ليلة الرقص
وفي اليوم الثاني شاع في المدينة خبر الليلة التي عزم الملك على إحيائها للرقص، وما صارت الساعة السادسة حتى توافد المدعوون إلى قاعة الرقص أفواجًا يخطرون في مطارف السندس والديباج والنساء يَمِسْنَ بالحلي والْحُلَل كأغصانِ بَانٍ على كُثْبان.
فلما كان نصف الليل علا الضجيج والتهليل لقدوم الملك، ثمَّ دخل الملك إلى القاعة تحفُّه السراة والأشراف وهو عابس الوجه مقطب الحاجبين، ولم يَدْرِ أحدٌ لذلك سببًا. وبعد دخول الملك بقليل عادت أصوات التهليل ترتفع، ثمَّ دخلت الملكة إلى القاعة وعلى وجهها سِمَاتُ الْكَدَر والتعَب، وكان الكردينال ينظر إليها نظرة الأسد إلى فريسته إذْ لم يَرَ عليها الْعِقْد، فأقامت الملكة بُرهة تسلِّم على الحضور، ثمَّ دخل الملك من أحد أبواب القاعة وإلى جنبه الكردينال يُكَلِّمه سِرًّا وهو يَتَلَوَّن، وأقبل حتى انتهى إلى الملكة، فقال لها: أين الْعِقْد يا حنة؟ ولماذا لا أراه عليك؟ فنظرت الملكة حولَها فرأت الكردينال واقفًا وراءها وهو يتبسُّم تبسم الأبالسة، فقالت خشيت يا مولاي أن يسقط مني فيضيع بين هذه الجموع. قال: لقد أخطأ زعمك، فما أهديتُك إلا لتلبسيه. وكان الملك يتكلم وصوته يرجف من الغضب، وكثر تحدث الناس بما يكون، فقالت الملكة: إذا شاء مولاي فإني أحضره من اللوفر في الحال. قال: نعم، وأسرعي، فإن ابتداء الرقص قد قرب. ثمَّ تركها وانحاز إلى الرجال وانحازت هي إلى النساء، وكان الناس منتشرين في تلك القاعة مَثْنَى وثُلَاثَ ورُبَاعَ يتحدثون بما كان وما سيكون وكلهم في رَيْب مما جرى. فدنا الكردينال من الملك وأعطاه عُلْبة ففتحها وإذا فيها فصَّان من الماس، فقال الملك: ما هذا؟ قال: إن عِقْد الملكة فيه اثنا عشر فصَّا وهذان منها، فإذا لَبِسَتْه الملكة فعُدَّ فصوصه. وفيما الملك يفكر في الأمر ولا يهتدي بَرَزَتِ الملكةُ بثيابِ الرقص تشرق كالشمس بهجةً وجمالًا بما عليها من اللباس والجواهر وعليها الْعِقْد يلمع كنجوم الثُّرَيَّا. فسُرَّ الملك لمرآه سرورًا شديدًا وعلا الاصفرار وجهَ الكردينال، ثمَّ بدأ الرقص ومالت القدود مَيْل الأغصان، فكان الملك كلما دَنا من الملكة ينظر إلى الْعِقْد فلا يتمكن من عَدِّ فصوصه، وبعد ساعة من الرقص تقدم الملك إليها وقال لها: لقد وجب لك علينا الشكر في امتثال أمرنا في الْعِقْد، ولكن ساءنا أنه ناقص فصين وها هما: فقالت الملكة: إذن يكون لنا أربعة عشر فصًّا، فإن الْعِقْد كامل يا مولاي. فنظر الملك إليه وعَدَّه فوجده تامًّا، فدعا بالكردينال وقال له: ما معنى ما قلت؟ قال: أحببت أن أُهْدِيَ الملكة هذين الفصين فلم أرَ لذلك سبيلًا غير هذا. فشكرتْهُ الملكة على ذلك وفي قلبها منه حزازات، وقالت: أُراهما قد كلِّفاك أكثر من كل الْعِقْد يا سيِّدي الكردينال. وهي بين ذلك تتبسم تبسُّم العارف بالأمر، حتى كاد الكردينال يموت حياءً منها، ثمَّ سلَّمت وخرجت تريد القصر، وكان الرقص قد انتهى وهمَّ دارتانيان بالخروج، وإذا بيد لمست كتفه، فالتفت فرأى امرأة مقنَّعة، فعرف من عينيها أنها حبيبته، فتبعها وسارت أمامه حتى بلغت القصر ودخلت؛ فدخل وراءها حتى انتهت به إلى غرفة مظلمة، فأودعته فيها وخرجت من باب آخر في جدارها. فأقام دارتانيان في تلك الغرفة بُرهة، ثمَّ سمع صوتًا يدنو منه ورأى يدًا قد مُدَّت من فرجة الباب، فعرف أنها يد الملكة، فركع وقبَّله، فتركت في يده خاتمًا وارتفعت، ثمَّ أُقفل الباب فأظلمت الغرفة ظلامًا شديدًا، فوضع دارتانيان الخاتم في إصبعه وأقام ينتظر حتى فُتح الباب ودخلت عليه بوناسيه، فصاح لرؤيتها من الفرح، فأسكتتْه وقالت: اخرج من حيث دخلْتَ. قال: ومتى أراك؟ قالت: تعرف ذلك من رقعة تجدها في منزلك، فاذهب الآن. فخرج.