نفوذ الإلياذة والأوديسة
يبدأ الأدب اليوناني بالإلياذة والأوديسة للشاعر هوميروس الذي
كان له تأثيرٌ بالغ في التربية والتعليم عند اليونانيين جميعًا،
والذي استمر أثَره حتى العصر البيزنطي، فكان الأغارقة المثقَّفون
يحفظون أجزاءً كثيرة من الإلياذة والأوديسة، ثم انتقل الميل إلى
الرومان ومنهم إلى بلاد الغرب في أوروبا. وبذلك لا تزال المسألة
الهومرية باقيةً على حالها حتى الوقت الحاضر، ونعني بها أصل هذه
القصائد الهومرية وتكوينها بحيث تُعَد من أعقد المسائل التي يهتم
المثقَّفون بحلها والإحاطة بها، والصوت الذي انبعَث ليؤدِّي رسالةَ
حضارة البحر الأبيض المتوسط هو صوت الشاعر هوميروس؛ لأن الشعوب
التي تسكن وادي النيل وما بين النهرَين لم تكن شعوبًا بَحْرية، أما
كريت فلدينا عنها نصوصٌ كثيرة لم تُحل طلاسمها بعدُ، وكذلك لم
يُترك لنا أي أثرٍ يدل على رحلات الإغريق التي قاموا بها في البحر
الأبيض أو في خارجه، إلا إذا اعتقدنا أنه كان للأوديسة أساسٌ يرتكز
على قصةٍ روت وقائعَ رحلةٍ فينيقية، كما يفترض هذا الفرضَ العالمُ
الفرنسي فكتور
بيرار Victor Berard. بيد أن هذا الفرض بعيد الاحتمال، وحتى في هذه
الحالة تكون أخبار هذه الرحلة قد وصلَتْنا عن الشعر القصصي عند
الأغارقة.
تُعتبَر القصائد الهومرية قصائدَ قوميةً لها الصبغة القومية عند
اليونان؛ القدماء منهم والمحدَثون، ولكنها لا تذكُر لفظ «الإغريق»
ولا نعثُر على كلمةٍ تدل عليها، وبصفةٍ خاصة لا نجد كلمة
Hellas التي تسمَّى بها اليونانُ
إلا في القصائد التي يعتبرها النقاد المحدَثون مضافةً إلى الإلياذة
والأوديسة. أما هوميروس فلا يتحدَّث إلا عن أجداد اليونان وأسلافهم
وهم الآخيون، فهي بذلك تغوص بأصولها في الماضي البعيد؛ لذلك يجب أن
ننظر إليها كأنها بداية للأدب اليوناني، كما يجب اعتبارها نهايةً
لتقاليدَ مجيدة وخاتمةً لمجهودٍ عظيم يرمي إلى التغيير والتحوير
والتنظيم.
أسلوب الإلياذة والأوديسة
واللغة هي التي تُوقِفنا على ما تتميَّز به هذه القصائد. إن أهم
صفةٍ لهذه القصائد هي كونها على جانبٍ كبير من الروعة في الفن
والجمال والأسلوب؛ فهي ليست قصائدَ بدائية أو أولية وإنما اللغة
فيها لغة الأدباء والمثقَّفين أو من أخذوا بجانبٍ كبير من الأدب
والثقافة، هذا فضلًا عن أنه لا يمكن لأحد أن يكتب بهذه اللغة إلا
العلماء أو الأدباء أو الشعراء؛ فهي لغة الخاصة لا لغة العامة.
إنها مزيجٌ من لهجاتٍ مختلفة تغلب عليها اللهجة الأيونية التي
ترتكز على أساس من اللهجة الأيولية. كما أن الوزن فيها هو المسمَّى
بالوزن
السداسي Hexameter Dactylic، وهو الذي يحتوي فيه بيت الشعر على ستة
أقدامٍ بكل قدمٍ حركةٌ طويلة وحركتان قصيرتان. وليس هذا الوزن من
مستلزمات اللغة اليونانية كما برهن على ذلك العلامة اللغوي الفرنسي
المشهور ميلي Meillee في كتابه عن
تاريخ اللغة اليونانية. وليس هذا الوزن أيضًا من مستلزمات اللغة
اللاتينية؛ فقد استعاره الرومان أنفسهم من اليونان، وذلك في القرن
الثالث قبل الميلاد. ومن المحتمل أن يكون اليونان أنفسهم قد أخذوه
عن لغةٍ تُسمَّى اللغة الإيجية التي كانت سائدة في بحر
إيجة.
لهذا السبب احتفظَت اللهجة الأيونية التي استعملها هوميروس في
قصائده بالحرف «ديجاما Y» الذي زال
من اللغة اليونانية فيما بعدُ، ولكن بقي لهذا الحرف تأثيره على
بقية بيت الشعر الذي كان يُستعمل فيه من حيث الوزن، فوجدوه مثلًا
يؤدي إلى حذف أحرفٍ أخرى أو إدغام حروفٍ أخرى غيرها.
ولقد احتفظَت هذه القصائد أيضًا بأشكالٍ عتيقة وكلماتٍ قديمة
افتقَدنا معناها الأصلي، وكذلك احتفظَت بهذا الأسلوب الذي يغلب
عليه ميلُه إلى استعمال الألفاظ الفخمة والرنانة. وكان هناك ميل في
القرن التاسع عشر في أوروبا؛ أي في الوقت الذي ساد فيه المذهب
الرومانتيكي في الأدب الأوروبي إلى إيجاد نوعٍ من المقارنة بين هذه
القصائد وبين القصائد الشعبية الجرمانية أو الاسكندنافية. وقد ظهر
هذا الرأي على الأخص عند علماء اللغة من الألمان. وتبع الألمانَ
بعضُ العلماء من الفرنسيين، وعلى الأخص العالم الفرنسي فكتور
بيرار. ونُلاحظ نفس الملاحظة عندما نُقبل على دراسة الوقائع
والحوادث التي تشتمل عليها هذه القصائد وعلى الأخص الإلياذة
كالأدوات التي يستعملها الإنسان أو المساكن التي يقطن فيها،
وبالجملة مظاهر الحياة أو الحياة نفسها. وإذا كان علماء اليونان
الذين قاموا بحفائر في موكيناي وكورينث وطروادة قد كشفوا عن آثارٍ
دلَّت على أنه كانت هناك حضارة ميسينية Missenian Civilization قبل
الغزوات التي قامت بها القبائل الدورية Dorians؛ من أجل ذلك مال الناسُ في ذلك الوقت؛ أي في
الجزء الأخير من القرن التاسع عشر، وهو الوقت الذي عُملَت فيه هذه
الحفائر، إلى الأخذ بالرأي القائل بأن هذه القصائد احتوت على وصفٍ
شامل لمظاهر تلك الحضارة الميسينية الباهرة. ويبدو هذا الرأي
واضحًا جدًّا فيما كتبه العالمان الألمانيان هلبنج Helbing وولف Wolf. وفي كُتب هذَين المؤلِّفَين ملاحظاتٌ هامة
دقيقة. أما في الوقت الحاضر فقد قل أتباعُ هذا الرأي، وأصبح
المؤرخون لا يميلون إليه كليةً، كما يدُل على ذلك ما كتبه المؤرخ
الألماني شميدت. وبالرغم من هذا الرأي الذي ينكر كل أثرٍ من آثار
الحضارة الميسينية في قصائد هوميروس، فما زال هناك نفَرٌ من
المؤرخين يقول بأنه في الإمكان العثور على آثارٍ كثيرة تدُل على
هذه الحضارة في قصائد هوميروس. وهي تلك الحضارة التي كانت مزدهرةً
قبلها بوقتٍ طويل أو قصير.
أما المؤرخ الألماني إدوارد
ماير
Edward Meyer فيقول في كتابه «عن تاريخ العالم
القديم»
Histoire de l Antiquié إن هوميروس حينما يتكلَّم في قصائده عن مدينة
طيبة
Thebes إنما يعني بها تلك
المدينة التي كانت مزدهرة في عهد الأُسرتَين التاسعة عشرة
والعشرين، ولا يقصد بها في رأيه تلك المدينة التي كانت في عهد
الملك شيشونج
Scheshong وهي التي
كانت تُعاصِر هوميروس، والتي قال عنها هوميروس في الإلياذة في
الأنشودة التاسعة في الأبيات ٣٨١-٣٨٢ ما يأتي:
طيبة ذات الأبواب المائة التي يهجم من كل بابٍ منها مائتا
مُحاربٍ بالجياد والعربات.
وهذا الوصف في رأي ماير وصفٌ لمدينة طيبة في عهد الأُسْرتَين
التاسعة عشرة والعشرين، وهي التي عَرفَها أحد اليونان وهم الآخيون.
وكان بين هؤلاء الآخيين وبين ملوك هاتَين الأُسرتَين صلاتٌ
وعلاقاتٌ وثيقة جدًّا، كما دلَّت على ذلك الهدايا المختلفة التي
تُبودِلَت بين ملوك مصر وملوك الميسينيين أو الآخيين. وحقيقة الأمر
أن أحدًا لم يذكُر شيئًا عن حفر السور العظيم المحيط بمدينة طيبة
الذي به مائة باب؛ لذلك فإن الأبيات التي أوردَها هوميروس عن طيبة
لا تدل على شيء، ولا تدُل على أنه يقصد بها طيبة في الأُسرتَين
التاسعة عشرة والعشرين أو في عهد شيشونج، وإنما هي من نوع أدب
اليونان، فيُقال طيبة ذات الأبواب المائة، دون تحديدٍ على وجه
الدقة.