بوناسيه صاحب الفندق
أما صاحب الفندق فأخذته الشرطة إلى سجن الباستيل وأدخلوه إلى مكان تحت الأرض وهم يعاملونه بالقسوة والغلظة لأنه لم يكن من النبلاء، وما لَبِثَ قليلًا في محبسه حتى جاءه ضابط وأمر بنقله إلى غرفة الاستنطاق، فأخذه جنديان وسارا به في نفَق طويل حتى أدخلاه إلى غرفة واطئة فيها رجل هو المستنطِق وكرسيٌّ ومائدة، فوضعاه بين يديه وخرجا، فقال له المستنطِق: ما اسمُك؟ قال: ميشل جاك بوناسيه. قال: كم عمرك؟ قال: واحد وخمسون سنة. قال: وأين بيتك؟ قال: في سكة فولوايه في العدد ١. فأخذ المستنطق يكبر عليه الأمر ويخوِّفه باسم الكردينال ورهبة القصاص ويتوعده بالعذاب، إلى غير ذلك من أنواع التهويل والتهديد حتى داخَلَهُ لذلك أشدُّ الرعب والخوف، فصار يذمُّ في نفسه دي لابورت والساعة التي رأى فيها امرأته، ثمَّ قال: وحقِّك يا مولاي لستُ بمذنب ولا مقترفٍ أدنى جريمة على الكردينال أو غيره. فقال له المستنطق: واللهِ لئن لم تصدقني لأفعلن بك ولأصنعن. قال: وبمَ أكذب يا مولاي؟ وكيف أُنْكِر ما لم أَجْنِهِ ولا عِلْم لي بأوله ولا آخره؟! قال: لم يكن من العبث سجنك، فإنك مجرم متهم بخيانة عظيمة. قال: أنَّى أكون ذا جريمةٍ عظيمةٍ أو يكون لي دخل في خيانة وأنا رجل بائع لا ناقةَ لي في الدولة ولا جَمَل؟ فانظر يا مولاي على مَنْ تُلقي التهمة وتدَبَّر في بُغْيَتِك. فنظر إليه المستنطق طويلًا ثمَّ قال: هل لك امرأة؟ قال: نعم، وقد خُطفت مني. قال: ومن خطفها؟ قال: لا أدري سوى أني أظن. قال: وبمَ تظن؟ فارتبك الرجل بين الإقرار والإنكار، ثمَّ صمم على الإقرار، فقال: رجل طويل القامة صفاته كَيْتَ وكَيْتَ، فقال المستنطِق: وهل تعرف اسمه؟ قال: لا أعرفه إلا إذا رأيت وجهه ولو كان بين ألْف رجل. قال: أتعرفه ولو كان بين ألف رجل؟ فتَلَجْلَجَ لسانُ الرجل وعَلِمَ أنه قد سَقَطَ، فقال له المستنطق: نقف الآنَ عند هذا الحد حتى تعرفَ خاطف امرأتك. قال: أنا لم أقل إني أعرفه بل بالعكس … فلم يدعه الرجل يتم كلامه حتى دعا بالجنديين وقال لهما: خذاه إلى السجن حيث كان واحرصا عليه لا يفر. فخرجا به وهو يناجي ربه ويذمُّ زمانه ويطلب الغفران عن زَلَّته.
فأخذه الجنديان إلى السجن، وأقام المستنطق يكتب رسالة على عجل يريد أن يرسلها مع رسول ينتظره. أما بوناسيه فأقام ليلَه ذلك لا يَغْمَض له جَفْن ولا يأخذه هُجوع لشدة قلقه واضطرابه حتى طلع الصباح، وإذا بالْمِفْتاح يقلقل في باب سجنه، فخفق قلبُه وظن أنهم يأخذونه لضرب عنقه، ثمَّ فُتح الباب وظهر المستنطق، فقال له: أنصح لك أن تقرَّ بالحقيقة وإلا فأنت هالك. قال: أقول لك كل ما أعرف بشرط أن لا تعدوَ إلى ما لا علم لي به. قال: أين امرأتك؟ قال: قُلت لك إنها خُطفت. قال: نعم، ولكنها فرَّت من خاطفها. قال: هربت الشقية المجرمة، ولِمَ تركتموها تهرب؟ قال: وما كنت تصنع عند دارتانيان يوم خُطفت؟ قال: كنت ألتمس منه أن يساعدني بالبحث عليها لاعتقادي بها الخير، فأمَّا وقد تبينت جرمها فلا ردَّها الله. قال: وما قال لك دارتانيان؟ قال: وعدني بالمساعدة، ثمَّ لم يلبث أن أخلف وعده وخَفَرَ ذِمَّتَه. قال: إنكما مذنبان أنتَ وإياه لأنه نَفَّرَ رجال الكردينال عن امرأتك وذهب بها، وهو الآن في يدِنا وسأريك إياه. ثمَّ أشار إلى الحارس بإدخال دارتانيان، فخرج ثمَّ دخل بأتوس يقوده حتى أوقفه بحضرة المستنطِق، فقال له: قُل يا كونت ما جرى بينك وبين هذا الرجل؟ فصاح صاحب الفندق: ليس هذا دارتانيان يا مولاي. قال: ومن هو إذن؟ قال: لا أدري سوى أني رأيته مرة. فسأله المستنطق عن اسمه، فقال: اسمي أتوس. قال: عجَبًا كيف يكون ذلك؟ فإن هذا اسم جبل. قال: هو اسمي الذي أُعرَف به بين الناس. قال: وكيف تقول إنك تُدعى دارتانيان؟ قال: إنِّي لم أقل شيئًا، فإنهم قالوا لي: أنت دارتانيان؟ فقلت لهم: أتظنُّون ذلك؟ فلم يلتفتوا إلى قولي، بل قادوني فسِرْت معهم. قال: ما أراك إلا تحاول الإنكار، وما اسمك إلا دارتانيان. قال: إذن لا لوم على الشرطة ما دمت أنت تقول ذلك. فقال بوناسيه: إنه ليس دارتانيان يا مولاي، فإن دارتانيان نازل في داري، وهو فتًى لا يبلغ العشرين من العمر، وفوق ذلك فإن دارتانيان في حرس دي زيسار وهذا من حراس الملك، أفما ترى ثيابه؟ قال: صدقت، وما أنا إلا مغرور. ثمَّ فُتح الباب ودخل رسول فأعطى المستنطِقَ رسالة فقرأها، ثمَّ قال: تَعْسًا لها. فقال صاحب الفندق: لعلها غير امرأتي؟ قال: بل هي بعينها فأَبْشِرْ بالعذاب. قال: كيف ذلك يا مولاي؟ وكيف أكون معلَّقًا بامرأتي تلحقني جرائمها وأنا بعيد عنها في السجن؟ قال: ذلك لأنك أنت مرشدها وآمرها بكل ما تفعل. قال: لا والذي أسأله صلاحك يا مولاي لا علم لي بشيء مما تقول ولا بما تفعل امرأتي، وتبًّا لها إن كانت مذنبة. فقال له أتوس — وقد أخذه الملل: لقد طال بنا الأمر وسئمت من هذا الجدال، فابعثني من هنا فما لك قِبَلي حاجة. فنادى المستنطِق بالحراس وأمرهم أن يأخذوا الأسيرين ويضيِّقوا عليهما ما أمكن. فأخذوا كُلًّا إلى سجنه، وأقام صاحب الفندق سَحَابَة يومه يَنْدُب نفسه نَدْب الثَّكْلَى حتى هبط الليل وأخذه النعاسُ، وإذا بِخَفْق نِعالٍ يدنو منه، ثمَّ فُتح الباب ودخل عليه عدَّةُ حُراس، وقال له أحدهم: اتبعني. فقال: إلى أين أتبعك في مثل هذه الساعة؟ قال: إلى حيث أُمرنا بأخذك. فقال: هلكتُ واللهِ لا خلاصَ لي بعدَها. ثمَّ تبع الحراس في النفق الذي دخلوا منه حتى انتهى إلى الباب، فوجد عربة حولَها أربعة من الفرسان، فأصعده الحراس إليها وجلس معه الذي كلمه، وأقفل بابها بالمفتاح، وسارت العربة بهما على مهل، وبوناسيه ينظر من نافذة فيها إلى الشوارع، وكلما قرب من سجن أو مكان عقاب ارتعدت فرائصُه وخَفَقَ قلبه واستعد للقاء ربه، حتى بلغت به بون أنفان، فوضع الموت بين عينيه ووقفت العربة، فأخرجوه منها مغشيًّا عليه.