لويس الثالث عشر ملك فرنسا
وشاع ذكر هذه الحادثة في باريز واشْتَهَرَ أمرُها وكثر تحَدُّث الناسِ بها، فلما دخل الحراس منزل دي تريفيل أخذ يَزْجُرهم على فعلهم جَهْرًا ويُهَنِّئهم بالنصر سِرًّا. ولما كانت أشغاله تقضي عليه بالذهاب إلى الملك ليخبره بالأمر تركَهم وسار إلى اللوفر، فقيل له إن الملك في خلوة مع الكردينال فلا يدخل عليه أحد، فانثنى راجعًا. ثمَّ عاد عند المساء إلى ألعاب الملك، وكانت الملوك تقامر في ذلك العهد، فوجد الملك رابحًا مسرورًا، فلما رآه دعاه إليه وقال له: لقد كثرت الشكاية عليك من الكردينال، وقد شكا كثيرًا من حراسك وكان غيظه شديدًا حتى أثَّر في جسمه فمَرِض، وحتى قيل لي إن رجالك من شياطين الإنس. قال: لا يا مولاي، فما هم إلا نعاج في السلْم أرقُّ أخلاقًا من النسيم وألْيَن قلوبًا من الماء، فلا تُفارق سيوفُهم أغمادَهم إلا في سبيل خدمة الملك أيَّدَه الله، ولكن كيف يصنعون ورجالُ الكردينال يَسْعَوْنَ في خِصامهم وقتالهم، حتى أنَّ نزالهم لم يكن إلا دفاعًا، فقال الملك: إنِّي لست ممن يأخذون الكلام على عِلَّاته، ولا أنا بقاضي جُبَّل، ولم أُلقَّب بالعادل عبثًا، فرُوَيْدًا ينكشف لنا الأمر. ثمَّ وضع مكانه أحد النبلاء وأخذ دي تريفيل إلى نافذة هناك، فقال له: قلتَ إن رجال الكردينال هم البادئون بالعدوان، فكيف كان ذلك؟
قال دي تريفيل: هو أنَّ ثلاثةً مِنْ أشجعِ رجالي لا يَجْهَل الملك أسماءهم وشدة غَيْرَتهم على خدمته، وهم أتوس وبورتوس وأراميس جرى لهم حادثُ مزاح مع فتًى غسقوني الأصل أوصيتُهم به في الصباح، فانطلقوا به يُعَلِّمونه القتالَ في سان جرمن، ثمَّ ذهبوا إلى ساحة كارم ريشو فكدَّر عليهم أمرَهم دي جيساك وكاهيساك وبيكارات واثنان من شرطة الكردينال، وما أراهم على كثرة عددهم إلا قصدوا الشرَّ والعداء، ولست أنسب لهم في ذلك ذنبًا سوى أني أعرض على الملك أمرَهم فيحكم بثاقب عقله ووافر عدله. قال: نعم، ثمَّ ماذا؟ قال: فلما رأوا رجالي أخذَتْهُم حِدَّةُ الغضب ورانت عليهم سَوْرَةُ الحقد؛ إذ لا يجهل الملك أعزه الله أن رجاله ورجال الكردينال أعداءٌ بالطبع. قال: نعم، وهو ما يسوءني جدًّا إذ أرى في البلاد حزبين متنافرين، ولكن لا بدَّ من أن نضع لذلك حدًّا، ثمَّ قلت إن رجال الكردينال هم الذين تَصَدَّوْا لرجالك، أفحقٌّ ذلك؟ قال: هو ما أراه يا مولاي، ولست بجازم في الأمر. قال: علمت أنه قد كان مع رجالك فتًى ليس منهم. قال: نعم، أيَّد الله الملك، فقد كانوا أربعةً وفيهم جريح وفتًى نازلوا خمسةً فصرعوا أربعةً منهم. قال: بَخٍ بَخٍ، فقد انتصروا إذن، ومَنْ هذا الغلام الذي كان معهم؟ قال: هو فتًى لا يبلغ العشرين من العمر يُدعى الكونت دارتانيان، وأبوه من أقرب أصدقائي وأحسنهم بلاء مع الملك والدك رحمه الله ومَتَّعَنا بكَ بعدَه، فلما رآه رئيس حرس الكردينال أشفق عليه وأمره بالاعتزال. قال: صدقت، وهو ما يؤيِّد أنهم البادئون. قال: نعم أعَزَّ الله الملك، أما الفتى فلم يعتزل وقال إنه حرسيُّ القلب مخلص للملك ورجاله، ثمَّ حمل على دي جيساك فجرحه ذلك الجرح الذي أثار غيظ الكردينال، فقال الملك — وقد أخذه الْعَجَب: أهو الذي جَرَحَ دي جيساك، وهو أول بطَل في الدولة وسِنُّه على ما ذَكَرْت؟! إن ذلك لا يُخَالُ. قال: نعم، ولا ردٌّ عليك يا مولاي، فقد صادف دَرُّ السَّيْل دَرًّا يَصْدَعُه، وقد قيل:
قال: إنِّي أحب أن أراه، فأْتِني به غدًا عند الظُّهر ومعه أصحابُه الثلاثة، فقد وَجَبَ لهم عليَّ في ذلك شكرٌ أفِيهِ لهم، ثمَّ إذا أتيتَ بهم فاصعَد من السُّلَّم الصغير فإني لا أحب أن يعلم الكردينال بهم. قال: نعم وطاعة يا مولاي، ثمَّ خرج فأعْلَمَ رجالَه وأمَرَهم بالاستعداد لمقابلة الملك.
ولما كان الصباح لَبِسُوا أحسنَ ما عندَهم وانطلقوا بدارتانيان إلى مكانٍ تَجْرِي فيه ألعابُ السيف وفُنون الْبِراز، فأقاموا يتبارزون ووقف دارتانيان مع المتفرجين وكان في جملتهم رجلٌ من حراس الكردينال، فلما رأى الحراسَ جعل الغيظُ يُقِيمه ويُقْعِده حَنَقًا على حراس الملك وغَيْرةً على أصحابه وفشلهم بالأمس، حتى رأى دارتانيان فهاج به حب الانتقام، فرفع صوتَه بحيث يسمعه الفتى وقال: ما أرى هذا الغلام إلا خائفًا من الْبِراز، وأظنه حرس الملك، فالتفت إليه دارتانيان وجعل يُصَوِّب نظرَه فيه ويُصَعِّدُه، فقال له: انظر إليَّ ما شئتَ، فقد قلتُ ما قلتُ. فهَمَسَ دارتانيان في أذنه أَنِ اتبعني إذا كان في نفسك شيء، فقال له: واللهِ لو عرفْتَني ما أقدمت عليَّ. قال: ومَنْ عساكَ تكون؟ قال: أنا برناجو. قال: نِعْمَ الاسم يهابه الجبان الْوَكَل، فاتبعني فأنا في انتظارك لدى الباب ولا تَعْجَل في لحاقي لِئَلَّا يَفْطِنَ لنا الناس فيَحْظُرونا. قال: أنصفْتَ واللهِ، وأنا على أثَرِك. فانصرف دارتانيان والرجلُ يَعْجَب من شدة بَأْسِه وسُكون جَأْشِه كيف أنه لم يَهَبْهُ وقد عرف اسمَه، وكان أتوس في خلال ذلك ينظر إليهما فعرف ما نَوَيَا عليه، وكان دارتانيان قد بلغ الباب فلم يَلْبَثْ إلا قليلًا حتى وافاهُ خَصْمُه، فنظر فرأى الطريق خاليةً فقال له — وهو يحب التعجيل لئلَّا يفوتَه موعدُ الملك: لقد خلا لنا الجو فانْزِل. قال: أخشى أن يرانا أحدٌ يمنعنا، فلو ذهبنا إلى ما وراء دَيْر سان جرمن أو غيره. قال: لقد كنت أرغب في ذلك لولا أن لي موعدًا يجب عليَّ قضاؤه، ثمَّ اسْتَلَّ سيفَه والْتَقاهُ خَصْمه وجرى بينهما قتالٌ شديد جُرِحَ فيه برناجو جُرْحَيْنِ بَلِيغين. وكانا قد بلغا منزل دي ترمويل، فهجم عليه دارتانيان وضربه فسقط على الأرض يَخْتَبِط بدماهُ، وإذا به يسمع صُراخًا في الشارع وجَلَبَة تتزايد، وكان اثنانِ من أصحاب برناجو سمعا ما دار بينهما فتبعاهما، فلم يُدْرِكا صاحبَهما إلا وهو صريع، فأطبقا على دارتانيان يضاربانه وإذا برفاق دارتانيان الثلاثة قد طلعوا عليهم وصاحوا بالرجلين، فخشي الرجلانِ الغلَبة فاستنجدا بأهل المنزل فخرجوا إليهما، وكثر الجمع على حراس الملك، فاستنجدوا بأصحابهم، وتناقلَ الصوت حتى بلغ منزل دي تريفيل، فخرجت رجاله تصلُّ سيوفها. وكان حرس الكردينال قد تجمَّعوا على الصراخ فدارت رَحَى الضرب، وكانت الدائرة على رجال الكردينال فانقلبوا إلى المنزل وأوصدوا أبوابه بعد أن أدخلوا الجريح في حالة الخطر، فأحاط حراس الملك بالمنزل وجعلوا يتوعدونه بالحريق إذا لم يُعاقِب صاحبُ المنزل خدَمَه على خروجهم عليهم، فأجاب دي ترمويل طلبهم. وكانت الساعة الحادية عشرة قد حانت، فذهب الأربعة إلى الموعد ودخلوا منزل دي تريفيل، فتلقاهم وهو يقول: هَلُمُّوا إلى اللوفر على عجل لنرى الملك ونخبره بالأمر قبل وصول الكردينال. فلما وصلوا إلى القصر استأذن القائد على الملك فقيل له إنه في الصيد في غابة سان جرمن، قال: هل كان ذلك في عزمه من أمس؟ فقيل: لا، بل أتاه رجل اليوم يخبره بأنهم قد حبسوا له غزالًا في الغابة ليصيده، وقد ذهب قبل الظهر بقيل، فقال لرجاله: إنِّي أراه في المساء، فارجعوا بنا. فرجعوا.
ودخل دي تريفيل غرفته وهو يفكر في كيف يبدأ بالشكوى على حرس الكردينال، ثمَّ أرسل إلى دي ترمويل يلتمس منه إخراج رجال الكردينال من منزله ومعاقبة خدمه بخروجهم على رجاله، ثمَّ ذهب بنفسه بعد ذلك إلى منزل دي ترمويل فقال له: أرى أن كلًّا منَّا يودُّ أن يشكوَ صاحبه، وقد أتيتك الآن لننظر على من تجب الشكوى. قال: نعم، ولكني على يقين من أن الذنب على أتباعك. قال: كيف حال الجريح؟ قال: في خطر شديد، فإنه مصاب بذاتِ جَنْبِه، وقد يَئِسَ منه الطبيب. قال: وهل هو مُفِيق؟ قال: نعم، ولكنه يستصعب الكلام. قال: فلو نزلنا إليه نَقُصُّه الأمرَ ونعزم عليه بالتزام الصدق في الحكاية؟ قال: نعم. ونزلا إلى غرفة الجريح، فاحْتَفَزَ للقيام فلم يَقْدِر، فدَنا منه دي ترمويل وسأله عن القصة فسَرَدَها لا يُخِلُّ بحرفٍ منها حتى أتى على آخِرِها، فاستأذن دي تريفيل ودعا للجريح بالشفاء وذهب إلى منزله، فدعا رجالَه الأربعةَ وجلس معهم على الطعام يُؤاكلهم ويُثني على شجاعتهم ولا سيَّما دارتانيان حتى كانت الساعة السادسة، فذهب بهم إلى اللوفر، ودخل معهم من الباب الكبير لأن ميعاد الملك كان قد فات، ووقف وإياهم في ساحة القصر وإذا بالناس يقولون: جاء الملك، ثمَّ دخل الملك لابسًا ثيابَ الصيد وفي يده مِخْصَرَة، فمرَّ بالحراس ودخل إلى مجلسه، فقال لهم دي تريفيل: أَنْظِرُوني عشر دقائق، فإن خرجتُ إليكم وإلا فارجعوا إذ لا تعود فائدة من الانتظار. ودخل فأقام الحراس ينتظرونه حتى فات الميعاد ولم يخرج فانصرفوا راجعين.
وكان دي تريفيل قد دخل على الملك فوجده يشكو من الصيد ومتابعة الكردينال له في الكلام عن إسبانيا والنمسا وإنكلترا حتى قال له: إنِّي غير راضٍ عنك يا دي تريفيل. قال: لماذا، وأطال الله بقاء الملك؟ قال: لشدة وَقاحة رجالك واستبدادهم حتى كادوا يُحْرِقون باريزَ اليومَ وأنت ساكتٌ لا تَرُدُّهم، وحتى هجم الأربعة الذين ذكرتَ لي على برناجو فجرحوه إلى الموت، ثمَّ حاصروا منزل دي ترمويل وكادوا يُحْرِقُونه حتى خِلْتُ واللهِ أن الحرب قد نشبت في فرنسا، ولعلك تُنْكِر ذلك. قال: ومِمَّن سمعتَ هذا يا مولاي؟ قال: ومَنْ عساهُ يكون سوى الكردينال القائم بأمر الْمُلْك حتى كفاني مئونة سياسته. قال: لعله غير مصيب في الرواية يا مولاي، وجَلَّ مَنْ لا يخطئ. قال: صدقت، أما الذي أخبرني بهذا الأمر فهو دي ترمويل. قال: لو أَمَرَ مولاي بإحضاره الآنَ وسؤاله. فدعا الملكُ بالحاجب فقال: عليَّ بدي ترمويل في الحال، فقال دي تريفيل: ولكنْ تَعِدُني يا مولاي بأنك لا تقابل أحدًا بين مقابلتي ومقابلته. قال: لا، وموعدنا غدًا إن شاء الله في أي ساعةٍ جِئْتَ، ولكن حَذارِ من أن يكون رجالُك هم المخطئون. قال: إذا كانوا مخطئين فهم بين يَدَيِ الملك يُجْرِي عليهم عدلَه. قال: نعم، إلى غد. فدعا له دي تريفيل وخرج. فأوعز إلى رجاله بالمجيء إليه عند الساعة السادسة صباحًا ففعلوا، وذهب بهم إلى السُّلَّم الصغير وقال لهم: إذا وجدْتُ الملكَ راضيًا عنكم دعوتُكم وإلا أشَرْتُ لكم بالانصراف، ثمَّ دخل، فلما بلغ ساحة القصر أخبره الحاجب أنه ذهب أمس إلى دي ترمويل فلم يَجِدْهُ وأنه الآن عند الملك، ولم يَمْضِ غير قليل حتى خرج دي ترمويل من قاعة الملك، وقال لدي تريفيل: لقد دعاني الملك ليعلم مني تفاصيل حادثة أمس، وقد أخبرته أن الذنب على خدمي وأنه يجب عليَّ أن أعتذرَ إليك. قال: حيَّاكَ الله، فهكذا كنتُ أرجو منكم، ومثلُك من قضى الحق وحكى بالحق. وكان الملك واقفًا على عتَبة الباب يسمع ما دار بينهما فقال: أحسنتما وأبي، وأنا أرجو من الدوق دي ترمويل أن لا يَنْقَطِعَ عني لأنه صادقٌ أمين، فلْيَنصرف الآن، وأنت أين رجالُك؟ قال: في انتظار أمرِك يا مولاي. قال: عليَّ بهم. فذهب الحاجب وعاد بهم حتى أوقفهم بالباب، فأشار إليهم الملك بالدخول وقال: لقد زاد أمركم وعظمت شجاعتكم يا قوم، أتقتلون سبعة من رجال الكردينال في يومين؟ إنه لأمر لو تعلمون عظيم، ثمَّ نظر إلى دارتانيان وقال له: تقدَّمْ يا بُنَيَّ، فقد بلغني عنك أنك فتًى وأنا أراك غلامًا مراهقًا، ثمَّ التفت إلى دي تريفيل فقال: هذا الذي جَرَحَ دي جيساك؟ قال: نعم بسيفك يا مولاي، وجرح برناجو أيضًا. فقال أتوس: ولو لم يخَلِّصني من يدِ بيكارت لَما أسعدني الحظُّ بالْمُثول في جنابك يا مولاي. قال: ولكني أرى أهل غسقونية على جانب من غثاثة العيش وقلة ذات اليد، وما ذاك إلا لقلة معادن بلادهم. ثم دعا بالحاجب فقال له: انظر في جيبي لعلك تجد شيئًا من الدنانير فأْتِني به. ثمَّ قال لدراتانيان: قُصَّ عليَّ الحادثة ولا تُفِتْ منها حرفًا. فمضى الفتى يقصها مُضِيَّ الْجَوَاد في سَنَنِ مَيْدانه حتى أتى على آخرها، فقال له الملك: صدقْتَ، فهكذا سمعتُها، عزَّى الله الكردينال، فقد فقَدَ سبعة من أعز رجاله عليه، وفي ظني أن ذلك يكفيكم في نظير أخذ الثأر، ثمَّ أخذ من يد الحاجب قبضة من الدنانير فوضعها في يد دارتانيان، فأخذها وشكر، فقال لهم الملك: انصرفوا الآن، فإن عليَّ موعدًا. فخرجوا وهم يَضِجُّون له بالدعاء، ثمَّ قال لدي تريفيل: كنت أودُّ أن يكون هذا الفتى في جملة الحراس لولا ضيق المقام عنه، ولكن ضَعْه في جملة حرس ابن أختك دي زيسار، ودع الكردينال يُرْغِي ويُزْبِد، فما عليَّ إذا كان العمل عدلًا. ثمَّ خرج. أما الكردينال فأقام ثمانية أيام لا يحضر ألعاب الملك.