الفصل الثالث والخمسون
فيما جرى في بورت سموث في ٢٢ آب سنة ١٦٢٨
ثمَّ ودَّع فلتون ميلادي وداع أخ لأخته وقبَّل يدها، وكان يمازج كلامه لهجة غضب واستبسال،
وركب الزورق وسار به قاصِدًا ميناء بورت سموث وهو لا يحوِّل نظره عن ميلادي حتى بلغ الشاطئ،
فأشار إليها إشارة السلام وذهب إلى المدينة. وكان الميناء مكتظًّا بالسفن تظهر أدقالها
كالغابة تحرِّك أشجارها الريح. وكان في قلب فلتون من بيكنهام وزير جاك الثالث وشارل الأول
مَلِكَيْ إنكلترا حزازاتٌ تحرق صدره وتثير عواطف الانتقام فيه، وقد زاده حَنَقًا وهياجًا
قصة ميلادي حتى صار يرى قتل بيكنهام فرضًا واجبًا وأمرًا لا بدَّ منه. وكان وصوله إلى
الميناء في نحو الساعة الثامنة من الصباح، وكان البوق يُنفخ في أحياء المدينة لجمع الجيش
وركوب البحر، فوصل فلتون إلى قصر بيكنهام وهو مُعَفَّر الثياب أصفر الوجه، وعزم على الدخول
فمنعه الحاجب، فدعا برئيس الْحُجَّاب وأراه الرسالةَ وقال: إنِّي رسول مستعجل من قِبَل
اللورد ونتر. وكان اللورد ونتر من أقرب الناس إلى بيكنهام وأودهم إليه، فأذن لفلتون فدخل.
وكان قد وصل عند دخوله فارس يلهث جوادُه تعبًا، فدخل القصر أيضًا وطلب الدخول إلى بيكنهام.
وإذ كان الحاجب يعرف مكانة اللورد ونتر عند بيكنهام أذِن لفلتون بالدخول أوَّلًا، ثمَّ
قاده
إلى باب غرفةٍ فيها اللورد ودخل وقال له: بالباب رسول من قِبَل اللورد ونتر. قال: فليدخل.
فدخل فلتون فوجد اللورد جالسًا على مرتبة وفي يده ثوب فاخر موشى بالذهب يريد أن يلبسه،
فقال
لفلتون: لماذا لم يحضر اللورد ونتر بنفسه؟ فإني أنتظره من الصباح. قال: لقد قال لي اللورد
يا مولاي أن أبلغك أن الذي منعه من الحضور حراسة القصر. قال: نعم، أنا أعرف ذلك فإنه
فيه
أسيرة. قال: وفي شأن هذه الأسيرة أتيتك. قال: هات ما عندك. قال: يجب أن أكون وإياك لا
ثالث
بيننا. فأشار اللورد إلى الحاجب فخرج، وقال: قد خلَوْنا فتكلم. فقال: قد كتب إليك اللورد
يلتمس منك التوقيع على صك النفي لامرأة تُدعى كارلوت باكسون. قال: نعم، وقد أمرته بالحضور
أو بإرسال الصك. قال: هو هذا. وناوله الأمر، فأخذه اللورد وقرأه، ثمَّ استمد بالقلم ليوقِّع
عليه، فقال له فلتون: رويدَك يا مولاي، فإن هذا الاسم ليس بالاسم الحقيقي. قال: أنا أعرف
ذلك. قال: أنت تعرف اسمها الأصلي؟ قال: نعم، ثمَّ أدنى القلم من الورقة فاصفرَّ وجه فلتون
وقال: إذن فاكتبه باسمها الحقيقي ميلادي ونتر. قال: إنِّي عارف بما أكتب، فما هذا السؤال؟
قال: أَتُغَيِّر اسمَها ولا يُبَكِّتُك ضميرُك. قال: ما هذه الأسئلة التي لا ضرورة تدعوني
للجواب عليها؟ قال: بل تجيب يا مولاي، فإن الأمر أعظم مما تفكر به؟ فظنَّ لورد أن فلتون
يتكلم بلسان مرسِله، فجاراه في كلامه وقال: لا شيء يمسُّ الضمير، فإن اللورد يعلم أن
ميلادي
امرأة مجرمة فاجرة. ثمَّ وضع القلم على القرطاس، فصاح به فلتون وقد تقدم إليه: إنك لا
توقِّع على هذا الصك يا ميلورد. قال: لماذا؟ قال: لأنه يجب عليك أن تنزل بنفسك فتحاكم
ميلادي. قال: إنها تُحاكَم في توبرن حيث تُنفى؛ فإنها فاجرة عاهرة. قال: بل هي يا مولاي
ملَك كريم، وأنا ألتمس منك إطلاقها. قال: أمجنون أنت يا فتى حتى تكلِّمني بهذا الكلام؟
قال:
إنِّي أتكلم بما أصل إليه، فاحذر من عواقب ما تفعل. قال: كيف قلت؟ أتتوعدني؟ قال: مَعاذَ
الله، ولكني أقول لك إن الكأس قد طفحت، فلم تَعُدْ تحمل نقطة، وأنا أخشى أن يكون فعلك
هذا
آخر جرائمك فيجري عليك القصاص. قال: يجب أن تخرج من هنا. قال: لا، بل يجب أن تسمع لي
إلى
النهاية، فإنك قد فحشت بهذه الامرأة ودنَّستها وشفيت غليلك منها، فدعها تذهب حرة لوجه
الله
تعالى، وهذا ما أطلبه منك، فاحذر عاقبة أمرك فإن إنكلترا قد ضاقت منك وكلَّت من أفعالك،
فأنت مَقَرُّ غضب الله والناس، أمَّا الله فيعاقبك في الآخرة وأمَّا أنا فأعاقبك اليوم.
فخطا بيكنهام إلى الباب وقال: إن هذا لا يُطاق. فحال فلتون بينه وبين الباب وقال له:
أقول
لك وقِّع على الصك بإطلاق ميلادي، فإنك قد فضحتها. قال: اخرج أو أنادي الخدم عليك. قال:
لا
أخرج ولا أدعك تنادي، ثمَّ اعترض بينه وبين الجرس وقال: اذكر الآن أنك بين يدي الله.
قال:
بل بين يدي الشيطان. ومدَّ بها صوته ليجلب الخدم، فقال له فلتون وهو يدني منه الورقة:
وقِّع
بالإطلاق يا لورد، فقال: أتجبرني اضطرارًا؟ إليَّ يا قوم. ثمَّ وثب إلى سيفه فلم يمكِّنه
فلتون من استلاله حتى شهر خِنْجَره، وإذا بالخادم قد دخل وهو يقول: رسالة من فرنسا يا
لورد.
فدُهش اللورد لهذا الخبر حتى نسيَ فلتون، فاغتنم فلتون فرصة اندهاشه ووجاه بالْمُدْيَة
في
خاصرته فغاصت إلى النصاب، فصاح اللورد: قتلتني يا قاتل. وصاح الحاجب إلينا يا قوم. ونظر
فلتون حوله فرأى الباب مفتوحًا، فوثب منه وفرَّ هاربًا حتى إذا بلغ السلم صادف اللورد
ونتر
داخلًا ورآه اللورد أصفر الوجه ملطَّخًا بالدماء، فقبض عليه وقال: كان هذا في حسابي.
ثمَّ
سلَّمه إلى الجند فأخذوه إلى مكان حتى يصدر الأمر بشأنه، وذهب اللورد ونتر إلى غرفة بيكنهام
ودخل وراءه الفارس الذي قدم بعد فلتون، فلما رآه بيكنهام صاح وهو قابض على جرحه بيده:
يا
لابورت، أمِن قِبَلها آتٍ أنت؟ قال: نعم يا مولاي. وكان ذلك الرجل حاجب الملكة حنة، فقال
له
اللورد: صه لا يسمعوك. وأشار إلى الناس فخرجوا، وذاع الخبر واضطرب القصر والمدينة، وأُغمي
على اللورد. وبلغ اللورد ونتر أن ميلادي قد فرَّت على سُلَّم من الحبال مُعلَّق على
نافذتها، فدخل على الدوق بيكنهام، وكان قد أفاق من إغمائه، فقال: دعوني يا قوم أنا والحاجب
ولابورت قليلًا. ثمَّ التفت إلى ونتر فقال له: أبعثت لي من يقتلني يا لورد؟ فقال: وا
كَرْباهُ لِكَرْبِكَ واللهِ، لا عَزاءَ بَعْدَك. ثمَّ خرج وهو يبكي أشد البكاء، فلما
خلا
بهم المكان جثا لابورت على قدمي اللورد بيكنهام وقال: سليم أنت إن شاء الله يا مولاي.
فقال
بيكنهام — وصوته يتقطع بحَشْرَجة الموت: ماذا كتبَتْ لي؟ اقرأ على عجَل فإن ساعاتي قصيرة.
فأعطاه الرسالة، فأجال فيها نظره فلم يقدر على قراءتها، فقال: اقرأ أنت. فقرأ:
أيها اللورد، أستحلفك بالحب الذي بيننا وأنشدك ما ألقى من ألم البعاد أن تكفَّ
الحرب عن فرنسا، فإنهم يَعْزُونها لحبك لي، وقد تتدمر بها فرنسا وإنكلترا ويلحقك
منها لا سمح الله ما لا عزاء لي بعدَه، فاحرص على حياتك الغالية لدي. والسلام
عليك من حنة دوتريش.
فقال اللورد: أما عندك شيءٌ غير ذلك؟ قال: نعم. قالت لي الملكة أن أوصيك بالحذر على
نفسك
لأنهم يحاولون قتلك. قال: ثمَّ ماذا؟ قال: وأن أقول لك إنها تحبك وهي لك عاشقة أبدًا.
فقال
اللورد: إذن أموت سعيدًا. ثمَّ دعا بالْعُلْبة التي أخذها من الملكة فأعطاها للابورت،
ثمَّ
أخذ يفتِّش حولَه وهو يقول: وتأخذ أيضًا هذا. وهو لا يهتدي إلى ما يفتِّش عليه حتى وقعت
يده
على الخنجر، فقال: وتأخذ هذا أيضًا للملكة. ثمَّ تمدَّد على فراشه وجاد بنفسه وهو يحاول
التبسم، فصاح حاجبُه بالحرب وأخذ يُعْوِل. وكان الطبيب قد حضر فنظر إليه وقال: قد قُضيَ
الأمر، فلا حول ولا قوة إلا بالله. ثمَّ دخلت على أثره الناس ورأى اللورد ونتر بيكنهام
قتيلًا، فدخل على فلتون حيث كان مسجونًا وقال له: ثَكِلَتْكَ أُمُّك، ماذا فعلْتَ؟ قال:
قتلْتُه لأنه رفض طلبك لي رتبة قائد. ثمَّ حوَّل نظره إلى البحر فرأى شراع الْفُلْك،
فوضع
يده على صدره وقال: أسألك مكرُمة يا لورد. قال: ما ذاك؟ قال: ما الساعة الآن؟ قال: التاسعة.
وكانت ميلادي قد عجَّلت قبل الميعاد بساعة لما سمعت صوت الْمِدْفَع مُنذِرًا بحلول القضاء.
فجعل فلتون ينظر إلى البحر وهو يقول: لا مردَّ لأمر الله، فقال له اللورد ونتر: إنك تموت
وَحْدَك الآن، أما التي خلَّصتها فوالله لَأُلْحِقَنَّها بك عن قريب، ثمَّ تركه وسار
إلى
الميناء.