اليوم الرابع من الأسر
وفي غد اليوم التالي دخل فلتون على ميلادي فوجدها جالسة على كرسيٍّ تجاه الحائط وهي تَفْتِل حبلًا مِنْ خِرَق موصلة، فلما أحسَّت به انْفَتَلَتْ وأخفت الحبل وراءها، فقال لها: ما هذا الذي بيدك؟ قالت: لا شيء، فإني ضجرت من الوحدة فرأيت أن أتشاغلَ ببعض الشيء أقطع به مسافة الفراغ وسآمة العزلة. فنظر فلتون إلى الجدار فرأى فيه غِدانًا (كُلَّابًا) تُعلَّق عليه الثياب، فقال: أنت مخبرتي ما تصنعين قبالة هذا الجدار؟ قالت: وما يَعْنِيك من ذلك؟ قال: لا بدَّ من عرفانه. قالت: لا تَسَلْني بالله فإني أُضْطَرُّ إلى أن أكذبَ وهو ما يحظره عليَّ الدِّين. قال: إذا أنت لم تجيبي فأنا أجيب عنك، إنك تهيئين لنفسك أسباب الانتحار وهو أكبر إثمًا عند الله من الكذب. قالت: إن الله غفور تواب لمن يختار بين العار والانتحار فيؤثر الثاني. قال: بالله ماذا تعنين بذلك؟ قالت: لا يد لي في الإقرار لك بأمري وإطلاعك على باطن سِرِّي، فدعني أَمُتْ فهو خيرٌ لي ولا تلحقك منه تبعة أو عقاب. قال: لا والله لا أدعك تفعلين ذلك. قالت: وما عليك إذا مت فتخلص من حراستي؟ فإن دائي عُضَال، وكفى بي داء أن أرى الموتَ شافيًا. قال: وما فائدتي من أن تموتي فأكون شريكك في قتل نفسك لأني لم أردَّك؟ ثمَّ أنا متخلَّص من حراستك بأهون من الموت لأنك ستخرجين بعد أيام فتكون حياتك في يد غيري، وشأنك بها عند ذلك. قالت: لا يحزنك موتي بالله ودعني على رأيي. قال: ذلك لا يكون أبدًا لأني مأمور بحفظ حياتك وأنا مسئول عنها. قالت: هو خيرٌ مِنْ أَسْرٍ تكثر عاقبته بالمجرمين، فكيف بالأبرياء. قال: إنِّي جندي يا سيِّدتي وليس لي إلا المضي فيما سُنَّ لي. قالت: اذكر عقابك يومَ الدِّين في منعي عن قتل جسمي وإسعافي على قتل نفسي. قال: لا بأس عليك يا سيِّدتي، وأنا أنوب عن اللورد في كلامي هذا. قالت: حماقة واللهِ، أتنوب في الكلام عمَّن لا يقدر أن يتكلم عن نفسه؟ إنك في ضلال بعيد. قال: لا والله لا أكون سببًا لمماتك. قالت: إذن تكون سببًا لأعظم من مماتي وأنت مسئول عن ذلك بين يَدَيِ الله. وكان العشق قد بلغ منه أعظم مبلغ وأضرَّ به الكتمان وفتنته ميلادي بجمالها، فهام بها أشد الهيام ولاح ذلك على وجهه، وكان لسان حاله ينشد:
وعلمتْ ذلك منه وفطنتْ لدخيلته، فجعلت تتَغَنَّج لديه لتزيده بها هيامًا ولها عشقًا، ثمَّ أخذت ترتِّل آيات الزبور حتى دُهش بحسن غنائها وصباحة وجهها وتاه عقلُه في حبها، فدنا منها دنوَّ العاشق وقال: مَنْ أنت؟ أمَلَكٌ من النعيم أم إبليس من الجحيم؟ قالت: ألم تعرفني يا فلتون؟ لستُ بهذا ولا ذاك، ولكني امرأة من الناس دِينها مثل دِينك. قال: لقد كنتُ في رَيْب من ذلك، وقد تأكدت الآن. فقالت: أَخَدَعَكَ اللورد ونتر وأوهَمَك أني من الأبالسة فانخدعْتَ له؟ أتتركني بين أيدي أعدائي وأعداء الله، بين يدي ذلك الظالم الغادر بيكنهام؟ فقال: أبى الله أن تنالَكِ يَدُ بيكنهام يا ميلادي؛ فقد انتبهت للصوت القائل لي في الْحُلْم: «اضرب وخلِّص إنكلترا ونفسَك، فيكون لك الأجر عند الله والناس»، فتكلمي فأنا سامع لك مقبل عليك حتى أستفرغ كل ما عندك. فأبرقت أساريرُها سرورًا وقالت: ليس لي أن أكون سيف نقمة الله على الأرض، فدعني أوثر الموت على العار فأموت شهيدة الشرف، ولست أطلب منك خلاصًا ولا انتقامًا ممن ظلمني، فدعني أقضي الواجب من الموت فيكون لك عليَّ بذلك فضلٌ ومِنَّةٌ.
وكان صوتها على غاية من الرقة واللطف حتى انجذب إليها فلتون، فقاربها وقال: ويلاه لا أقدر إلا على أن أندُبَكِ وأَرْثِيك يا ميلادي، فإن اللورد ونتر شديد الْحَنَق عليك، ولقد أحببتُكِ لأنك أختي في الدين ولم أكن أحب قبلَك إلا اللورد ونتر المحسن إليَّ، ولكنك غلبتِ على قلبي بجمالك، فقُصِّي عليَّ خبرك. قالت: كيف أسلِّمك سري وأكشف لك أمري وأنت رجل وأنا امرأة؟ إن ذلك لا يكون ولا أقدر عليه. قال: أنا أخوك يا ميلادي، فإن تكلمت تشكين إلى أخٍ لك ما بقلبك. فصمتت ميلادي طويلًا حتى ظنَّ فلتون أنها خضعت له وعزمت على إخباره، فجعل يلاطفها ويؤانسها ويتملقها حتى قالت: أما وقد آخيتني فلا أحب أن أكتمَك شيئًا فوق ما كتمتك … وما أتمَّت كلامها حتى سمعت وقع أقدام، ثمَّ دخل اللورد وجعل يقلِّب طَرْفه بينها وبين فلتون، ثمَّ قال: لقد طال مُكْثُك هنا يا فلتون، فهل شغلتك بقصِّ جرائمها؟ فاضطرب الفتى وتقهقر، وخشيت ميلادي أن ينفضح أمرها، فبدرت قائلةً: أتخشى أن أفرَّ من بين يديك؟ فاسأل صاحبك ماذا كنت أطلب منه. فقال فلتون: إنها كانت تطلب مني مُدْيَة. قال: كأنَّ عندَها أحدًا تريد قتله؟ قالت: نعم، وهو أنا. قال: لقد خيرتُكِ بين القتل والنفي، فاختاري لنفسك ما يحلو. قالت: سأنظر في ذلك وأتدبر أمري. فقال لفلتون: احذر منها يا فلتون، فقد وكَّلت إليك أمرها إلى مدة لا تتجاوز الثلاثة أيام. فرفعت ميلادي نظرها إلى السماء وقالت: اللهم أسامع أنت؟ فعلم فلتون أنها تَعْنِيه، فأطرَقَ برأسه إلى الأرض فأخذ اللورد بيده وأخرجه. وأقامت ميلادي تنظر عودته ولم يمضِ عليه قليل حتى عاد، فقالت له: ماذا تريد؟ قال: لقد أبعدْتُ الحارس لكي ألبثَ عندَك ولا يدري بي أحد وأكلمك فلا تسمع أذن ما يدور بينَنا، فإن اللورد قد قصَّ عليَّ قصة هائلة لم أَشُكَّ بعدَها في أن أحدَكما شيطانٌ مارد، وأنا حائرٌ في أيكما أصدِّق وإلى أيِّكما أَمِيل، على قُرْب عهدي بحبك وطوله بوداد اللورد، ولا أدري ما سيئول إليه أمري، فانتظريني عند منتصف الليل آتي إليك. قالت: لا تخاطِر بنفسك يا فلتون، فإن مجيئك تغرير، وأنا لا تسمح نفسي بك، فدعني أَهْلِك وَحْدِي. قال: لا تقولي ذلك؛ فقد أتيت أعاهدك على أن لا تَمَسِّي نفسك بشيء. قالت: ذلك بعيد يا فلتون، فأنا إذا عاهدْتُ وَفَيْتُ، وأخشى أن أقيِّد نفسي معك فتمنعني عمَّا أَرُوم. قال: إذن فاحلفي أنك تحفظين نفسك حتى أعود إليك بالجارحة، وبعد ذلك فأنتِ وما تريدين. قالت: أمَّا ذلك فنعم. ثمَّ أقسمت له وواعدها إلى الليل، وخرج وعاد الحارس إلى مكانه وأقامت تنتظر إطباق الظلام.