اليوم الثالث من الأسر
وكانت ميلادي ترى أن ليس عليها إلا أن تدع فلتون يبادئها بالكلام، فكانت شديدة الانتباه إلى كل حركة يأتيها أو نظرة ينظرها لتستطلع من ورائها كُنْهَ أمره ودَخِيلة حالِه. فلما كان الصباح جاءها فلتون فعزمت على أن لا تفاتحَه بشيءٍ حتى يكلِّمها، فلم يفعل. وكانت شفتاه تتحركان ولا ينطق، كأنَّ في صدره شيئًا يريد أن ينفثه فلا يقدر، حتى طال به الأمر وخرج، فيئست ميلادي منه وقطعت آمالها من إسعافه. ولما قرب الظهر أتاها اللورد فأُشْعِرَتْ بقدومه فتعامَتْ عنه وتشاغلت بالنظر إلى ما حولها، فقال لها: أراك تتلاعبين بنا بين الجد والهزل والشدة والرخاء، وما أظنُّك حاصلة على شيء. ثمَّ قال: وإنك لتحبين أن يكون أمرك في يدك في إنكلترا فتذهبين حيث تشائين في ذلك البحر الواسع، فرويدًا رويدًا تَرَيْ نفسك في ذلك البحر بعد مضي أربعة أيام. فجمعت ميلادي يديها ورفعت بصرها إلى السماء وقالت: اللهم اغفر له كما غفرت له أنا. قال: تصلِّين يا فاجرة، فهي واللهِ صلاة أطهر من أن تخرجَ من فمك. ثمَّ تركها وخرج، ولم يمضِ قليل حتى دخل فلتون وهو يَسْتَرِقُ الخطَى كأنه لا يحب أن تراه، فتغافلت عنه وقالت: يا رب أتترك عدوك هذا يفعل بي ما يشاء؟ ثمَّ التفتت إلى فلتون وقد صبغ الخجل خديها فقال لها: لا تحتفلي بقدومي وامضي في صلاتك. قالت: ومَنْ أنبأك بأني أصلي؟ قال: أراك تحاولين الإنكار كأني مأمور بمنعك عن الصلاة، فإن كان لك ذنوب فادعي ربك عَلَّهُ أن يتوبَ عنك إنه توابٌ غفور. قالت: مَعاذَ الله أن أكون مذنبة، فلا يَغُرَنَّك بي ما ترى من هذا العقاب الذي ينالني، فكم من بريء مات ظُلمًا وعند الله تجتمع الْخُصوم. قال: كيف كنتِ، بريئة أم مذنبة، فأنت في حاجة إلى الصلاة، وأنا أساعدك وأدعو لك. فأكبَّت على رجليه تقبِّلهما وهي تقول: لله أنت يا سيِّدي ما أعدلك، فاسمع مني حفظك الله ما لا أعود أقدر بعد ذلك على النطق به؛ إذ يَحُولُ الْجَريضُ دونَ الْقَرِيض، واقبلْ طلبات امرأة شَمِلَها اليأسُ وأحاق بها البلاء فيما تطلبه منك، ثمَّ تباركك في الدنيا والآخرة. قال: إذا كان لك التماس فاطلبي ذلك من سيِّدي اللورد فلست مطلقًا في أن أسامحَك أو أعاقبَك. قالت: لا، واللهِ لا أكلِّم سواك فاسمع مني ولا تزِد في أحزاني. قال: إذا كنت اجترحت ما أوجب لك هذا السجن فكفِّري عن ذنبك لله. قالت: أراك لا تفهم ما أقول كأنك تتوهم بي خشية الموت أو السجن وأهون بطول الثواء والتلف عندي، أو أنك تتغابَى عن كلامي أن تفهمَه. قال: لا وعلم الله يا مولاتي. قالت: إذن أنت لا تدري ما عزم اللورد على أن يفعله بي. قال: لا وأبي. قالت: إنه أعظم من أن يخفى، فكيف تجهله؟ قال: لأني لا أعني بمثل هذه الأمور، ولم يبلغني شيء. قالت: إذن لا تعرف أنه يُعِدَّ لي عقابًا يُلبسني العار إلى الأبد، وأرى من دونه الموت. قال: أخطأتِ يا سيِّدتي فإن اللورد ونتر أشرف من أن يفعل ذلك وأعلى مقامًا. قالت: النفس أمَّارة بالسوء يا فلتون، وسِيَّانَ فيه الشريف والوضيع عند الخادع الماكر. قال: ومن تعنين بذلك؟ قالت: رجلًا في إنكلترا. قال: لعلك تريدين جورج فيليه دوق دي بيكنهام؟ قالت: نعم، ومن يجهل جرائمه؟ قال: إن يد الله على الظالمين، وهو أعدل من أن يتركهم بغير عقاب. وكان فلتون في كلامه عن بيكنهام يُرْغِي ويُزْبِد شأن كل إنكليزي تكلم عنه لأنهم كانوا يكرهونه، فقالت: إذا بعثتك إلى عقاب هذا الرجل فلا يكون عقابًا عني بل عن جميع الأمة. قال: وهل تعرفينه؟ قالت: كيف لا وهو منشأ مُصابي ومصدر كَرْبي. ثمَّ فتحت ذراعيها كمن مَسَّه ألم، وضاق صدر فلتون لمرآها وهمَّ بالخروج، فأمسكته بردائه وقالت: قِف بالله واسمع نشدتك الله، ألا ما أتيت لي بالْمُدْيَة التي أخذها مني اللورد، ولا تخيب في ذلك سُؤْلي فتنقذ عرضي من العار ونفسي من الدنايا. قال: أتنتحرين؟ وكأنها ندمت على تسرعها في كشف أمرها، فقالت: ويلاه، قد بُحت بالسر فهلكت. ثمَّ سمعت صوت أقدام فعلمت أنه اللورد، فقالت لفلتون: إياكَ والإفشاءَ فإنك تُهلكني فيلحقك ذنبُ قتلي. ثمَّ وضعتْ يدَها على فيه ومرَّ اللورد بالباب ولم يَقِفْ. ففتحه فلتون وخرج مسرعًا، فقالت: لقد صار لي أطوع من ثواب. ثمَّ عادت فقالت: ولعله يخبر اللورد فيقتلني لأنه يعلم أني لا أقتل نفسي بيدي. وعند المساء جاءها الطعام وجاء اللورد ونتر فقالت له: ألا تعفيني من قدومك عليَّ وتكفيني شُؤْم منظرك؟ فقال: سُرعان ما تغيرت، فقد قلت إنك آتية من فرنسا لتريني، فما بالك تَعْتَفِينَ مِنْ زيارتي الآنَ مع أنها السبب. فارتاعت ميلادي من كلامه وظنَّت أن فلتون باح بأمرها، فأخرج اللورد من جيبه ورقة وقال: هذه ورقة نفيك فانظريها. فأخذتها وقرأت: «هذا أمر بأن تُنفى إلى …» فقاطعها اللورد وقال: لم أكتب اسم المكان لكي أخبرَكِ في أي مكان تريدين أن تقيمي؟ ثمَّ عادت فقرأت: «المسماة كارلوت باكسون التي وسمتها الحكومة الفرنسوية ثمَّ أطلقتها بعد أن عاقبتها، فتقيم في ذلك المكان لا تبعد عنه أكثر من ثلاث غلوات حتى تموت، وتكون نفقتها في النهار خمسة شِلِنات تُعطى لها»، ثمَّ قالت: إن ذلك لا يوافقني، فليست تلك بِكُنْيَتي. قال: وهل لك كُنْيَة؟ قالت: نعم، لقب أخيك. قال: إن أخي لم يكن إلا زوجك الثاني، فأعلميني عن لقب زوجك الأول أستبدل اسمك هذا به وإلا فلا تغيير له ولا تبديل. فذُعِرَتْ ميلادي لذلك وخشيت أن يكون اللورد قد عجَّل في سفرها وأنه سيُنزلها في البحر في ذلك المساء، فأعادت نظرها في الرقعة فلم ترَ عليها توقيعًا فاطمأنت. ولحظ ذلك منها اللورد، فقال لها: أراك تنظرين إلى مكان التوقيع، وكأني بك تقولين لم يَفُتِ الزمن، وما ذلك إلا تهويل عليَّ ولكن سيَخِيب فَأْلُكِ ويُرْسَل هذا الأمر غدًا إلى بيكنهام فيوقِّع عليه فتذهبين من هنا مذمومة مدحورة، ثمَّ خرج. فقالت له: إن ذلك شؤمٌ وعارٌ عليك. قال: أتحبين أن أقتلَك وأُشْهِرُ أَمْرَك في إنكلترا تحت اسمك الأصلي، ولو كان في ذلك هَتْك حرمة أخي رحمه الله؟ فاصفرَّت ميلادي من الجزع ولم تُحِرْ جوابًا، فقال: أرأيت كيف تؤثِرين النفي على الموت؟ فالحياة عزيزة عليك يا لَكَاعِ. ثمَّ خرج، فقالت في نفسها: لم يَقُلْ فلتون شيئًا فيا بُشراي. وكان لم يَزَلْ أمامَها أربعة أيام وهي تكفي لأن تخدع بها فلتون، إلا أنها كانت تخشى أن يكون الرسولَ إلى بيكنهام فيفوت قصدُها، فقعدت تصلي وإذا بها تسمع صوت فلتون قادمًا ولكنه لم يدخل، بل وقف لدى الباب بُرْهة ثمَّ رجع أدراجه.