الفصل الخامس والأربعون
عودٌ إلى فرنسا
وكان الكردينال في أثناء ذلك يتقلب على أحرِّ من الجمر في انتظار أخبار من إنكلترا
فلا
يرده شيءٌ منها، وكانت مدينة روشل في ضيق عظيم وحصار شديد حتى قلَّت مئونتها ونزفت ذخيرتها،
فجعلت تبعث الرسل إلى بيكنهام في طلب المدد، فيأخذهم الفرنسويون ويصلبونهم، وكان مع آخر
رسول منهم كتاب يقولون لبيكنهام في عرضه: «إذا لم يصلْنا مدَدٌ بعد خمسة عشر يومًا مِتنا
جميعًا من الجوع.»
وكان جل اعتمادهم في الحصار على بيكنهام، فدافعوا أشد الدفاع وقاتلوا عن الأسوار قتالًا
أحبُّوا معه الموت؛ لأنهم كانوا فرنسويين يحاربون أمثالهم، ولسان حالهم ينشدهم:
إذا ما أخٌ جَرَّ الرماح انتهى له
أخٌ لا بليدٌ في الطِّعَان ولا وغلُ
بطعنٍ يكبُّ الدارعين دراكه
وضربٍ كما ترغو المخزَّمة البزلُ
وكان الكردينال لقلة توارد الأخبار إليه من إنكلترا في هاجسٍ عظيمٍ وبَلْبَالٍ زائدٍ،
ولا سيَّما من نحو ميلادي؛ إذ كان اعتماده عليها، وهو لا يدري أَعَنْ خيانةٍ منها كان
انقطاعُها أم عن مكروه أصابها، فأقام المتارس وشدد التضييق على المدينة. وكان يرمي مع
السهام أوراقًا يثير الروشليين فيها على زعمائهم؛ حتى أثَّر ذلك فيهم تأثيرًا شديدًا
وكادوا
يُخابِرون عساكر الملك، لولا أن ورد إليهم رسول من إنكلترا، وقال لهم إن الإنكليز يعدُّون
لهم أساطيل عظيمة، وقد واطئوا الإسبان على دخول فرنسا وافتتاحها، فنُشِرَتْ بذلك الأوراقُ
في الشوارع، فتشددت بها العزائم وقَوِيَتِ القلوب وعاد الدفاع إلى أَشَدِّ ما كان عليه
مِنْ
قَبْلُ؛ فأثَّر ذلك في ريشيليه أشد التأثير، فكان جيشه في سرور ونعيم بين السُّكْر والنزهة،
وهو في قلق دائم لا يقرُّ له قرار، فكان يخرج في بعض أصحابه يتفقد أحوالَ الجيش ويذهب
عنه
بعضُ ما به من الهمِّ بالنزهة والتجول، حتى إذا كان ذات مرة ومعه رجلان من أتباعه مرَّ
بكثيب من الرمل عليه سبعة رجال، أربعة منهم يقرأن كتابًا والثلاثة يراقبون المارَّة وهم
الحراس وغلمانهم، فلما رأى أحد الغلمان الكردينال صاح بالأربعة فأَخْفَوُا الكتابَ ووقفوا،
فحَيَّوْهُ، فقال لهم: أراكم تحترسون بغلمانكم يا قوم؟ فقال أتوس: نعم يا مولاي، فنحن
أعظم
من أن لا نحترسَ إذا فرغنا من أعمالنا، ولولا ذلك لم ننتبه لسيدي الكردينال ونَقْضِ الواجب
مِنْ تَحِيَّته. قال: أتدرون مَنْ تُشبهون باجتماعكم هذا وسيوفكم على عواتقكم؟ قالوا:
لا.
قال: تشبهون قومًا في خلوة سرية لا يريدون أن يعرف أحدٌ ما هم فيه. فهاج أتوس لذلك وتقدَّم
إلى الكردينال، وقال: سل يا مولاي ما بدا لك وأنا أجيب. قال: أنت مخبري ما هذه الرسالة
معكم
ولِمَ أخفيتموها عند وصولي. قال: رسالة عشق يا مولاي. قال: ألا أطَّلع عليها فإني كاهن
لا
تُمنع عني الأسرار. فقال أتوس — وقد غاظه ذلك: هي رسالة يا مولاي لا شيءَ فيها من ماريون
دي
لورم ولاراكوبيلون (وهما عشيقتا الكردينال). فاصفرَّ وجه الكردينال من الغيظ والتفت إلى
صاحبيه يريد أن يأمرَهما بالإيقاع بالحرس، ولكنه تبين جسامة العمل، ورَدَّتْه هيبةُ الأمر
وخوفُ الفشل؛ لأنهم ثلاثة والحُرَّاس أربعة، فعاد عن عزمه وقال: لا بأس عليكم ولا خوف
منكم.
وحيَّاهم وانصرف وفي قلبه حزازات، فأتبعوه النظر حتى غاب، فقال أتوس لأراميس: هل عزمت
على
أن تعطيَه الرسالة؟ قال: كنت عازمًا لو شَدَّد في طلبها على أن أعطيَه إياها بيد والسيف
بالأخرى فأطير رأسه. قال: قد توقعت منك ذلك فحُلْتُ بينَك وبينه، فاقرأها الآن. فقرأ:
ابن العم العزيز
أما بعد. فقد عزمت على الذهاب إلى ستينالي؛ لأن أختي قد بعثت بخادمتها إلى دَيْر
هناك للكرمليين؛ إذ خشيت عليها من القتل، وفي عزمها أن تُخرجها منه متى انتهت
المشاكل الحاضرة، وهي شاكرة لك على ذكرك إياها وتُسَلِّم عليك. والسلام.
ماري ميشون
فصاح دارتانيان: يا بُشراي، كونستانس حبيبتي في الحياة، فبالله قل لي أين تكون ستينالي
لأذهب فآخذَها من الدَّيْر. قال: على مقربة من حدود الألزاس واللورين، فمتى انتهى الحصار
نذهب جميعًا.، فقال أراميس: ولا يبعد أن ينتهيَ؛ فقد علمنا أن الروشليين قد فَتَكَ بهم
الجوع ولا يبعد أن يسلِّموا. فقال دارتانيان: والآن، فما تصنع بالرسالة؟ فإني أخشى إذا
أحرقتها أن يرى الكردينال رَمادَها. فقال أتوس: عليَّ إخفاؤها، ثمَّ دعا بخادمه فقال
له:
كلْ هذه الورقة واشرب عليها رطلًا من النبيذ. فأخذها الغلام ولاكها حتى ابتلعها وشرب
بعدَها
نبيذًا، وكان الكردينال أثناء ذلك يسير وهو يقول: لا بدَّ لي من إدخال هؤلاء الرجال في
خدمتي.