قصة أراميس وامرأة أتوس
فسار دارتانيان إلى كرافكور بدون أن يُعْلِمَ بورتوس بشيءٍ من أمره، فوصلها وسأل صاحبة الدار عن صاحبه فقالت: هو في الغرفة الخامسة وعندَه قسِّيسان. قال: هل ذلك لِخَطَرٍ؟ قالت: لا. فصعد حتى دخل الغرفة فوجد أراميس جالسًا بين اثنين من الْحَوَارِيِّينَ، فسلَّم عليه وقال: كِدْتُ أرجع عن غرفتك يا أراميس. قال: ولِمَ ذلك؟ قال: لأني حَسِبْتُها دَيْرًا للرُّهْبان، ومع ذلك فأنا ذاهب عنكم لأني أظنك تعترف لهما. فجعل القسيسان يُصَوِّبانِ نظرَها فيه ويُصَعِّدَانِهِ وقد أَحْفَظَهُما قولُه، فأخذا يجادلانه في الدِّين ويجادلهما، وطال بهما الحديث من هذا النوع حتى فرغت كنانةُ الكلام، فقاما وانصرفا، فلما خلا الجو قال دارتانيان: أراك شديد الاستمساك بعُرى الدين، وما أعهد ذلك برجال الحرب. قال: هو طريق الأخرى يا بُنَيَّ، فلا ينبغي أن تَتَنَكَّبها. ودار بينَهما الكلام من هذا النحو، فأخذ أراميس يَقُصُّ عليه قصته، فقال: كنت في صِبَايَ أَمِيل إلى الرهبانية حتى دخلْتُ أحدَ الأديرة فأقمتُ فيها زمانًا، ثمَّ عَرَضَ لي يومًا أنْ عَلِقْتُ امرأةً فعرض لي رجل آخر من الْجُند وتَهَدَّدني بالقتل إذا عُدْتُ إليها، فأخذ مني ذلك وكَبُرَ عليَّ أمرُه فتركت الدَّيْر وذهبْتُ إلى باريز فتعلَّمْتُ ضَرْبَ السيف حتى حَذَقْتُه ثمَّ عَدْتُ إلى الرجل فبارزْتُه فقتلْتُه، وكنت قد تعرفت بأتوس وبرتوس فسعيا لي في الدخول في حرس الملك، وكان الملك مُحِبًّا لي لأن أبي قُتِلَ في إحدى الحروب تحتَ إمْرَتِه؛ وعلى ذلك فلا يزال في قلبي بعض الأثر للرهبانية. ثمَّ بدأ دارتانيان يقصُّ عليه قصة حبيبته وكيف خُطِفت، فوعده بالمساعدة. فبات عندَه ليلتَه تلك وقام في الصباح فركب وإياه متحامِلًا من أثر جرحه وسارا، ولم يبعدا عن القرية حتى اصفرَّ لون أراميس وكاد يسقط عن جواده، فعاد به دارتانيان إلى غرفته وسار بخادمه وهو يفكِّر في أتوس وفي نفسه منه هاجس؛ لأنه كان شديد الميل إليه لعراقته في النسب ودعة أخلاقه وشدة بأسه وحذقه في ركوب الخيل واستعمال السلاح، فبلغ أميان وسأل صاحب الفندق عن أتوس وما جرى له فقال: أعلمَتْني الحكومة يا مولاي أنه سيأتيني رجلٌ بلباس الحراس ومعه رفاق له وأنه مزيف للعملة، وقالت لي متى جاءك هذا الرجل أخْبِرْنا، فلما قدمتم لم يَعُدْ عندي شك في أنكم بُغْية الحكومة، فأخبرتها، فبعثت بجنودها فقَتَلَ منهم صاحبُك جملة، ثمَّ ضايقوه بكثرتهم فوجَد وراءَه بابَ بيتِ الذخيرة فدخله وأقفل عليه الباب ومعه خادمه، ولم يَزَلْ إلى الآن فيه يأكل من مئونة الفندق ويشرب من خمره ولا يأذن لأحد بالدخول عليه، وقد صِرت لذلك في أشد الضيق لأن مئونة الفندق كلها في ذلك البيت حتى أَمْلَقْتُ يا مولاي وتعطَّل فندقي لعدم وجود الغذاء فيه للمسافرين، وقد جاءنا اليوم رجلان من نبلاء الإنكليز وطلبا مني خمرًا فأعلمتهما بالأمر فتوجها إليه ليغتصبا البيت منه، وها هما الآنَ على الباب يساورانِه ليدخلا إليه. فسار دارتانيان فوجدهما يتذمران ويُزْبِدان وهما يريدان أن يكسرا الباب، فأخرج دارتانيان غَدَّارته من حزامه وقال: واللهِ لئن لاح منكما سلاحٌ لأذهبن بنفسيكما. فتقدم أحدهما إلى الباب وركضه برجله، فقال دارتانيان لخادمه: عليك بالرجل الذي أمامك وأنا لهذا. فصاح أتوس من داخل: إنِّي أسمع صوت دارتانيان واللهِ. قال: نعم، هو أنا أيها الصديق. قال: ألا تأذن لي فأقتلهما. فتقدم دارتانيان إلى الرجلين وقال لهم: أَغْمِدا سيفيكما، وأنت يا أتوس فرُدَّ غَدَّارتك إلى مكانها، فما من العدل أن نقتلَكما ونحن ثلاثة وأنتما اثنان، وأنا أضمن لكما أنكما تشربان، ثمَّ تقدم دارتانيان إلى أتوس ففتح له الباب وعانقه، فرآه يخمع في مشيته فقال: هل أنت جريح؟ قال: لا، ولكني في سُكْر لا سُكْر بعدَه لكثرة ما شربت. فأخذه دارتانيان وصعد به إلى غرفته، ودخل صاحبُ الفندق وامرأته يتفقدان المئونة، ثمَّ علا صياحهما وصعد الرجل إلى الغرفة فقال له أتوس: هات باطِيَةً من النبيذ. قال: وهل أبقيتَ يا مولاي نبيذًا إلا شربتَه أو باطِيَةً إلا كَسَرْتَها أو سائلًا إلا أَرَقْتَه؟ فما كان ضرَّك لو أبقيت على ذلك ووفرت لي أسباب المعيشة؟ فقال له دارتانيان: لا عليك، فقال أتوس: وأين الكيس الذي تركتُه هنا؟ قال: أخذناه يا مولاي إذ ظننا أنه من النقود المزيفة التي وُشِيَ عليك بها، فقال دارتانيان: وأين حصانُك يا أتوس؟ قال: في المربط، فقال لصاحب الفندق: خذ الكيس والحصان وحقك قد وصلك، فقال أتوس: وكيف أسمح بفرسي؟ وعلامَ أذهب؟ قال: قد أتيتك بغيره، فقال أتوس للرجل: إذن فخُذِ الجواد لنفسك وخذ للرجلين الإنكليزيين ما يشربان، فإن في البيت بَوَاطِيَ بَعْدُ. فذهب صاحب الفندق وأخذ دارتانيان يقصُّ على صاحبه كيف وجد بورتوس وأراميس إلى أن قال أتوس: وأنت ماذا جرى لك؟ فقصَّ عليه قصة بوناسيه واختطافها، قال: لقد أخطأتَ في العشق فأنا لا أحب أبدًا. قال: ولِمَ ذلك؟ قال: لأن الحب راحته عَناء وأوَّله سقمٌ وآخِره قتلٌ، وأنا أقصُّ عليك الآن قصةً جرت لأحد أصحابي لا لي، وهو رجل بارع في الشرف أحَبَّ فتاة وهام بها، وهي فقيرة تسكن بيتًا حقيرًا مع أخٍّ لها حَوَارِيٍّ، فلما طال عليه الأمر وبَرَّحَ به الحبُّ خطبها إلى أخيها فتزوجها منه حتى إذا كان يومًا يصيد وإياها جَفَلَ بها فرسُها فوقعت وأُغْمِيَ عليها، فنزل زوجها وفَكَّ أزرارها عن صدرها لِتُفِيقَ فوجد على كَتِفِها رَسْم زهرة زَنْبَق كَمِيسَم البعير وهي علامة الفجور والْخَنا، فقاتل الله النساء ما أشد فجور الفاجرات منهن، فأخذها الكونت زوجها وقد بلغ به الغيظ منها مبلغًا عظيمًا وشنقها في شجرة … وما أتم كلامه هذا حتى اصفرَّ لونه اصفرارًا شديدًا وأكب على المائدة كالمصعوق وقال: ذلك ما بغَّض النساء إليَّ. قال: وما صنع أخوها؟ قال: لم يكن أخاها بل كان عشيقَها قاتله الله وإياها، فلما ماتت انصرف هاربًا ولم أَدْرِ ماذا حلَّ به بعد ذلك. فارتاع دارتانيان لهذه الحادثة وجعل يقلِّب أفكاره فيها لعلها جرت مع أتوس نفسه وهو لا يهتدي إلى وجهها حتى نام.