الملك والملكة والكردينال
فوقع هذا الكلام في أذن الملك وُقوع الصاعقة، فأخذَتْه حِدَّةُ الْغَيْظ وسَوْرَة الْغَيْرَة فقال: وما يقصد بيكنهام في مجيئه إلى هنا؟ فقال الكردينال: لا أشك في أنه آتٍ لِيُواطِئَ أعداءك الإسبان عليك يا مولاي. قال: لا، بل لِيُواطِئَ دي شفريز ودي لونكفيل ودي كونده على خَرْق حُرْمَتي. قال: لا يا مولاي، فإن الملكة أَعَفُّ مِنْ أن يُنسبَ إليها مِثْلُ ذلك على شدة حبها لك. قال: لا وأبي، فالنساء ضعيفات يَمِلْنَ مع الهواء، أما حبها لي فسأنظر فيه. قال: أمَّا أنا فلا أظن مجيء بيكنهام إلا لأسباب سياسية. فقال الملك: وأنا لا أراه إلا لِمَا ذَكَرْتُ لك، وإذا كانت الملكة مخطئة فويلٌ لها. قال: لِيَعْدِلِ الملكُ حَفِظَهُ الله عن هذا الرأي، فإني قد سألت دي لانوي عن الملكة فقالت إنها لم تفارقْها دقيقة قَطُّ، وقد رأَتْها تبكي ليلَها أَجْمَعَ وصَرَفَتْ نَهارَها في الكتابة. قال: نعم، وإنها تكتب له، فلا بدَّ لي من أن أرى أوراقها. قال: ذلك صَعْب الْمَنال يا مولاي، وما أُرانا نصل إليه أنا أو أنت. قال: كيف لا وقد فعلنا مثل ذلك بالماريشالة دانكر، ففتَّشنا خزائنها ثمَّ فتَّشناها نفسها؟ قال: شَتَّان دانكر والملكة، فإن تلك امرأة من بعض الخاصة وهذه حَرَمُك يا مولاي ملكة فرنسا وسيدة الدنيا. قال: لقد أنزلْتُها هذه المنزلة فعافَتْها وعَقَّتْها، فسأَنْزِل بها عن مكانِها درجاتٍ يَفْتَضِح عندَها عَوارُها، فقد ضاق صدري من أفعالها بين السياسة والعشق. قال: ذلك لا أسلِّم لك به، وإنما أُقِرُّ لها أنها تَنْوِي حَطَّة مُلْكِك، ومَعَاذَ اللهِ أن يكونَ في نيتها خَرْق حُرْمتك. قال: وأنا أقولُ لك إنها عازمة على الأمرين جميعًا، فإنها لا تحبني بل تحب غيري وهو اللئيم بيكنهام، فلماذا لم تَقْبِض عليه وهو في باريز؟ قال: إن ذلك يا مولاي مما لا يُقال ولا يُخال، فكيف تَقْبِضُ على وزير إنكلترا الأولى وتكون في مَأْمَنٍ من حرب تتدَمَّر بها البلاد، ولا سيَّما إذا حَمَلَكَ الغيظُ على إنفاذ المكروه فيه، فيصبح لسان الإنكليز حينئذٍ وهو ينشدنا:
قال: ليس علينا في ذلك عاقبة ولا تَبِعَة لأنه قَدِمَ بلادَنا في زيِّ جاسوس؛ فقد كان يجب … ثمَّ أَمْسَكَ عن الكلام إذْ علم فظاعة الجملة، فقال له الكردينال: قد يجب ماذا؟ قال: لا شيء، فهل راقبت اللورد أيامَ كان في باريز؟ قال: نعم، وقد كان ساكنًا في شارع لاهارب عدد ٧٥، وما أظنُّ أنه جَرَتْ بينَه وبين الملكة محادثة. قال: إن لم تكن فمُكاتَبة، وهي التي شغلت الملكة سَحابةَ يومِها، فلا بدَّ لي من أن أرى رسائلها طَوْعًا أو كَرْهًا، وإلا فأنتَ ذو يَدٍ في الأمر عليَّ. قال: لقد كنت أظن نفسي يا مولاي في مَعْزِلٍ عن مِثْلِ هذه التهمة لما أني موضِع ثقتك ومُؤْتَمَن سِرِّك، أما مَرامُك فلا يُنال إلا بطريقةٍ. قال: وما هي؟ قال: أن تُنِيطَ هذا الأمر بحارس سيكوسيه، فإن ذلك من أعماله. قال: نعم، عليَّ به. قال: لكن أخشى أن لا تطيعَه الملكة لجهلها أنه آتٍ بأمرك. قال: اذهب أنت إليه وأنا أدخل على الملكة. ثمَّ دخل، فوجدها قاعدة حزينة بين نسائها، فوقفنَ له جميعًا، فتقدَّم إليها وقال: يأتيك بعد قليل وزيري ريشيليه فيُجْرِي ما أَمَرْتُه به. فارْتاعت الملكة لذلك لأنها كانت تتوقَّع النفي والقتل، فقالت: وما هذه الزيارة يا مولاي؟ وهل من شيء يقوله الكردينال وأنت معقول عنه؟ فخرج الملك لا يرُدُّ عليها، ثمَّ دخل الحارس فاستأذن للكردينال، ثمَّ دخل الكردينال وهو يتلوَّن كتلوُّن الْحِرْباء، وكانت الملكة لم تَزَلْ واقفة، فلما رأتْهُ داخلًا جلسَت وأشارت إلى نسائها بالجلوس، ثمَّ قالت له: ماذا تريد؟ وما أتى بك إلى هنا؟ قال: أتيت بأمر الملك لأبحث في أوراقك، ولا يسوءك ذلك مني فإني مأمور. قالت: إن ذلك لا يكون أبدًا، فهي إهانة لي. قال: ألم يُخْبِرْك الملك قبل أن يخرج؟ قالت: فأَعْطِهِ يا أصطفانة مفاتيح خزائني، فأخذها وجعل يبحث في الأوراق ساعة فلم يَجِدْ شيئًا، فتقدم إليها وقال: بَقِيَ عليَّ أمرٌ وهو الأهم. قالت: وما ذاك؟ قال: تأْذَنِينَ بتفتيش ثيابِك، فقد بلغ الملك أنك كتبت رسالة ولم تُرْسِليها بَعْدُ، ولعلها مَعَكِ. قالت: أجُرْأة على الدُّنُوِّ مني يا كردينال؟ قال: العفو يا سيِّدتي، فما أنا إلا خادم مطيع ورسول أمين أَصْدَعُ بما أؤمر، وقد أمرني الملك بتفتيش ثيابِكِ ولا يَكْبُر عليك ذلك فإنه أمرٌ لا بدَّ منه. فأَجْفَلَتِ الملكة مُرتاعةً ثمَّ مَدَّت يدَها إلى صدرها فأخرجت رسالةً وسَلَّمَتْه إياها وقالت: خذْها واخْرُج وأَرِحْنِي من مَرْآك. فأخذها الكردينال وخرج، وسقطت الملكة بين نسائها وشيكة الإغماء، وذهب الكردينال بالرسالة فبعثها إلى الملك فقرأها فوجدها موجَّهة إلى أخي الملكة في إسبانيا تستحثه على حرب فرنسا، وأن يجعل من شروط الصلح بعثة الكردينال منها، ولم يجد فيها أثرًا للعشق. فدعا الملك بالكردينال فدخل، فقال له: صدقْتَ أنت وأخطأتُ أنا، فليس للعشق فيها أثر. فأخذ الكردينال الرسالة فقرأها ثمَّ عاد عليها وقال: أجد أنها تغري أخاها بطلبي إليه، وأنا أُشير عليك بذلك أيها الملك فإني قد سئمت من حصار روشل وبرَّح بي همه، فلو رأى الملك أن يولِّي مكاني أحد رجال الحرب ممن يصلحون للحصار، فما أنا إلا رجل راهب. قال: عرفْتَ مَنْ تريد، فلا بدَّ لي من معاقبة كلِّ من هو مذكور في هذه الرسالة حتى الملكة نفسها. قال: حاشا يا مولاي أن أكون سبيلًا لإيصال الأذى إلى الملكة في أمر لا يَشِينك، ولو كان فيه شيءٌ من الشَّيْن لكنتُ أول مساعد في عقابها، ولكنها أمور لا دخل للعشق فيها، فلا سبيل للقصاص عليها. قال: صدقْتَ، فقد أغلظتُ لها في هذا الشأن وهو دأبي مع أعدائك وأعدائي يا كردينال. قال: إنها عدُوَّتي ولكنها حَلِيلَتُكَ يا مولاي وأحب الناس إليك كما أنك أحب الناس إليها، فأْذَنْ لي أن أتوسَّط في الصلح بينكما. قال: ذلك لا يكون إلا إذا بدأت هي به وأتت إليَّ. قال: لا يا مولاي، فأنت البادئ بالتهمة فعليك أن تترضاها. قال: وَيْحَكَ، وأين تذهب عِزَّة الملك؟ قال: أنا ألتمس ذلك منك يا مولاي فلا تُخَيِّب طلبي. قال: وكيف السبيل إلى ذلك؟ قال: إن الملكة تميل إلى الرقص، فلو أعدَدْتَ لها ليلةً راقصة، ولو كنتَ قليل الرغبة في مثل ذلك، فإنه مما يزيد في إعزازك عندَها ويكون لها فرصة لأن تتحلى بالْعِقْد الماس الذي هاديتَها به. قال: سنرى في ذلك. وكانت الساعة الحادية عشرة قد حانت فودَّع الكردينال وخرج.
لقد حصلت عليهما، ولكني لا أقدر أن أسافر لقلة المال في يدي، فأرسل لي خمسمائة دينار، وبعد وصولها لي بخمسة أيام أكون في باريز.
وفي ذلك اليوم سأله الملك: متى تكون ليلة الرقص؟ فحسب الكردينال أيام ذهاب المال إليها وأيام مجيئها إلى باريز فوجد أنه لا بدَّ لذلك من عشرة أيام، فقال: نجعلها بعد اثني عشر يومًا، ولكن على شرط أن تتحلى الملكة بالْعِقْد الماس.