الكونتس دي وِنتر
ودخل اللورد بيكنهام إلى لندرة يشقُّ جماهير الناس بجواده لا يَلْوِي على أحد حتى انتهى إلى قصره، فترجَّل ودخل في القصر وتَبِعَه دارتانيان في عدة غرف حتى بلغ حُجرته، فدُهش دارتانيان من حسن فرشها وجودة إتقانها، فأخذه بيكنهام إلى باب صغير في جدارها ففتحه بِمِفْتاح من الذهب مُعلَّق بسلسلة ذهبية في عنقه، وقال له: ادخل وانظر وعساك تُخبر مَنْ أُحِبُّ بما تَرَى. فدخل دارتانيان معه فرأى غرفة يغشى الذهب جدرانها ويكسو أرضَها الدِّمَقْسُ الفاخر وفي صدرها شبيه الهيكل قائمة عليه صورة حنة دوتريش ملكة فرنسا تحيطه الشموع والمصابيح والزهور، والصورة في غاية الإتقان حتى دهش دارتانيان لها وكاد يحسبها شخص الملكة، وعلى الهيكل الْعُلبة التي فيها الْعِقْد. فأخذها اللورد وأخرج منها الْعِقْد وجعل يقبِّل فصوصَه واحدًا بعد واحدٍ وهو يقول: لله دَرُّ أيوب حيث قال: الرب أعطَى والرب أَخَذَ. إلا أنه لم يَأْتِ على آخرها حتى أَجْفَلَ وصفَّق صَفْقة الأوَّاه، فقال له دارتانيان: ما بالك يا مولاي؟ قال: إن الْعِقْد ناقصٌ منه فِصَّان، فلا يوجد إلا عشرة، وما أظن ذلك إلا إحدى حَظِيَّات الكردينال، فانظر إلى السِّلْك فإني أراه مقطوعًا بِمِقَصٍّ. قال: ألا تعرف السارق يا مولاي؟ قال: نعم عرفته، فما هو إلا الكونتس دي وِنتر، فإنها دَنَتْ مني في رَقْصٍ أقامه الملك ثمَّ لم أرَها بعد ذلك ولم أَفْطِن لِلْعِقْد لو لم أنظره الآن، وهي لا شك رسول الكردينال، ولكن متى تكون ليلة الرقص في باريز؟ قال: يوم الاثنين القادم، أي بعد خمسة أيام. قال: تكفي، ثمَّ دعا بخادمه فقال له: عليَّ بصائغي وكاتم سري في الحال. فخرج الغلام ولم يغِب حتى دخل كاتم السر فوجد بيكنهام جالسًا يكتب، فقال له اللورد: تأخذ هذه الورقة إلى وزير المملكة ويجري بموجبها في الحال. فأخذ الرجل الورقة ونظر فيها وقال: إذا سألني الوزير عن أسباب ذلك وهو من خوارق العادة، فبِمَ أجيبه؟ قال: قُل له هكذا أريد. قال: قد يمكن أن يبلغ الأمر للملك يا مولاي ولا بدَّ من أن يعرف سبب منع الْفُلْك عن السفر من إنكلترا. قال: إذن فقل له إني عزمت على إشهار الحرب على فرنسا وإن ذلك أول علاماتها. فسلَّم الرجل وخرج. فالتفت اللورد إلى دارتانيان وقال: قد خلا لنا الجو، فلا يصل الْفَصَّان المسروقان إلا بعد وصولك إذا لم يكن سارقهما قد ذهب بهما. قال: وكيف ذلك؟ قال: قد أَمَرْتُ بمنع كل فُلْك عن المسير إلى فرنسا. فانذهل دارتانيان من ذلك وأخذ يعجب كيف أن رجلًا يثير الحرب في سبيل غرامه، فقال له اللورد: لا تعجب، فما لي آمر إلا حنة دوتريش، فإني صائرٌ إلى طاعتها ومجتهد في رضاها ولو نقمتْ عليَّ مُلوكُ الأرض وقبائلها، فقد قالت لي أن لا أرسل مَدَدًا إلى البروتستان في روشل فعُدت عن قولي وأطعتُها وعدلتُ عن إرسال الْمَدَد … وما أتم كلامه حتى دخل الصائغ، فأخذه اللورد إلى غرفته وأراه الفصوص وقال له: كم يسوى الفص من مثل هذه؟ قال: ألفًا وخمسمائة دينار. قال: وكم تستغرق في عمل اثنين منها؟ قال: ثمانية أيام. قال: أعطيك على كل فص ثلاثة ألف دينار بشرط أن تأتيني بهما بعد غد. قال: سأجهد نفسي في ذلك. قال: أحسنت، ولكن ألا تعلم أنك لا تخرج من هنا حتى تُتِمَّ العمل وأنا أُحضر لك كل ما يلزمك من أدوات وصُنَّاع. فرضيَ الرجل وأحضر ما احتاج إليه وأقام في غرفة في القصر يشتغل في الْعِقْد، والتفت اللورد إلى دارتانيان وقال: لقد أصبحت إنكلترا الآن لي ولك، فاطلب ما تشاء. قال: أريد مكانًا أنام فيه، فإني تعبٌ من السفر، فأخذه اللورد إلى غرفة بجانب غرفته فنام.
ولم يمضِ على أمر بيكنهام ساعة حتى أُقفلت المواني ومُنعت السفن من الذهاب إلى فرنسا، وشاع في المدينة قرب نُشوب الحرب بين الدولتين. وفي اليوم الثاني دعا اللورد بدارتانيان وقال له: قد انتهى الْعِقْد بحيث لا يُميَّز جديده من قديمه، فاشهد لي عند الملكة بأني لم أَدَعْ شيئًا تصل إليه قدرة الإنسان ولم آتِه في سبيل خدمتها، ولكن لا تأخذ الْعُلْبَة فإنها أثرٌ منها، ثمَّ ألا أَهَبُك شيئًا؟ قال: إنِّي لم أصنع ما يوجب الهبة، وليس عملي هذا إلا خدمة للملكة ولحبيبة لي أحبها وأظنك تعرفها، وهي التي كانت معك يومَ قابلْتك أول مرة. قال: عافاك الله، والآن تذهب بهذه الورقة إلى المينا وتسأل عن سفينة لي فيه، فتعطيها لربانها فيأخذك إلا ميناء لا يأوي إليه إلا الصيادون ويُدعى سان فري، فتنزل فيها وتذهب إلى رجل هناك فتقول له: «فور وارد»، فيعطيك حصانًا مسرَجًا فتركبه وتسير مسرعًا حتى تصل إلى رجل آخر في يده لجام جواد آخر، فتنزل عن جوادك وتركبه وهلمَّ جَرًّا إلى الأربعة، حتى تصل إلى باريز في قليل من الزمن، وهي أفراس من جياد الخيل تأخذها أنت وأصحابك الثلاثة، وأنا أستودعك الله، فاذهب والله يكلأك ويرعاك. فودَّعه دارتانيان وسار على ما رُسِمَ له حتى انتهى إلى باريز ودخل إلى منزل دي تريفيل عند الساعة التاسعة من النهار، فقابله بالترحاب وهنَّأه بالسلامة وقال له: إن فرقتك الحراس في اللوفر، فاذهب إليهم. فذهب.