اليوم الأول من أسر ميلادي
أما ميلادي فلم تَزَلْ على ما تركناها عليه من اليأس من الفرج والقنوط من الإطلاق وفي قلبها غصص من دارتانيان، كيف لم تَشْفِ غَلِيلَها منه مما فعل بها من خرق الحرمة والامتهان والتلبس بالكونت دي ويرد واكتشاف سرها واستخلاص صديقِه منها ورقةَ الكردينال، وتوصلها بسببه إلى ما لا تحب من النفي إلى أميركا. فكانت على حالها تلك من القلق والهم تنظر في عظم مصابها، وتفكِّر في سجنها ومصيرها، فتضيق بها الدنيا ويستحيل لديها الخلاص، ثمَّ تعود إلى التأسِّي والسُّلُوِّ وتنظر صورتها في المرآة فترى نفسها على جمالٍ باهرٍ وحسن فائقٍ يَسْبِي العقول ويدهش الأبصار. وفيما هي كذلك بصرت بسرير في غرفتها فتوسَّدته، وكان الظلام قد أقبل فرأت نورًا يضيء من خَصَاص الباب، ثمَّ سمعت خفق أقدامٍ ورجلًا يقول: ضع هذه المائدة هنا وأنِر المصباح، ثمَّ نبِّه الخفراء. فلاح لميلادي أن تستعمل بعض الخداع لعلها تطغي خفراءها؛ فتناومت كأنها لا تعلم بما يجري، فدنا منها فلتون، وقال: أراها نائمة فلا حاجة لها بالطعام. ثمَّ همَّ بالخروج فقال له الجندي الذي معه: يا مولاي، إنها مُغْمًى عليها، فإني لا أسمع لها نَفَسًا وأرى وجهها شديد الاصفرار. قال: إذن فادع اللورد ونتر فلا أدري ما أصنع بها. فخرج الجندي وجلس فلتون على كرسي لدى الباب، وخشيت ميلادي أن يجيء اللورد فيبطل حيلتها، فرفعت رأسها وفتحت عينيها وتنهَّدت، فالتفت فلتون إليها وقال: ها قد أفَقْتِ فلا حاجة بمقامي هنا، وإذا أردتِ شيئًا فاقرعي الجرس. فتنهَّدت ثانيةً وقالت: وا كرباه كم أتألم. فقال لها وقد نهض: إنهم يخدمونك ثلاث مرات في النهار عند الصباح والظهر والعشاء، وإذا شئتِ أن تبدِّلي الوقت فلك الأمر. قالت: هل ألبث وَحْدِي أبدًا؟ قال: لا، فقد أعددت لك امرأة تخدمك متى شئتِ، ثمَّ خرج، فألفى اللورد لدى الباب ووراءَه جندي وفي يده قليل من الْمِلْح، فقال له: ما جرى؟ وماذا تريد؟ فإني لا أراها إلا وقد بدأت تتلاعب بك وأنت غِرٌّ لا تعرف مَكْر النساء. قال: لقد فطنت لذلك، ولكني رأيت من الواجب إسعاف امرأةٍ في حال الإغماء. قال: ألم تُصبك عيناها وبضاضة جسمها وصباحة منظرها وسواد شعرها؟ فوالله ما أنت إلا حَطَبَة. قال: إن قلبي يا مولاي أبعدُ مِنْ أن ينالَه هوًى أو يعلق به غرام. قال: أحسنت، فانطلق بنا الآن ودَعْها تدبِّر حيلة أخرى. ثمَّ أخذ بيده وخرج وجعلت تُتْبِعه نظرَها وهي تقول: ويلٌ لك من غلام غِرٍّ، وسأريك فعل النساء.
فوقف اللورد على عتبة الباب وقال لها: إذا كنت جائعة فكلي واشربي مما لديك وقري عينًا ولا تَخْشَيْ أن يكون به سُمٌّ، فأنا أقوَى من أن أقتلَك بالسُّمِّ إذا أردتُ إهلاكك، وموعدنا إغماؤك الثاني إن شاء الله.
ثمَّ خرج وأقفل الباب. فصاحت ميلادي كاللبؤة وأجالت نظرها في المائدة، فبصرت بسكين عليها، فعمدت إليها وإذا بها مدورة الطرف ونصابها من حديد كَلِيلٍ، ثمَّ سمعت قهقهة خارج الباب وفُتِحَ الباب ودخل اللورد وهو يقول لفلتون: أرأيت يا فلتون كيف تتهيأ لقتلك؟ فلو أطعتُك ووضعت لها مُدْيَة حديدة النصل لأرتك الموت ألوانًا، أوَما تراها تقبض على النصاب قبضة ماهر في السلاح؟ وكانت ميلادي واقفة والسكين في يدها، فقال فلتون: صدقت يا مولاي، فقد أخطأت في قولي، ثمَّ خرجا وأقفلا الباب، فأنصتت لهما ميلادي فوجدتهما قد أبعدا، فقالت: هلكتُ واللهِ بين قوم لا أَثَرَ لي فيهم، فهم أشد من الصخور قلوبًا ومن الجماد قساوةً. ثمَّ ألقت نفسها على السَّرير، فخطر لها قول اللورد لفلتون: «فلو أطعْتُكَ»، فاستأنسَتْ به ولاح لها من خلاله أن فلتون قد كلَّم اللورد بشأنها.