الْكَرْب الشديد
أما ميلادي فسار بها الْفُلْك إلى إنكلترا وهي تَهْدِر كالبعير غَيْظًا وحَنَقًا، وطلبت من الربان أن يعود بها إلى فرنسا، فأَبَى خَشْيَةَ من أن يقع في أيدي الإنكليز، حتى همَّت بإلقاء نفسها في البحر والعود سابحة. ولم يَزَلِ الْفُلْكُ ماخِرًا بها حتى بلغت إنكلترا. وكان وصولها في اليوم الذي بارحَها فيه بلانشت، وكانت بورت سموت غاصَّة بجماهير المتفرجين على فُلْكٍ جديدة يُنْزِلُونها في البحر، وكان على المينا ضابط يستقري وجوه النازلين من الْفُلْك حتى بلغت إليه ميلادي، وكان الليل قد أقبل، فدنا منها وتأملها مَلِيًّا حتى ارتاعت منه وأجفلت إلى الوراء، فأشار الضابط إلى أحد الخدم أن يحمل متاعَها، ثمَّ مَدَّ إليها يدَه وقال لها: اتبعيني، فقالت له: مَنْ أنت؟ ومَنْ وكَّلك بي؟ قال: إنك تَرَيْنَ من ثيابي أني ضابط بحري. قالت: وهل للضابط البحري إذْن بأن يعقل الناس؟ قال: نعم، ولا سيَّما الغرباء في أيام الحرب؛ إذ يؤخذون إلى مكان تخفرهم فيه الحكومة. فقالت: ولكني لست بغريبة، بل أنا إنكليزية واسمي ميلادي كلاريك. قال: ذلك لا يفيد، فاتبعيني. ثمَّ قادها إلى عربة وركب وإياها وسارت بهما العربة سيرًا حثيثًا حتى أبعدت عن البلد، فأطلَّت ميلادي من نافذتها وقالت: إلى أين تذهب بي؟ فإني لا أرى البلد. فلم يُجِبْها الضابط بشيء، فقالت: إنِّي لا أعدو هذا المكان ولا أذهب إلى ما بعد هنا، فإن لم تُرْجِعْني لم تأمَنْ عقابي. فلم يُجِبْها واستمر في السكوت، فأخذت تصيح: إليَّ إليَّ، فقد هلكْتُ. ولا يجيبها إلا الصدى. فهمَّت بفتح باب العربة والوثوب منها، فأمسكها الضابط وقال: إياك والتغريرَ بنفسِكِ، فإنك تُقتلين. فقالت: ألا تخبرني بالله أبأمرك أم بأمر الحكومة أم بأمر أعدائي تفعل بي ذلك؟ قال: لا أعاملك إلا كما نعامل كل غريب يطأ إنكلترا في هذه الأيام. قالت: إذن أنت لا تعرفني؟ قال: لا، فهي أول مرة رأيتك فيها. قال: نشدتك الله، أَمَا في قلبك شيءٌ مني أو حقدٌ عليَّ؟ قال: لا والله لا أرب لي فيك ولا ثأر لي عليك.
وبعد ساعة وصلت العربة إلى قصر هائل المنظر عالي البناء مقفِر الجوانب يضرب البحر جدرانه فيُسمَع له صوت كالرعد، فدخلت العربة تحت قنطرتين ثمَّ وقفت في ساحة واسعة مظلمة، فنزل الضابط وأنزل ميلادي، فقالت: إذن أنا في سجن، ولكن مقامي لا يطول فيه بهمَّتك أيها الفتى إن شاء الله. فلم يُجِبْها بكلمة، بل أخرج من جيبه بوقًا صغيرًا ونفخ فيه ثلاث نفخات، وإذا برجال تقاطَرُوا إليه، فقادوا العربة إلى داخل القصر وأخذ الضابطُ ميلادي فمشى بها نفقًا طويلًا وصعد في سُلَّم انتهى منه إلى غرفة، ففتحها وأدخلها فيها، ثمَّ دخل الخادم بمتاعها وهم في صمت دائم، فعلمت أنها أسيرة. وطال سكوت القوم حولَها، فقالت: بالله يا سيِّدي ما هذا الذي أرى؟ أخبرني بحقيقة الأمر فإني جَلِيدَة على المصائب، فأين أنا؟ وما عساني أكون هنا؟ أطليقة؟ فلماذا أرى الحراس حولي؟ أم أسيرة؟ فأي جريمة اجترحْتُ؟ فقال الضابط: إنك يا سيِّدتي في المكان الذي أُعِدَّ لك، وقد كان إليَّ الأمر أن أذهب إلى البحر فآتي بك إلى هنا. وقد فعلْتُ كما رُسِمَ لي وقمتُ بما نُدِبْتُ إليه وما يقتضيه شرفي وحرمتي من التجمل معك وعدم الغلظة لك، أما بقية أمرك فلا يَدَ لي فيها ولا علم لي بها، فهي منوطة بغيري. قالت: ومَنْ عَساهُ يكون؟ وما أتمَّت كلامها حتى سمعت خَفْقَ أقدام تقترب، قال لها الضابط: ذلك الذي سألْتِني عنه. ثمَّ انفتح الباب فظهر منه رجل بغير قبعة وإلى جنبه سيف وفي يده مِنْدِيل، فدنا منها فقالت: هذا أنت يا أخي؟ قال: نعم. قالت: فما هذا القصر؟ قال: لي. قالت: وما هذه الغرفة؟ قال: لك. قالت: إنِّي إذن أسيرتك؟ قال: تقريبًا، فاجلسي أحدِّثك كما يحدِّث الأخ أخته، ثمَّ التفت إلى الضابط فقال له: عافاك الله يا فلتون، فدعنا الآن واذهب.