اليوم الثاني من الأسر
فلما كان الصباح جاءها فلتون بالامرأة التي وعدها بها، فوجدها في الفراش وهي صفراء كالبهار، فقالت للامرأة: لقد أصابتني الحمى فلم أَنَمْ سَوَادَ ليلِي، وعساني أَجِد فيك قلبًا أرَقَّ مِنْ قلب غيرك. فقالت الخادمة: أتريدين أن أدعوَ لك طبيبًا؟ وكان فلتون يسمع كلامهما وهو صامت، ففكرت ميلادي في استدعاء الطبيب وخشيتْ أن يكشف سرها ويظهر تمارضها فتبطل حيلتها الثانية كما بطلت الأولى، فقالت: لا داعي لذلك فسِيَّانَ عندهم صُدِّقْتُ أم كُذِّبْتُ، حتى لقد اتهموني أمس بأني أحتال عليهم. فقال فلتون: كيف تَرَيْنَ نفسك؟ قالت: أجدني موجَعة متألمة، فافعلوا ما بدا لكم. فقال فلتون للحارس: اذهب وادْعُ اللورد. فصاحت ميلادي: لا يا مولاي لا تَدْعُهُ فإني بخير ما دمتُ لا أراه. وكان كلامها حسنًا في الأذن خفيفًا على القلب حتى استهوى فلتون، فخطا نحوها، فقالت في نفسها: أراه يدنو من الشَّرَك، فصبرًا صبرًا. فقال لها: إذا كنتِ متألمة حقيقة فلندعُ لك الطبيب، وإلا فلا علينا إذا أصابك مكروه. فلم تُجِبْ ميلادي بشيء، بل ألقت يدها على رأسها وأخذت بالبكاء، فأقام فلتون يتأملها ساعة ثمَّ خرج وتبعته المرأة، وبعد قليل نفضت عن نفسها المرض وقالت: يجب أن أسعى للخلاص، فلم يبقَ لي إلا عشرة أيام.
ولما كان اليوم الثاني أتاها فلتون وبيده كتاب، فقال لها: لما كان اللورد كاثوليكيًّا مثلك قد بعث إليك بهذا الكتاب تقرئين فيه صلاتك. فقالت: إن اللورد يعلم أني لست من مذهبه، ولكنها حيلة ينصبها لي. قال: وما مذهبك؟ قالت: لا أقوله إلا متى آنَ لي أن أموت به شهيدة. فوقف فلتون يتأملها ويعجب من محاسنها، حتى قالت: قل للورد ونتر بأني قد صِرت في يد أعدائي، وأنا أسأل الله أن يقرِّب خلاصي أو موتي؛ فإن الموت إحدى الراحتين، أما هذا الكتاب فأنت أحوج إليه مني لأنك من حزب سيدك. فأخذ الكتاب وخرج بدون أن يُحِيرَ جوابًا.
ولما كانت الساعة الخامسة قدم إليها اللورد وجلس إليها وقال: أراك قد غيَّرتِ دينك. قالت: كيف تقول؟ قال: أعني أنك لما تزوجت بأخي انصرفتِ عن دينك الأول، ولعلك عُدْتِ فتزوجت رجلًا آخر فعدت إلى دين البروتستان. قالت: أفصِحْ يا لورد فإني أسمع كلامَك ولا أكاد أفهمه. قال: يلوح لي أنك كافرة لا دين لك. قالت: ذلك من طبعك يُؤَيِّده ما أراه منك، ولعلك تتكلم بهذا لتثير حُرَّاسك عليَّ. قال: كلُّ امرئٍ في بيته أمير، وإذا بقيتِ هنا بعد ثمانية أيام فقولي ما شئت. قالت: اغْرُبْ لعنة الله عليك من خادع ماكر. قال: خفِّضي عليك ما تقولين وإلا وضعتُكِ في سجن المجرمين. ثمَّ خرج وهو يُبَرْبِر غيظًا، فصادف فلتون لدى الباب لم تَفُتْهُ كلمة، وكانت ميلادي قد فطنت له، فقالت: اذهب وسترى على من تدور الدوائر.
ولما كان المساء جيءَ لها بالطعام، وكانت تصلي، فأقامت على ذلك برهةً ثمَّ جلست فأكلت ثمَّ جاءوا فأخذوا الطعام فلم تَجِدْ معهم فلتون، فظنَّت أنه خاف من تأثير جمالها، فضحكت ضحكة الغيظ. ثمَّ أخذت ترتِّل آيات الزبور وكان صوتها رخيمًا جدًّا حتى أحسَّت بالحراس قد وقفوا يسمعون لها، فأَمَّلَتْ بعض الخير وزادت في الغناء حتى زجرها الحارس، وإذا بصوت فلتون يقول له: وَيْحَك، أمأمورٌ أنت بمنعها عن الغناء أم أنت سيدها؟ فلست بمأذون أن تمنعها شيئًا سوى الفرار، فإذا حاولَتْه فاقتلها، وذلك ما رُسم لك. فسُرَّت ميلادي لذلك واستبشرت بالنجاح واستمرَّت في الترتيل الشجِيِّ حتى قال لها فلتون: خفِّضي صوتك يا سيِّدتي فإنك تمنعين أهل القصر من النوم. قالت: إذن أُمْسِكُ عن الغناء؟ قال: لا، بل تغنِّين ولكن بصوت منخفض. ثمَّ لم يَعُدْ يُطيق سهام لِحاظها الجارحة، فتركها وخرج، فقال له الحارس: لقد أحسنت يا مولاي فإن صوتها حسن ولكنه شجي.