العودة إلى باريز
فلما أفاق دارتانيان ذهب إلى صديقه أتوس وجعل ينظر إليه نظرة المندهش من حديثه بالأمس، ففطن أتوس لذلك وقال: لقد كنتُ أمس ثملًا جدًّا ولا أدري بما تفَوَّهْت. قال: قصصت عليَّ قصة عجيبة. قال: نعم. وقد صَبَغَ الحياءُ وجهَه وغيَّر الحديث فقال: أتدري ما جرَى بالجواد الذي أَتَيْتَنِي به؟ قال: لا. قال: سهدْتُ ليلةَ أمس فنزلت إلى قاعة الفندق فوجدت صاحبينا الإنكليزيين يتقامران، فقامرتهما فخسرت الجواد، فهل لك أن نلعب الآن فعسانا نسترده، وإن شئت فبِعْ هذه الجوهرة التي تحملها وقامِر بها. قال: ذلك لا يكون أبدًا ولا أفرِّط بهدايا الملوك. فما زال به أتوس يحاوله ويجادله حتى لَعِبَ بما معه من النقود فأعاد كل ما خسره صاحبه، ثمَّ ركبا وخادماهما معهما وساروا حتى بلغوا كرافكور، فرأوا أراميس قائمًا في نافذة غرفته، فلما رآهم نزل وسار معهم حتى بلغوا مقرَّ بورتوس فوجدوه قد شُفيَ من جرحه، فأقاموا عنده رَيْثَما استراحوا ثمَّ ركبوا وإياه وساروا إلى باريز. ودخل دارتانيان منزله فوجد فيه رسالة من دي تريفيل يشير فيها إلى أن الملك قد عيَّنه في حرسه إلا أنه أبقى ذلك إلى ما بعد انتهاء الحرب في روشل، ثمَّ جاءهم دي تريفيل فهنَّأهم بوصولهم وأمرَهم بالتجهُّز للحرب، فوجدوا أنه يلزم لكل واحد منهم ألف وخمسمائة دينار، فأخذوا يَسْعَوْنَ في جمعها بعد إذ تعاهدوا على حفظ الوداد وأن كلًّا منهم يبذل نفسه في سبيل صلاح صاحبه.
فلما كان ذات يوم ودارتانيان يسير في بعض الأسواق لمح بورتوس فتَبِعَه وهو لا يراه ليطَّلع على بعض شأنه، فدخل بِيعَةً ودخل دارتانيان وراءَه، فتقدَّم بورتوس وجلس على مقربة من امرأةٍ وجعل يخالسها النظر، وكانت لابسة ثوبًا أسود وعلى مسافةٍ منها امرأة أخرى لابسة ثوبًا أبيض وهي أجمل من الأولى، فانجذب بورتوس بجمالها وترك ذات الثوب الأسود وزاحم الناس حتى جلس بالقرب منها، فجعلت صاحبته تنظر إليه وإليها نظرة الغيور. وكان دارتانيان قد عرف أن الامرأة ذات الثوب الأبيض ميلادي التي رآها في مينك، وأن الأخرى هي عشيقة بورتوس وساكنة في شارع أرومس. فلما فرغت الصلاة قام بورتوس وخرج وهو ينظر حولَه، فظنَّت صديقته أنه يفتش عليها، ثمَّ استاءت لَمَّا رأتْه قد وجَّه نظره وجعل يُحَدِّق بميلادي، فدنت منه وقالت: ما أدري واللهِ ما الذي صرف وجهَك عنَّا؟ فالتفت إليها مسلِّمًا يسائلها عن حالها وعن زوجها، وهو يعتذر بأنه لم يَرَها، فأخذتْ بيدِه وسارت إلى بيتها تعاتبه وتشكو له مرارة الغيرة وألم النَّوَى وهو يشكو له مثل ذلك حتى أوصلها إلى بيتها، فوعدها أنه يأتيها في الغد وودَّعها وذهب.
أما دارتانيان فتبع ميلادي إلى خارج الْبِيعَة فصعدت إلى عربة حسنة الإتقان تَجُرُّها أفراس من جِيَاد الخيل، وقالت للسائق: انطلق بي إلى سان جرمن. فلبَّى وانطلق، ويئس دارتانيان من لحاقها لأنه راجِلٌ، فأمر خادمَه بإسراج جوادين، ثمَّ سار إلى بيت أتوس فقصَّ عليه كل ما جرى فقال: أنا قليل الرغبة في مثل ذلك، فقال: إن النساء لا تصبو إلا لأمثالك لما فيك من الصفات المحبوبة، وأنا أعجب منك ومِنْ فَرَكِكَ لهنَّ. قال: ذلك لِمَا أخبرتُك به. وفيما هما كذلك دخل بلانشت يقول لدارتانيان إنه قد جاء بالجوادين، فقال له أتوس: ما هذان الجوادان؟ قال: أريد أن أذهب إلى سان جرمن في نزهة، ثمَّ قصَّ عليه قصة ميلادي وقال: إنِّي أريد أن أتبعها، فإن قلبي يحدِّثني بأن سيكون لي معها شأن. قال: يظهر لي أنك سَلَوْتَ عن بوناسيه. قال: مَعاذَ النهى، إنها واللهِ أقرب إليَّ من نفسي، ولكني أجهل مكانَها ولو عرفتُه لخَلَّصْتُها ولو كانت بين أنياب الأسود. ثمَّ خرج وركب هو وخادمه وسارا في طريق سان جرمن وهما ينظران إلى النوافذ ويتصفحان وجوه المارَّة، حتى قال الخادم: أترى يا مولاي هذا الغلام الواقف لدى الباب؟ قال: نعم، وأذكر أني رأيته. قال: هو خادم الكونت دي ويرد الذي ربطناه إلى الشجرة في كاله. قال: عرفْتُه، وما أظنه تثَبَّتَ في معرفتك لشدة اضطرابه وخوفه يومَئذٍ، فهل لك في أن تَقُصَّه عن سيده؟ قال: نعم. وذهب وأخذ يحادث الغلام ويخوض معه في أفانين الكلام وإذا بعربة ميلادي مقبلة حتى وقفت قُبَالة الخادمين، فأعطت ميلادي وصيفتها ورقة، فأقبلت الفتاة تريد الغلامين، وفيما هي مقبلة إذا بصوت يدعو خادم الكونت فدخل، ووصلت الفتاة فلم ترَ أمامَها إلا خادم دارتانيان فأعطتْه الورقة وعادت وهي تظنه خادم الكونت ويرد، وقالت له: أَعْطِها إلى سيدك في الحال، ثمَّ ركبت العربة وانطلقت.
إن أحد من يهمهم أمرك يريد أن يعرف متى تقدر أن تخرج إلى الغابة، ويأخذ الجواب منك غدًا في فندق راية الذهب غلام أحمر الثياب. والسلام.
فأسرَّ دارتانيان ذلك في نفسه وقال للخادم: ما الذي علمتَهُ من الكونت ويرد؟ قال: علمت أنه مريض ولكنه قد قارب الشفاء. قال: فهَلُمَّ نَتَتَبَّع العربة. فركبا وسارا حتى أدركاها وقد وقفتْ ولدى بابها فارسٌ إنكليزي يحادث ميلادي باللغة الإنكليزية، فلم يفهم دارتانيان شيئًا، ولكنه رأى في لهجة ميلادي ما يدل على الغيظ، فدنا من نافذة العربة وقال لها: أراك يا سيِّدتي حنقة من هذا الرجل كأنه يُهِينك، فإن كان ظني مصيبًا أفتأذنين لي بتأديبه؟ فنظرت إليه مندهشة من تهجمه وقالت له باللغة الفرنسية: لا يا مولاي فإنه أخي. قال: إذن فاعذريني فقد أخطأت. وكان الفارس الإنكليزي قد غضب من مداخلة دارتانيان وغلظته له، فأخذ يشتمه وينازعه والعربة حائلة بينهما. وكانت المحادثة بين ميلادي وبينه قد انتهت، فسارت العربة والتقيا فتواعدا لِلْبِراز وراءَ ليكسمبرج عن الساعة السادسة، وأخبره دارتانيان عن اسمه، فقال له: وأنا اللورد ونتربارون دي سيفيلد، ثمَّ افترقا على أن يأتيَ كلٌّ منهما بشهود ثلاثة.