أسباب الخصام
وبَيْنَا دارتانيان ينزل السُّلَّم على عَجَل لا يَلْوِي على شيء صَدَمَ كَتِفَ أحدِ الحراس فصاحَ صَيْحَة الألم، فالتفتَ إليه دارتانيان واعتذَر واستمَرَّ في النُّزول، فلم يشعر إلا والرجل قد قَبَضَ على طَوْقِه من خلف فأوقفه وقال: لا تظن أن اعتذارك يُغني عنْكَ شيئًا، فأنا ممَّن لا يُؤخذون بالاعتذار، بل أظنك سمعتَ دي تريفيل يَزْجُرنا فظننْتَ أننا سواءٌ لدى الجميع، لا واللهِ فقد كَذَبَكَ فَأْلُك، فما أنتَ بالقائد. فنظر إليه الشابُّ وإذا به أتوس الجريح وكان قد خرج من لَدُن الطبيب، فقال له: اغْتَفِرْها أيها الرفيق، فإنها زَلَّة عن غير عَمْدٍ دعَتْني إلى الاعتذار، ولعله يقوم بخَطَائي لديك، فدَعْني يرحَمُك الله فأنا أسعى إلى أمرٍ. فتركه وقال: يظهر لي أنك فتًى غِرٌّ لا تعرف من الأدب شيئًا وهو ما يقوم لك مقام العذر. فقال دارتانيان — وقد بلغ غاية السُّلَّم: لم آتِ واللهِ من بلادي تَخْفِضُني أرضٌ وتَرْفَعُني أخرَى لأتعلَّمَ الأدبَ من أمثالك، ولو لم أكن مستعجلًا ما رأيتَني مُدْبِرًا عَنْك. قال: وأين ألقاكَ غيرَ مُدْبِر؟ قال: على مقربة من كارم ريشو عند الظهر. قال: أنصفْتَ، فلا تُخْلِف الموعد. قال: نعم. ومضَى يَعْدُو حتى بلغ الباب، وكان بورتوس واقفًا في الباب يخاطب رجلًا، فمرق دارتانيان من بينهما مُروقَ السهْم، وكان الهواء قد نشر عباءة بورتوس فجاءت في وجه دارتانيان فحالت دونه ومنعته من الذهاب، فجذبها بورتوس، فالتفَّتْ على الفتى فعَلِق فيها وجعل يُنَاوِصُها وقد غطَّت على بصَره، فصاح به بورتوس: وَيْحَكَ ما هذا؟ أَتُلْقِي بنفسِك على الناس؟ قال: العفو يا سيِّدي، فإني أطلب أمرًا خطيرًا يَقْضِي عليَّ بالعجَلة. قال: ليس ذلك بعذرٍ، أفتَعْمَى عن الناس إذا عدوت؟ قال: لا، بل أرى ما لا يَراهُ غيري. قال: إنك لَوَقِحٌ أيها الشاب. قال: أَقْصِرْ، فمتَى ألقاكَ بغير عباءة. قال عند الساعة الواحدة بعد الظهر وراء ليكسمبرج. قال: نعم. ومضَى يفَتِّش في الشارع فلم يَجِدْ أحدًا، فطاف كلَّ ما حولَه من الطُّرق والْأَزِقَّة فلم يقف لِخَصْمِهِ على أثَر، فعاد وهو يفكر في أمره كيف أنه وقع برجلين من الحرس يهزم الواحدُ منهما جيشًا، ثمَّ أخذ يلوم نفسه على خِفَّتِه وطَيْشه، ثمَّ وطَّن نفسه على الْبِرَاز، وأقبل وهو يقول: صدق من قال:
ولم يَزَلْ سائرًا حتى وصل إلى فندق أكويلين، فرأى عنده أراميس يحادث ثلاثة من النبلاء من حراس الملك، فعرفه وتقدم مسلِّمًا عليه، فأجابه وأمسك عن المحادثة، فوقف الفتى حائرًا لا يدري فيما يأخذ من الكلام مع قوم لا يعرف إلا واحدًا منهم بالنظر، وفيما هو كذلك سقط من أراميس مِنْدِيل ثمَّ داس عليه على غير عَمْد، فتناوله دارتانيانُ من الأرض وأعطاه للحارس، وكان الْمِنْدِيل موشًّى بالذهب، فقال له أحد أصحابه: أتقول إن عشيقتك بواتراسي غاضبة عليك وأنا أرى مناديلها بين يديك؟ فنظر أراميس إلى دارتانيان نظرة الغضب وقال للرجل: غلطتَ يا سيِّدي، فإنه ليس لي ولا أدري كيف اختصني به هذا الشاب من بينكم، فإن مِنْدِيلي معي. ثمَّ أخرج مِنْدِيلًا آخر من جيبه، فقال له أحدهم: إذا صحَّ زعمك فإن لي حقًّا في أخذه منك لأن صاحبته من ذوي قُرْبَاي. قال: إنك غير مصيب في طلبك ولا يحكم لك به شرع. فقال له دارتانيان: إنِّي — والحقُّ يُقال — لم أرَ الْمِنْدِيل قد سقط من جيبه، سوى أني رأيته تحت رِجْله فحسبته له. فقال أراميس للرجل: إذا كانت الامرأة من ذوي قُرْباك فأولى للمِنْدِيل أن يكون قد سقط منك. قال: لا وأقسم بالله. قال: إن حلفك لا يُغْني، فلْنَجْرِ في الأمر على حُكْمِ سليمان — عليه السلام — ونقسم الْمِنْدِيل إلى شَطْرَيْنِ. فضَحِكَ القومُ منه ثمَّ ودَّعُوه وانصرفوا، وانصرف هو من جهة أخرى، فتبعه دارتانيان وقال: اغْتَفِرْها يا مولاي، فالمرءُ مَوْطِنُ الزَّلَل. قال: صدقْتَ، ولكنك لم تَجْرِ في فعلك على سُنَّة الأشراف والنبلاء لأنك لا تجهل أن الرجل لا يدوس مِنْدِيلًا بغير قصد، فليست باريز مفروشة الأرض بالنسيج. قال: أَمَا واللهِ لقد عَدَوْتَ الصواب على إغلاظك في الجواب، وأنا لا أُطِيق ذلك ولا صَبْرَ لي عليه. قال: إنِّي لست ممن يحبون المشاكل إلا إذا مسَّت الحاجة، وأرى الحاجة تدعوني إليها الآن، فما الذي دعاك إلى أن تُعطيَني الْمِنْدِيل؟ قال: وأنت فماذا دَعاك إلى أن تسقطَه؟ قال: قلت لك إنه ليس لي. قال: تكذب، فإني رأيته ساقطًا منك. قال: لقد تجاوزْتَ حَدَّ الوقاحة، فلم يَعُدْ يَرُدُّكَ غير السيف وهو أعدل حاكم. قال: فهيا بنا. قال: ليس هنا مكان الْبِرَاز، أفما ترى الناسَ تختلف إلى الفندق وهو مكتظٌّ برجال الكردينال، ولكنا نذهب إلى مكان لا ينفع فيه الاستصراخ، وسأراك لذلك في منزل دي تريفيل، وأنا ذاهب الآن إلى موعد ضَرَبْتُه. ثمَّ انصرف وسار دارتانيان إلى كارم ريشو حيث واعد الحارسين.