الخيال الهائل
فقال له الكردينال: هل أنت من رجال عائلة دارتانيان؟ قال: نعم يا مولاي. قال: فمِنْ أَيِّها أنت؟ قال: ابنُ الذي كان له بلاءٌ حسن في الحرب التي عاناها الملك السابق رَحِمَهُ الله. قال: فهل أنتَ الذي أتَى مِنْ مدة ثمانية أشهر إلى هنا؟ قال: نعم يا مولاي. قال: وقد مررْتَ على مينك حيث جرى لك حادث. قال: نعم، فاسمع يا مولاي ما جرى لي. قال: لا فائدة من ذلك، فإني عارف بالأمر، فهل كان معك وَصَاةٌ إلى دي تريفيل؟ قال: قد كان ذلك. قال: وقد سُرِقَتْ مِنْك الْوَصَاة ثمَّ أَتَيْتَ فصاحبْتَ الحرسَ وأدخلك دي تريفيل في حرس دي زيسار، ثمَّ عرض لك سفرٌ إلى إنكلترا فذهبْتَ إليها وتخلَّفَ أصحابُك في الطريق، فقضيْتَ الرسالةَ فيها وعدت إلى باريز حيث قابلتَ شخصًا رفيعَ المكان ولم يَزَلْ في يدِكَ أثرٌ منه. ففَطِنَ دارتانيان للخاتم، فأدار فصَّه إلى باطن كفه ولم يَخْفَ ذلك على الكردينال، فأردف: ثمَّ أتاك دي كانوا يدعوك إلى القصر فأَبَيْتَ. قال: نعم، خَشِيتُ أن يكون في ذلك ما يُحْفِظُ سيِّدي الكردينال. قال: لا فقد أخطأت، فإن البريء لا يخاف شيئًا، ثمَّ اذْكُرْ يومَ دعوتُ بك فتخلَّفْتَ ماذا جرى في ذلك المساء؟ فتذكر دارتانيان أن قد خُطفت حبيبته في تلك الليلة. وعاد الكردينال فقال: ثمَّ خَفِيَ عني ذكرُك زمانًا فأحبَبْتُ أن أعرِفَ ما تفعلُ لأن لك عليَّ شكرًا، فاجلس فأنتَ أعظم مِنْ أن تُخاطَبَ واقفًا. فجلس، فقال الكردينال: أرى أنك فتًى أديب شجاع، وأنا شديد الرغبة في أمثالك، وأنصح لك بأن تكون على حذَر، فإن لك أعداء لا آمَنُ عليك منهم لحداثة سِنِّك. قال: نعم يا مولاي إنهم كثيرون، وأنا واحد. قال: لا بأس، فإن لك من أفعالك أعوانًا وسيكون لك شأن؛ ولذلك فأنت في حاجة إلى مَنْ يَشُدُّ أَزْرَكَ ويأخذ بيدك لأنك لم تَقْدَمْ باريز إلا طلبًا للغنى، فما تقول في وظيفةٍ عندي بين حرسي؟ فتَلَجْلَجَ الفتى وظهرَتْ عليه علائمُ الْكُرْهِ، فقال له الكردينال: ألا تريد؟ قال: إنِّي يا مولاي في حرس الملك ولا عذر لي في الخروج منه. قال: إن حرسي وحرس الملك سِيَّانِ، فإنما هما لِمَجْد فرنسا ومَنَعَتِها. قال: لقد أسأتُ التعبيرَ يا مولاي فلم تفهم قصدي. قال: لا بل فَهِمْتُ، فإنك تلتمس عذرًا تخرج به من حرس الملك، وما عساهُ أن يكونَ أحسن مِنْ هذه الفرصة والحرب قريبة الوقوع، وأنا أعرض عليك ذلك على كثرة الشكايات منك، وفي هذه الورقة قصة طويلة عنك أحب أن أقرأها لك، ولكن بعد أن أُتِمَّ كلامي معكَ في هذا الشأن، فأَطِعْنِي واقْبَلْ. فقال: لقد غَمَرْتَنِي يا مولاي بإنعامِك وحَمَّلْتَنِي مِنَّةً من فضلِك يقصر لساني عن إيفاء الشكر عليها، وإذ كنتَ قد فسحتَ لي في الكلام فإني أقول إن أصدقائي في حرس الملك وليس لي في حرسك يا مولاي إلا الأعداء؛ وهو ما يمنعني الدخول فيما أشتهيه من خدمتك، ومع ذلك فنحن مباشرون بعون الله حصار روشل حيث أكون تحت أمرك يا مولاي فترى فيَّ رأيك، وأنا لك في كل حال شاكر ما قَلَّدْتَنِيهِ من الجميل. فقال الكردينال وقد ظهرت في وجهه علائم الغضب: أَمَا وقد رفضْتَ طلبي منك وأَبَيْتَ تَقْدِمَتي لك فاحرص على نفسك من أعدائك، فإني إذا رجعْتُ عن رأيي فيك لا يضمن حياتك غير الله، وإذا أصابك شيءٌ فاعلم أنه أصابك لانقطاعي عن مراعاتك. قال: سأجتهد في ذلك يا مولاي. قال: كفى الآن فاخرج، ولي معك كلام إذا عُدْتَ سالمًا من الحرب. فارتاع الفتى لقوله «إذا عُدْتَ سالمًا» وشعر بمكيدة، ولكنه سلَّم وخرج فوجد أصحابه ينتظرونه، فسار معهم وقَضَوْا ليلَهم بالوداع. ولما كان الصباح قُرِعت الطبول ونُفِخَ في الصُّور فافترق دارتانيان عن أصحابه ولَحِقَ بِفِرْقته، وعادت الحراس إلى اللوفر لِيُعْرَضُوا على الملك، فمر بهم حزينًا كئيبًا، ثمَّ أمر فسارت فرقة الحرس بدارتانيان وبقيَ حراس دي تريفيل للذهاب في ركاب الملك، وسار بورتوس إلى خليلته فقضاها واجب الوداع، وأخذ أراميس يكتب كتابًا. أما دارتانيان فسار بفرقته حتى بلغ الباستيل، فدار حولَه ينظر إليه فأدهشتْه فخامتُه وضخامتُه، وكانت ميلادي بالقرب منه وهو لا يراها راكبة جوادًا وحولَها رجلانِ تَدُلُّهما على دارتانيان حتى عَرَفَاهُ، فوخَزَتْ جَوادها وسارت، ومشيَ الرجلان مع الحرس وهما يراقبان دارتانيان وهو لا يعلم من أمرهما شيئًا، ولله علم الغيب.