حراس الملك وشرطة الكردينال
ولم يكن دارتانيان يعرف أحدًا في باريز لقرب عهده فيها، فلم يصحب معه شاهدًا لِلْبِرَاز، فلما بلغ ساحة الدَّيْر وَجَدَ أتوس قائمًا بانتظاره، فقال له: لقد قلتُ لاثنين من رفاقي أني سأبارزك ودعوتهما للشهادة ولم يَأْتِيا بَعْدُ، وليست تلك عادتهما. قال دارتانيان: أما أنا فلا شاهد لي ولا أعرف سوى دي تريفيل، فقال له أتوس: إنِّي أخشى إذا قتلْتُك أن يُقال عني أني أبارز الصِّبْيان. قال: لا واللهِ، فما تُبارز إلا كفؤًا كريمًا يَبُوء بالملوك. قال: ذلك لأن كتفي الأيمن مصاب يَضْطَرُّني إلى حَمْل السيف بالْيُسْرَى بحيث أصير نصفَ رَجُل، ولكن لا بأس، فقد تعودْتُ على مِثْل ذلك، فهَلُمَّ نتحدث إلى أن يأتيَ الشاهدان، ولكن جازاكَ الله فقد آلَمْتَني بصدمتك. قال: ألَا تأذنُ لي بشفائك؟ قال: بلى، فما ذاك؟ قال: إن عندي مَرْهمًا عجيبًا يُسرع في بُرْء الْجُرْح، فلا يمضي عليك ثلاثة أيام حتى تتعافى بإذن الله. قال: جزاك الله خيرًا، واللهِ إنها لَأخلاقُ الأشراف تظهر من فعالك، ولكن قد طالت غَيْبَة الشاهِدَيْنِ، فما ترى؟ قال: لا أرى لك إلا أن تذهب لشأنك إذا كان لك ما يدعوك؟ قال: لا، فهذا أحد الشاهدين. فالتفت دارتانيان فرأى بورتوس مقبلًا، فقال: إنِّي أرى بورتوس. قال: وما عليكَ منه؟ ثمَّ التفت فرأى أراميس فقال: وهذا أراميس، فقال: وهو شاهدُك أيضًا؟ قال: نعم، فنحن ثلاثةٌ في واحد حتى نكاد نكون كنَدْمَانَيْ جَذِيمَة لو لم نكن ثلاثة. وكان بورتوس قد وصل فسلَّم على أتوس ثمَّ نظر إلى دارتانيان ووقف منذهلًا، ثمَّ قال: ما هذا؟ قال: إنِّي أبارزه. قال: عجبًا، وأنا دعوته لِلْبِراز، ثمَّ وصل أراميس وقال: وأنا أبارزه أيضًا، فما سبب بِرازك له يا أتوس؟ قال: لأنه صدمني في كتفي فأوجعني، وأنت يا بورتوس، فلِمَ بِرازك؟ فخَجِلَ وتَلَجْلَجَ لسانُه، فسأل أراميس، فأشار إلى دارتانيان أَنِ اكْتُمْ أَمْرَ الْمِنْدِيل وقال: إنِّي أبارزه لِأَمْرٍ جرَى لي معه يتعلَّق بالدين. فتقدم دارتانيان وقال: أسألكم عفوًا يا قوم، فإني واعدت أتوس أوَّلًا وقد يقتلني فأكون قد أخلفت وعدي لكما في عدم الْبِراز، ثمَّ شهر سيفه ووقف، فاستل أتوس سيفَه وتقدم إليه، وإذا بفريق من شرطة الكردينال قد طلع عليهم يتقدمهم رئيس لهم يُقال له دي جيساك، فصاح بورتوس وأراميس بالمتبارِزَيْنِ: أَغْمِدَا سَيْفَيْكُما؛ فقد طلعت علينا شرطةُ الكردينال. وكانت رجال الكردينال قد دهمتهم فلم يَعُدْ لهم سبيلٌ للتستر، فصاح دي جيساك برجاله وتقدَّم وقال: أفي مِثْل هذا المكان يكون الْبِراز أيها الحراس؟ فقال له أتوس: دَعْنا في شأنِنا وامْضِ لشأنِك، فإنَّا لو رأيناك في مثلِ حالنا هذه ما منعناك. قال: إن ذلك لا يكون، وأنا مسئول في أمركم، فاتبعوني إذا شئتم، فقال أراميس: لقد كُنَّا نود أن نَتْبَعك لولا يدٌ فوق يَدِنا تمنعنا، فاذْهَب فهو خيرٌ لك. قال: إنِّي لا أبخل عليكم بالقوة إذا جُدْتُمْ بالمعصية. فهمس أتوس في أذن أصحابه: إننا ثلاثة وهم خمسة، وقد آلَيْتُ أن لا أرجعَ أو أقتلَ فهو خيرٌ لي من أن ألقى القائد مخذولًا، فاحملوا، فكم من فئةٍ قليلة غلَبت فئةً كثيرة، والنصر بيد الله يُؤْتِيه مَنْ يشاء. فلَبِثَ دارتانيان حائرًا لا يدري على أي جانبيه ينقلب، بين حرس الملك وشرطة الكردينال، ثمَّ تقدَّم إلى الحراس فقال لهم: سمعتكم تقولون إنكم ثلاثة وأنتم أربعة، فقال بورتوس: أنتَ لستَ منَّا. قال: لئن لم يكن لي لباسكم فإن بين جَنْبَيَّ قلبًا حرسيُّ الأصل. فزجره دي جيساك وقال له: اعْدِلْ عن رأيك، فما لك وللتغرير بنفسك فيما لستَ مِنْ سَيْلِهِ ولا مَطَرِه. فلم يلتفت دارتانيان إليه، بل تقدم إلى أصحابه وقال: تقدموا يا قوم، فما في التأخر من فائدة، فقال له أتوس: إنِّي أخشى عليك يا فتى أن تذهب نفسُك ونحمل العار بسببك؛ إذ يُقال عنَّا أنا كُنَّا أربعة على حين نحن ثلاثة، وما نرى لنا فيك غناء. قال: إنك لم تعرفني بعدُ ولم تَبْلُني، وسترى مني ما يَسُرُّك إن شاء الله، وأنا فلان. ثمَّ أطبقت الْفِرْقَتان ولمعت السيوفُ وهجم أتوس على رجلٍ منهم يُقال له كاهيساك، وبورتوس على رجل يُقال له بيكارات، والتقى أراميس باثنين، وهاجم دارتانيان دي جيساك، واشتد بينهما الصدام وكثر الضَّرْب حتى كَلَّ دي جيساك وقد بَهَرَهُ دارتانيان بخِفَّته، ثمَّ ضَرَبَهُ فسقَط جَريحًا يتَشَحَّط في دمه، ثمَّ التفت فرأى أراميس قد قَتَلَ أحدَ خَصْمَيْهِ وهو يعالِج الآخرَ وفيه بقيَّةُ جلَدٍ، وبورتوس وخَصْمه قد جُرِحا ولا يزالان يتجاوَلان، وأتوس قد جُرِحَ جُرْحًا آخَرَ ونقَلَ سيفه إلى الشِّمال، فخشِيَ عليه الغلَبة فحالَ بينَه وبين خَصْمه وقال: أنا لك. وضربه فقتله، فقال له أتوس: لو أبْقَيْتَه، فإن لي معه شأنًا. قال: سَبَقَ السَّيْفُ الْعَذَلَ. وكان دي جيساك قد أفاق مِنْ جُرْحِه فقال لبيكارات: سَلِّم سيفَك. فسلَّمه، فساقوه أسيرًا إلى منزل دي تريفيل وهم لا تكاد تسَعُهم الدنيا لشدة سرورهم ودارتانيان بينهم والناس تجتمع عليهم في الطريق حتى صار حولَهم جَمٌّ غفيرٌ وكان لهم احتفال مشهود إلى أن بلغوا منزل دي تريفيل.