الكونت روشفور خَصْم دارتانيان
فلما أدخلوه في الباب أفاق لنفسه قليلًا، فصعدوا به سُلَّمًا ووضعوه في غرفةٍ وهو لا يكاد يَعِي من شدة الجزع، ثمَّ نظر حوله فلم يرَ شيئًا من دواعي الموت، فارتاح باله وهدأ قلبه؛ إذ رأى الغرفة مفروشة بأحسن الفرش ومُزَيَّنة بأبهى الأثاث، وفيما هو كذلك إذ دخل عليه ضابط فقال له: أنت المُسَمَّى بوناسيه؟ قال: نعم. فأخذه بيده وأدخله إلى غرفة لا تكاد جدرانها تظهر من كثرة ما عُلِّق عليها من السلاح، وفي وسطها مائدة عليها كثيرٌ من الأوراق والكتب وفي جملتها رسم مدينة روشل، وكان يصطلي على نار فيها رجل طويل القامة مَهِيب المنظر لا يكاد يتجاوز السادسة والثلاثين، ويظهر من هيئته وهو أعزل أنه من رجال الحرب، وفي رجله حذاءٌ يعلوه الغبار كأن صاحبه آتٍ من سفرٍ بعيد. وكان ذلك الرجل أرماند جاك دي بليسيس كردينال دي ريشيليه بطل فرنسا وسياسيها الفرد، وكان عند ذلك قد ثبت الدوق دي نيفر في ولاية مانتو وأخذ نيم وكاستر وإيزي ويعمل على طرد الإنكليز من جزيرة ري ويحاصر روشل.
وكان الكردينال في لباسه ذلك بعيدًا عن أن يعرفه من لم يكن قد رآه، فجعل ينظر إلى بوناسيه نظرة المتأمل، ثمَّ قال للضابط: أهذا بوناسيه؟ قال: نعم يا مولاي. قال: فأعطني هذه الأوراق واخرج. ففعل الضابط وخرج، ونظر بوناسيه إلى الأوراق فعرف أنها تحتوي على استنطاقه في سجن الباستيل، وكان الكردينال بين ذلك يُصَعِّد نظرَه فيه ويُصَوِّبه حتى قال له: أنت متهم بجناية عظيمة. قال: ذلك ما قيل لي يا مولاي، وأنا والله لا علم لي بشيء. قال: إنك مواطئ لامرأتك وللخاتون دي شفريز وللورد بيكنهام. قال: لا والله يا مولاي لا أعرف من هؤلاء الأشخاص إلا أسماءهم؛ إذ قد سمعت بهم كثيرًا. قال: ممن سمعت؟ قال: من امرأتي، فإنها كانت تقول أن الكردينال قد احتال في مجيء بيكنهام إلى باريز ليقتله ويُلحق الملكة به، أما أنا فكنت أزجرها وأقول لها أن الكردينال أبعد من أن يُتَّهم بمثل ذلك. قال: أوَتعلم من خطف امرأتك؟ قال: كنت اتهمت رجلًا، ثمَّ لم رأيت المستنطِق يَسْتاء لتهمتي عَدَلْتُ عنها. فتبسم الكردينال وقال: أما علمتَ أن امرأتك قد فرَّت؟ قال: نعم علمت ذلك وأنا في السجن. قال: وهل تعلم ما جرى لامرأتك بعد فرارها؟ قال: لا، ولكني أظنُّ أنها عادت إلى اللوفر جريًا على عادتها. قال: لا، فقد ساء ظنك. قال: ويلاه، وما صنعت؟ قال: ستعلم ذلك من الكردينال، فإنه لا تكاد تَخْفَى عليه خافية. قال: وهل ترى الكردينال يتفضل عليَّ بذلك؟ قال: قد يكون على شرط أن تُقِرَّ بكل ما تعلمه من العلائق بين دي شفريز وامرأتك. قال: إنِّي لا أعرفها ولا علم لي بشيءٍ من ذلك. قال: لمَّا كنت تذهب فتأتي بامرأتك من اللوفر، هل كانت تأتي معك إلى البيت توًّا أم تتخلف في الطريق؟ قال: لا، بل كانت تطلب مني أن أذهب بها إلى بعض الْبَزَّازين لتشتريَ ثيابًا، وكان ذلك دأبها. قال: إلى كَمْ بَزَّازٍ كانت تذهب؟ قال: إلى اثنين. قال: وأين يسكنان: قال: أحدهما في شارع فوجيرار عدد ٢٥، والآخر في شارع لاهارب عدد ٧٥.
قال: وهل كنت تدخل معها؟ قال: لا، بل كنت أنتظرها لدى الباب على حسب ما تقول لي، فقال: لله دَرُّك مِنْ رجلٍ أَطْوَعَ مِنْ ثَوَابٍ. ثمَّ أخذ ناقوسًا من الفضة فقرَعه فدخل الضابط، فقال له: عليَّ بروشفور في الحال. قال: هو في الباب يا مولاي يستأذنك بالدخول. ثمَّ خرج ودخل روشفور، فلما رآه بوناسيه صاح: هو هذا يا مولاي. قال: ومَنْ تعني؟ قال: الذي خطف مني امرأتي. قال: صَهٍ يا رجل. ثمَّ قال: خذوه واحفظوه حتى أَدْعُوَه. فأخذوه وهو يَصِيح: لا يا مولاي فقد غلطْتُ، فليس هذا، فإنه رجل شريف. قال: خذوه. فأخذوه وأقفلوا الباب، فدنا روشفور من الكردينال وقال: لقد تقابلا. قال: مَنْ؟ قال: هو وهي. قال: الملكةَ واللورد تعني؟ قال: نعم. قال: وأين؟ قال: في اللوفر. قال: هل أنت واثق مما تقول؟ قال: نعم، وقد أخبرتني الخاتون دي لانوي المخلصة لك يا مولاي. قال: ولِمَ لم تسبق في الإخبار؟ قال: لأن الملكة قد أمسكتْها عندَها كل ذلك النهار. قال: كيف كانت القصة؟ ومتى؟ قال: بعد منتصف الليل بَيْنا كانت الملكة جالسةً بين نسائها وَرَدَ عليها مِنْدِيل من خادمتها فأخذته وهي تَحْمَرُّ وتَصْفَرُّ، ثمَّ نهضتْ وقالت: أَنْظِرْنَني قليلًا. وخرجتْ من باب غرفتها. قال: ولِمَ لم تخبرك دي لانوي على أثر ذلك؟ قال: لأنها لم تكن عالمة بالأمر، واضْطُرَّتْ إلى أن تطيع أمر الملكة بالانتظار. قال: وكم غابت الملكة؟ قال: ثلاثة أرباع ساعة، ولم يكن معها إلا الدونة أصطفانة، ثمَّ عادت فأخذت عُلْبَة حمراء وخرجت ثمَّ رجعت بدونها. قال: أوَلم تعلم ما كان في العلبة؟ قال: الْعِقْد الماس الذي هاداها به الملك، وقد تأكدت ذلك دي لانوي إذ سألتْها عنه بعد بُرْهَة فاحمرَّ وجهها وزَعَمَتْ أنه انكسر منه فصٌّ فأرسلته إلى صائغها ليصلحه، ثمَّ سألت الصائغ عنه فأنكره. قال: أفلا تعلم مقرَّ دي شفريز واللورد بيكنهام؟ قال: لا يا مولاي، فقد بحثت عنهما كثيرًا فلم أجد لهما أثرًا. قال: أنا أعلم أين هما، أحدهما في شارع فوجيرار عدد ٢٥، والآخر في شارع لاهارب عدد ٧٥. قال: ألا يأمر مولاي بالقبض عليهما؟ قال: ما إخالهما باقيين هنا، وما أظنهما إلا رَحَلا، ومع ذلك فخُذْ عشرة من رجالك وابحث في المنزلين. قال: سَمْعًا وطاعةً. ثمَّ سلم وخرج.
فلما خلا الكردينال قَرَعَ الجرس فدخل عليه الضابط، فأمره بإدخال بوناسيه فأدخله، فقال له الكردينال: لقد خدعتني يا رجل. قال: حاشا أن أخدع مولاي. قال: كنت تقول لي أن امرأتك تذهب إلى البزازين وهي تذهب إلى بيكنهام ودي شفريز. قال: صدقت يا مولاي، فقد تذكرت، ولقد كنت أعجب منها كيف تدخل إلى بيوت لا علامة فيها للثياب وهي تضحك مني، فلله دَرُّك يا مولاي مِنْ حاذقٍ خبير.
ثمَّ أَكَبَّ على رِجْلَيِ الكردينال يقبِّلهما، فأنهضه الكردينال وقال: قم يا بُنَيَّ ولا تَخَفْ. فأكبر بوناسيه ذلك كيف أن الكردينال يقول له يا بُنَيَّ ويُنْهِضه بيده، فأخذ يردد عبارات الشكر والْمَسَرَّة، فقال له الكردينال: أظنك مُمْلِقٌ لا مال لك، فخُذْ هذه الصُّرَّةَ واستعن بها على أمر نفسك، ولا تؤاخذنا بما عاملناك. قال: كيف أؤاخذك يا مولاي وأنت الحاكم المطلق بين الروح والجسد.
إلى ميلادي
اذهبي إلى أول رقص يحضره بيكنهام، وتلطفي في الدنو منه، وخذي من الْعِقْد الماس الذي في صدره فصين بدون أن يشعر، ثمَّ أخبريني في الحال.