الظليلة، وهكذا كان أحدهم ينظر إلى جاره، ويقول له:
«ليت هذا الغريب هلك في مكانٍ آخر أثناء تجولاته أو أنه لم يأتِ إلى هنا قَط، إذن لما جلب علينا كل هذه الضوضاء. أما الآن فنحن نتشاجر من أجل أبناء السبيل، ولن تكون هناك بهجةٌ لوليمتنا الفاخرة، ما دامت تسودُ أمورٌ أسوأ.»
تيليماخوس يناشد المغازلين الانصراف إلى بيوتهم للراحة
عند ذلك تحدَّث تيليماخوس القوي العتيد وسطهم، فقال: «أيها السادة الغريبو الأطوار، إنكم لمعتوهون، ولا تُنكِرون بعد الآن أنكم قد أكلتُم وشربتُم، لا شك أن أحد الآلهة يُثيركم إلى هذا؛ فما دمتم قد أولمتُم جيدًا، فاذهبوا إلى بيوتِكُم واستريحوا، إذا ما طاب لأرواحكم أن تستريح. ومع ذلك فإنني لا أطرد أحدًا إلى الخارج.»
«أصدقائي، لا يجدُر بأي رجلٍ إذا ما أراد أن يُجيب بحكمةٍ على ما قيل، أن يتهوَّر ويردَّ بعباراتٍ عدائية. لا تسُبُّوا هذا الغريب بعد الآن، ولا أيَّ خادمٍ ممن في بيت أوديسيوس المقدس. كلا، هيا، دعوا الساقي يصُب نُقطًا كسكيبةٍ في الكئوس، حتى نتمكَّن من صب السكيبات، ثم ننصرف إلى بيوتنا لنأخذ راحتنا. أما هذا الغريب، فلنترُكْه في ساحات أوديسيوس ليهتَم بأموره تيليماخوس؛ لأنه قد جاء إلى داره.»