الرحيل
وفي الساعة الثانية بعد منتصف الليل سار الحرسيُّون الأربعة بغِلْمانهم قاصدين كاله. حتى كانت الساعة الثامنة من النهار فوصلوا إلى شانتينلي، فنزلوا للغداء في فندق فيها وجلسوا على مائدة هناك عليها رجل من النبلاء، فآكَلُوه وتَعرَّفوا به وشَرِبَ نَخْبَهم (على صِحَّتهم)، ثمَّ قاموا للانصراف، فتعرَّض لهم الرجل وعرض على بورتوس أن يشرب معه على صحة الكردينال بزعمه أن لا حاكم سواه، فامتنع بورتوس عن ذلك وألحَّ عليه الرجل، فقال له بورتوس: إنك سكران فلا لوم عليك ولا حرج. فأحْفَظَهُ ذلك وسَلَّ سيفه وطلب بورتوس لِلْبِراز، فقال له أصحابه الثلاثة: اقتله واتبعنا على جَناح السرعة، ثمَّ رَكِبوا خيولهم وخلفوا بورتوس يُجاوِل خَصْمه وخادمُه إلى جانبه. وفيما هم يسيرون وقد بلغوا مكانًا ضيِّقًا التقوا بجماعة مقبِلين عليهم، فزاحموهم في الطريق، فأحفظ ذلك أراميس وتعرَّض لأحدهم فرَمَوْهُ بالرَّصاص فأصابوا كتفَه وخادمَه، وجدَّ دارتانيان ورفيقاه في المسير دفعًا للعوائق، فتحامل الجريحان وتبعاهم يماشيانهم حتى بلغوا مكانًا يُدعى كرافكور، فقال أراميس إنه لم يَعُدْ يَقْدِر على التحامل وقد عَزَمَ على اللُّبْث في القرية، فتركوه مع خادمه بازين وساروا حتى انتهوا إلى أميان عند منتصف الليل، فنزلوا في فندق هناك وطلبوا من صاحبه مكانًا للمبيت فزعم أنه ليس عنده إلا غرفتان في آخر الفندق، فأَبَوْا عليه ذلك وناموا في عَرْصَة الفندق، وتركوا كريمود خادم أتوس يحرس الخيل. فلما كان الصباح قام الخادم إلى الخيل ليُسْرِجَها ونبَّه خادم الإسطبل ليساعده في العمل، فقام إليه وضربه بعصًا فشَقَّ رأسه، وسمع أتوس ودارتانيان صِياحه فأقبلا عليه فوجداه مطروحًا مَشْجوج الرأس، ثمَّ نظرا إلى الخيل فإذا بأحدها قد جَرَحَهُ الْبَيْطارُ في عملية جراحية دُعيَ لها لحصان آخر فظنَّه ذلك الحصان، فذهب بلانشت خادم دارتانيان يسأل عن حصان يشتريه بدل الحصان الذي جُرح، ودخل أتوس ليدفع لصاحب الفندق أجرة المبيت فأعطاه دينارًا، فأخذه وأَرْقَصَهُ على ظَفَرِه، ثمَّ تعلَّق بأتوس وقال: لقد وجب عليك الحدُّ لأنك مُزَيِّف للعملة، ثمَّ صاح بالشرطة فدخل أربعة منهم وقبضوا عليه وهو يحاول الخلاص ويَصِيح بدارتانيان أن ارْكب وخادمَك الحصانين الباقيين وأسرِعا ما أمكن، ثمَّ أطلق أتوس رَصاصتين ونظر بلانشت وقال لسيده: أرى رجلين يسقطان. فقال: بارك الله في أتوس فسيتبعنا عن قريب، فهيا بنا على عجل. وسارا يَنْهَبانِ الطريق سَحابَةَ يومِهما حتى صارا على مقربة من كاله، فوقف حصان دارتانيان وجعل الدمُ يسيل من منخريه وعينيه، وعجز حصان بلانشت عن المسير لشدة التعب، فتركاهما وسارا ماشِيَيْنِ. وفيما هما يسيران أشار بلانشت لدارتانيان إلى رجل من النبلاء يمشي أمامَهما ووراءه خادمه، فتَبِعاهُ حتى بلغ شاطئَ البحر وأقبل على مَلَّاح قد نشر شِراع فُلْكِه، فطلب منه أن يأخذه إلى إنكلترا فأجابه أنْ قد وَرَدَ إليهم أمر من الكردينال أن لا يقبلوا أحدًا إلا بإذنٍ منه، فقال: إن الإذن معي، فأين أجد والي المدينة؟ قال: هو في بيته في ظاهر البلد. وأشار له بيده إلى المكان، فعاد الرجل قاصدًا بيت الحاكم وتبعه دارتانيان وقد سمع ما دار بينه وبين الملاح حتى دخل في غابة في الطريق، فداناه دارتانيان وقال: أرى أنك مستعجل. قال: لا عجلة إن شاء الله. قال: إن لم تكن عَجِلًا فأنا ملتمس منك أمرًا لأني مستعجل. قال: وما ذاك؟ قال: أن تدعني أتقدمك في السفر. قال: ذلك لا يكون أبدًا، فقد قطعت مسافة طويلة في وقت قصير لأصل إلى لندرة غدًا عند الظهر. قال: وأنا قطعت مسافة أطول في وقت أقصر لأصل إلى لندرة قبل الظهر. قال: لا تؤخِّرني بالله، فإن بعثتي من الملك. قال: وأنا بعثتي من نفسي. قال: والآن فماذا تريد؟ قال: أن تعطيني الإذن الذي تحمله. قال: أظنُّك تطلب الْبِراز، فانزل، فقال دارتانيان لخادمه: أنت للخادم وأنا للمولى، ثمَّ سل سيفه وتكافحا، فرمى بلانشت خَصْمه وبَرَكَ على صدره، وصاح بدارتانيان: قد فرغت من خَصْمي فأنجِزْ أمر خَصْمك. فهجم دارتانيان على خَصْمه فضربه بسيفه فرماه إلى الأرض جريحًا، ثمَّ دنا منه ليأخذ الورقة من جيبه فضربه الجريح بالسيف فأصابه كتفه وجَرَحَهُ جُرحًا خفيفًا. فأعاد دارتانيان عليه حتى غاب عن رشده، وأخذ الورقة منه وإذا بها باسم الكونت دي ويرد.
ثمَّ عمد إلى الخادم فسدَّ فمَه بمِنْدِيل وربطه إلى جِذْع شجرة بإسعاف خادمه بلانشت، فقال له خادمه: أرى أنك جريح يا مولاي. قال: لا بأس، فالجُرح خفيف لا خوف منه، فعلينا بالأهم، ثمَّ سارا حتى بلغا منزل الوالي، فاستأذن عليه دارتانيان منتحلًا اسم الكونت دي ويرد، فأذن له ودخل، فقال له الوالي: أمعك أمرٌ من الكردينال؟ قال: نعم، وهو هذا. فأخذ الوالي وتصفَّحه ثمَّ قال: يظهر لي أنه شديد الْوَصاة بك. قال: نعم، فأنا من أتباعه الأمناء. قال: أرى أن الكردينال يريد أن يمنع رجلًا من الذهاب إلى لندرة حتى أصدر أمره هذا. قال: نعم، يريد أن يمنع فتًى من النبلاء يُدعى دارتانيان، وقد خرج من باريز بأصحابٍ له ثلاثة قاصدًا لندرة. قال: هل تعرفه؟ قال: نعم. قال: فصِفْ لي هيئته. فأخذ دارتانيان يصف له صفات الكونت دي ويرد حتى أتمَّها، ثمَّ قال: إن معه خادمًا. ثمَّ وصف له خادمه، فقال الوالي: سنرى في شأننا معه إذا انتهى إلينا، وأنا ألتمس منك إذا عُدت إلى الكردينال أن تشهد بي خيرًا لديه. قال: نعم. فوقَّع الوالي على الإذن وودَّعه دارتانيان وخرج مسرعًا بخادمه حتى بلغ المينا، فنزل في فُلْكٍ سار به إلى إنكلترا، وكان جرحه خفيفًا جدًّا فضَمَّدَه ونام، فلما أصبح إذا هو على شاطئ إنكلترا، فنزل إلى البر وسار إلى لندرة، وجعل يسأل عن اللورد دوق دي بيكنهام فأُرْشِدَ إلى قصره، فسأل عنه فقال له خادمُه — ويُدْعَى باتريك — إنه ذهب مع الملك إلى الصيد في مكانٍ لا يبعد كثيرًا عن لندرة. قال: فهيا بنا إليه، وقُل له إن رجلًا يريد أن يراه في الحال. قال: وكيف يعرفك؟ قال: تقول له هو الرجل الذي كاد يبارزك قبالة اللوفر في باريز، وتلك علامة لا تخفى عليه. فسار الخادم مسرعًا ودارتانيان معه حتى بلغا مكان الصيد، وتخلَّف دارتانيان وسار الخادم إلى اللورد فوصف له الفتى فعرفه، وثَنَى عِنان فرسه وأقبل يَخُبُّ حتى وصل إلى دارتانيان فعرفه، وترجَّل عن فرسه وقال: عسى الملكة في خير؟ قال: نعم، ولكن أظن أنها في خطر، فخُذْ هذه الرسالة تعلم. فأخذ اللورد الرسالة فإذا بها مثقوبة، فسأله عن الثقب فحكى له قصة اللورد دي وير وكيف أنه ضربه بالسيف فأصاب كتفه وثقب الرسالة، ففضَّها اللورد وقرأها والْعَرَق يسيل من جَبِينه، ثمَّ التفت إلى خادمه وقال له: اذهب إلى الملك وقل له إن أمرًا خطيرًا يمنعني عن إتمام الصيد، ثمَّ وَخَزَ جواده وسار ودارتانيان إلى لندرة.