دي تريفيل
هو رجل غسقوني الْمَحْتَد، كانت بَدَاءَة أمره في الدولة كبَداءة دارتانيان، فرُقِّيَ بشجاعته وحِذْقِه وتبَصُّره بالعواقب، درجةً رفيعةً في الدولة بين مشاغب ذلك القرن وفتنه حتى صار صديقَ الملك، ونال أعظمَ وسامات الشرف لصدْق خدمتِه وعظم أمانتِه؛ فكان يُلقي إليه الملك مقاليدَ أموره ويَكِل إليه عظائم مَهَمَّاته، فكان مقرَّبًا لديه محبَّبًا إليه؛ لعظم ثقته به واسترساله له؛ حتى جعله قائد حرسه.
وكان الكردينال ريشيليه في ذلك العهد مالكَ زِمَام الدولة، يُصَرِّف أمورها كيف شاء، بحيث كان هو الملكَ المطلَقَ صاحبَ الكلمة النافذة، فاستخدم لنفسه حرسًا مثل حرس الملك يرسلهم في مَهَمَّاته ويَتَّكِل عليهم في أموره، وينافس بهم الملك في رجاله حتى كثرت بين الفريقين الضغائنُ واسْتَمْكَنَ الحقدُ وتواترت وقائعُهم في الْبِرَاز، وطالت المنافسة بين الملك والكردينال في انتصارهم وشجاعتهم.
وكان حراس الملك وقائدهم دي تريفيل يطوفون المدينة شامخةً أُنوفُهم مفتولةً سبالهم، يَجُرُّون سيوفهم عزَّةً وازْدِهاءً، حتى إذا قابلوا حراس الكردينال سَخِرُوا بهم وضَحِكُوا منهم حتى يبلُغَ بهم الأمر أحيانًا إلى القتل وسفك الدماء، إلا أنهم مع ذلك كانوا شديدي الْغَيْرَة على قائدهم سريعي الامتثال له يُفادونه بأرواحهم ويبذلون في خدمته دماءهم، حتى أصبح منهم في حِصْن حَصِين ومقام رفيع، ترهبه رجالُ فرنسا قاطبةً. وكانت دارُه في شارع بُرْج الْحَمَام دارًا واسعة الجوانب رَحْبَة الْعِرَاص، يجتمع فيها كلَّ يوم أكثرُ من ستين حَرَسِيًّا يتبارزون بالسيوف ويتدرَّبون على القتال بينا يكون قائدهم في مجلسه يسمع للناس ويحل المشاكل، بحيث كان مضطلعًا بأمور المملكة بما كفى معه الملك مئونة الأحكام.
فلما وصل دارتانيان إلى تلك الدار رأى الناس مزدحمة والحراس في ساحة مجتمعين يبارز بعضهم بعضًا، فاستأذن وأقام ينتظر الإذن ويتفرَّج على المتبارزين ويسمع أحاديثهم ويحادث من كان إلى جانبه منهم حتى جاءه الحاجب بالإذن، فدخل، فتلقَّاه دي تريفيل بوجه باشٍّ وأُنْسٍ زائد، ثمَّ أشار إليه بالجلوس فجلس، ثمَّ دعا بصوتٍ عالٍ أتوس وبرثوس وأراميس، فدخل عليه رجلانِ طويلا القامة حَسَنا اللباس، عليهما عَلائِمُ الشجاعة، فوقَفا بين يديه فجَعَلَ يُصَوِّبُ نَظَرَهُ فيهما ويُصَعِّدُهُ، وقد عَبَّسَ وجهه وقَطَّبَ حاجبيه، ثمَّ قال: أتعلمان ما قال لي الملك أمس؟ قالا: لا. قال: إن الملك قد قال لي إنه يريد أن يستبدِلَكم معاشرَ الحراس برجال الكردينال، أفتعلمان لماذا؟ قالا: لا. قال: إن الكردينال قد قال إنكم فرقة الحراس تثيرون الشغب في المدينة وتُنافِرون الناسَ على عَجْزِكم وقِصَر باعِكُم، ثمَّ مالي لا أرى أتوس بينكما؟ قالا: هو مريض يا مولاي. قال: وما به؟ قالا: مُصاب بالجدري حتى خَشِينا أنْ تُشَوِّهَ وجهَه بِنُدوبِها. قال: تكذبانِ واللهِ، فما تُصيب الجدري مَنْ كان في سِنِّه، أم تَرْهَبانِ أن تقولا إنه جريح أو قَتِيل، بل هي حالٌ لا أريدها لكم ولا أريدكم لها من منازعة الناس ولَعِب السيف في الساحات. فلمَ لا تكونوا كرجال الكردينال في شدة تعَقُّلهم وتَأَنِّيهِم على غِلَظِ أكبادهم وجَفَاء مِرَّتهم، حتى إن الرجل منهم لَيُقْتَلُ في مكانِه ولا يرجع، ولسان حاله يُنشد:
أفما تخجل حراس الملك من أن تقبِضَ شرطةُ الكردينال على ستةٍ منهم؟ فبأيِّ وجه أُقابل الملكَ بعدَ ذلك إلا إذا استقَلْتُ واعتزَلْتُ مَنصبي؟ فأجاب برتوس وقد أخذ منه الغضب: خفِّض عليك يا مولاي، فقد كُنَّا ستة نُنازِل ستة، إلا أن حراس الكردينال داهَمُونا قبلَ أن تَخْرُج سُيوفنا من أغمادها فقتلوا منَّا اثنين وجرحوا أتوس حتى سقط. أما قولك بأنهم أَسَرُونا فإن ذلك لم يكن إلا على رَغْمِنا؛ إذْ قيَّدونا قَسْرًا، ولكن تخلَّصنا منهم في الطريق. أما أتوس فقد حَسِبُوه مَيْتًا فتركوه، ولكن لا بأس، فكم لنا عندَهم مِنْ مِثْل ذلك والنَّصْر دَوْلَةٌ تَدُول. فقال دي تريفيل وقد برقت أساريرُه: ما أنا وأنتم، فقد قيل ما قيل إنْ صِدْقًا وإنْ كذبًا. فقال أراميس: عفوًا يا مولاي، فلا تُشِعْ أن أتوس جريحًا، فإن ذلك مما يقطع آمالَنا لدى الملك. وفيما هو يتكلَّم دخل رجلٌ أصفرُ الوجه عليه آثارُ السُّقْم، فالتفت إليه الرجلان فإذا به أتوس، فتقدَّم إلى دي تريفيل وقال: لقد دعوتَني يا مولاي فلم أَجِدْ بُدًّا من الطاعة، فتحاملْتُ إليكَ وأنا لما بي، فعسى في الأمر خير. قال: كنت أحذِّر رفيقيك من التغرير بنفسيهما فيما لا طائل تحتَه ولا جدوَى منه على شدة حاجة الملك إلى الشُّجْعان ولا سيَّما من الحراس؛ لاعتقاده أنهم من أشد رجال الأرض بطشًا وإقدامًا، ثمَّ مدَّ يدَه إلى أتوس ليصافحَه وإذا به يَرْتَجِف حتى سقط صريعًا، فصاح دي تريفيل بالناس: عليَّ بجراح ماهر. فتبادر القوم إلى جراح، فجاءوا به، فأمر بنقل الجريح إلى غرفة أخرى فنقلوه، فقال له القائد: هل في الْجُرْح خطَر؟ قال: لا، فإن ضعفه هذا من نزيف دمه. فخرج القائد إلى دارتانيان فسأله عن اسمه، فانْتَسَبَ. فسُرَّ به القائد واعتذر إليه من نسيانه إياه، ثمَّ قال له: سَلْ حاجتك، فإن لأبيك عليَّ حقًّا يَلْزَمُنِي قَضاؤه لك. قال: قدمت من بلادي متذرِّعًا إليك بما بينَك وبينَ أبي من قديم الوداد وعَرِيق الولاء ألتمسُ مِنْك وظيفةً بين حراسك، حتى رأيت شجاعتهم فصَغُرَت عندي نفسي. قال: لا، وأصلحك اللهُ بلْ أنتَ أهلٌ لها، ولكن الملك لا يَقْبَل في حراسه إلا مَنْ كان له شهرةٌ في الحرب وبلاءٌ حسَن في القتال أو خدمةٌ صادقة في فِرْقة دون فرقة الحراس، فأنا أسعى لك بما يكون لك فيه صلاحٌ وخيرٌ من المال، فإني أراك في حاجة إلى النفقة، ولكن لا تَقْنَطْ من نفْسك، فقد أتيتُ باريز مثلك بقليل من المال، وأنا كاتبٌ لك الآنَ وَصَاةً إلى صديق لي يسعى لك في منصب عندَه فلا تنقطع عن زيارتنا. قال: لقد ذَكَّرْتَنِي يا مولاي بِوَصَاة أبي لك. قال: وأين هي؟ قال: لَقِيَني رجلٌ في الطريق فسَرَقها مني، ثمَّ قَصَّ عليه قصته، فقال له: أليس لذلك الرجل نَدْبَة في وجهه؟ قال: نعم، كنَدْبَة الْجُرْح، وهو جميل الوجه طويل القامة أسود الشعر. قال: عرفْتُه. قال: واللهِ لئن لقيته لأقيمنَّ أَخْدَعَيْهِ. قال: أوَلم يكن في انتظاره امرأة؟ قال: نعم، وقد فارقها بعد أن حادَثَها شيئًا. قال: أما سَمِعْتَ ما دار بينَهما؟ قال: بلى، أعطاها عُلْبَةً زعم أن فيها أوامر لها وأوصاها بأن لا تفتحَها إلا في لندرة. قال: وهل هي إنكليزية؟ قال: نعم، وتُدعى ميلادي، فإن كنت تعرفه يا مولاي فدُلَّنِي عليه. قال: إياكَ وإياه، فلا تتعرض له لئلا تكون:
ثمَّ أوصاه بحفظ ما جرى وأن لا يتعرَّض للقَدْح بالكردينال؛ إذ كان بينَه وبين عشيرته شيءٌ من الضغينة والحقد. قال: أصبتَ يا مولاي، فقد أوصاني أبي بأن لا أتحامَى جانبَ أحد إلا الملك والكردينال وأنت، وأنا لا أنوي الشر للكردينال ولا حِقْدَ بيني وبينَه بحمد الله. قال: أحسنت، واعلم أن بيتي لا يُقْفَل عَنْكَ متى شئت، وأنا لك عونٌ إذا مسَّك أمرٌ لا سَمَحَ الله. قال: أَبْلَغْتَ يا مولاي وتفَضَّلْتَ، وعسى أن لا تطولَ مدةُ افتراقي عن حُرَّاسك إن شاء الله، ثمَّ احْتَفَزَ للذهاب فأوقفه القائد وقال: رُوَيْدَكَ حتى تأخذَ الْوَصَاة، ثمَّ ذهب يكتبُها ووقف دارتانيان في النافذة ينظر إلى المارَّة حتى انتهى القائدُ من الكتابة وأعطاه الورقة، فأخذها وتَمَلَّصَ منه بسرعة وهجم إلى الباب وهو يقول: وجدْتُه، فلا خَلاصَ له في هذه المرة، فقال له القائد: وما ذاك؟ قال: خَصْمِي في مينك، ثمَّ نزل في السُّلَّم مسرعًا.