الفصل السابع والعشرون
الوصيفة والسيدة
ولم يَزَلْ دارتانيان يزداد غرامًا بميلادي وحُبًّا لها ومَيْلًا إليها بالرغم عن
نُصْح
أتوس وإنذاره، حتى إذا كان ليلةً ذاهبًا إليها اعترضتْه الوصيفة كاتي في الدار وقد صبغ
الحياء خدَّيْها وقالت له: ألا تأذن لي بأن أكلِّمَك قليلًا؟ فظنَّ دارتانيان أن معها
كلامًا من سيدتها، فقال: نعم فقولي. قالت: هو كلام يطول مَأْخَذُه وسرٌّ يجب كتمانه
فاتبعني. وقادته بيدِه في سلم صغيرة، ثمَّ دخلت به إلى غرفة، فقال لها: ما هذا؟ قالت:
هي
غرفتي ولها باب إلى غرفة سيِّدتي، ولكن كن على ثقةٍ من أنها لا تسمعنا فهي لا تنام إلا
عند
منتصف الليل. فجعل دارتانيان ينظر إلى باب الغرفة نظرات علمت كاتي معناها، فقالت: أراك
شديد
الشغف بسيدتي. قال: نعم، وهو شغف ما وراءه شغف. فتنفست الفتاة وقالت: يا لضيعة الحب.
قال:
كيف قلتِ؟ قالت: إن سيِّدتي لا تحبك مِثْقالَ ذَرَّة. قال: وهل قالت لك ذلك لِتُبْلِغينيه؟
قالت: لا، ولكني علمْتُه، فدعاني حبي لك وغيرتي عليك إلا أن أقولَه لك. قال: إنِّي لا
أكاد
أصدِّقه، فهل لقولِك من دليل؟ قالت: نعم. وأخرجت من جيبها رسالةً وقالت: خُذْ فاقرأ لعلك
تَتَذَكَّرَ أو تَخْشَى. فنظر الفتى في الرسالة فرآها بعنوان الكونت ويرد، ففضَّ ختامَها
فصاحت به الفتاة فلم يلتفت إلى قولها وقرأ:
لقد أرسلت لك رسالة قبل هذه فلم تُجِبْني عليها، ولعل ذلك لأحد أمرين: أن يكونَ
قد زاد بك الألمُ أو أنك نَسِيتَ اجتماعَنا وحبنا في بيت دي كيز، فإن لم يكن شيئًا
من ذلك فهذه أحسن فرصة فاسْتَفْرِصْها. والسلام.
وما أتمَّ قراءة الرسالة حتى اصفرَّ لونُه وقَرَصَتْه الْغَيْرة، فقالت له الفتاة:
لا
ألومك يا سيِّدي، فقد ذقت مثلك طعم الحب. قال: إذن فأعينيني على الانتقام من سيدتك وقَتْل
عشيقها. قالت: أما الأول فنعم، وأمَّا الثاني فلا أساعدك عليه أبدًا لأمرين، أولهما أن
سيِّدتي لا تحبك فتكون قد ظلمْتَ الرجل بقتلك إياه على غير طائل منها، والثاني لا أقوله
لك
إلا إذا عرفْتَه أنت من نفسك. فمال إليها وقبَّلها، فاحمرَّت وقالت: هذا هو السبب الثاني؛
أنك لا تحبُّني. فذكر الفتى عند ذلك كل ما كان يراه منها، فقال: لا واللهِ بل أحبك وإذا
شئت
دليلًا على ذلك فأنا أصرف عندَك الوقت الذي أصرفه عند مولاتك، فقالت: مرحبًا بك يا سيِّدي،
ثمَّ أجلسته على كرسيٍّ وجلست إليه، فجعل يحادثها ويغازلها حتى انتصف الليل، وإذا بحركةٍ
في
غرفة ميلادي، فقالت الفتاة: اخرج يا سيِّدي غير مطرود، فإن سيِّدتي تدعوني. فأخذ قبَّعته
وبدلًا من أن يخرج من الباب دخل في خزانة كانت هناك مُعلَّقة فيها ثياب ميلادي وأقفل
بابَها
عليه. ودخلت كاتي على ميلادي فأخذتْ تلومها على إبطائها، ثمَّ قالت لها: أرأيت أن صاحبنا
لم
يأتِ الليلة، فما تَرَيْنَه فعل؟ قالت: لا أدري، لعله أخلف الميعاد. قالت: لا، وما أظنه
إلا
عاقه أحد، ولكن رويدًا فإن لي عليه ثأرًا ولا بدَّ من الانتقام منه. قالت: عجبًا يا
سيِّدتي، كنت أظنُّكِ تُحبينه. قالت: بل أَمْقُتُه إذ قد وقع اللورد ونتر في يدِه ولم
يَقْتُلْه لكي يَبْقَى الميراثُ لي وَحْدِي. قالت: صدقْتِ، فأنت الوريثة الوحيدة بعد
ابنك.
قالت: نعم، وفوق ذلك فقد أوصاني الكردينال بقتله، فإن اختطاف خليلته لم يَشْفِ لي غليلًا،
فاخرجي الآن وإياكِ أن تَنْسَي الرسالة. فخرجت وأقفلت الباب بالْمِفْتاح بحيث لم تشعر
ميلادي. وكان دارتانيان قد أثَّر فيه كلامُها تأثيرًا شديدًا، فامْتُقِعَ لونُه واكفهرَّ،
وريثَما دخلت كاتي خرج من الخزانة، فنظرت إليه وقالت: ما لَكَ مُصْفَرَّ الوجه؟ فقال:
لعنة
الله عليها ما أشدَّ دهاءها. قالت: نَشَدْتُكَ بالله بالخروج فإنها تسمعنا. قال: وأنا
لذلك
لا أخرج أو أخرج بعد قليل. ثمَّ أخذ يداعب الفتاة ويلاعبها ويسألها عن خبر بوناسيه وهي
تُقسم أنها لا تعرفها ولم تسمع غير اسمها حتى مضَى هَزِيعٌ من الليل، فقام وخرج. ولما
كان
اليوم الثاني عاد إلى ميلادي وأقام عندَها مدة ثمَّ خرج، فأصاب كاتي على الباب، فأخذته
إلى
غرفتها فلبث عندها إلى الفجر، ثمَّ ذهب إلى بيته، وما كاد يستقر فيه حتى رأى كاتي مقبلة
في
يده رسالة باسم الكونت ويرد، فقرأها وإذا بها:
هذه هي المرة الثالثة التي أكتب لك فيها بأني أحبك، فاحذر أن أكتب لك في الرابعة
أني أمقتك. والسلام.
ثمَّ التفت إلى الفتاة فرآها تنظر إليه نظرة الغيور، فقال لها: لا أحب سواك ولا بدَّ
لي
من الانتقام من هذه الفاجرة، ثمَّ أخذ القلم وكتب:
وردت عليَّ رسائلك، وأنا في رَيْب من أنها مِنْكِ لي لشدة شغفي بك على عدم وصولي
إليك فضلًا عما أقاسيه من ألم الجراح. فأَمَا وقد تحسَّنَتْ صحتي بحمد الله وتيقنت
أنك تحبينني فسأكون عندَك الليلةَ في الساعة الحادية عشرة إن شاء الله
تعالى.
الكونت ويرد
وقد كتب دارتانيان ذلك معتمدًا على الباب المنفتح بين الغرفتين ليفرَّ منه إذا انكشف
أمره، وقد صمم على إتيانها بدلًا من الكونت، ثمَّ أعطى الرسالة لكاتي وحذَّرها من أن
يظهر
عليها ارتباك تفطن له مولاتها، ثمَّ صرفها بعد إذ وعدها بأنه يزورها في ليلته.