الفصل الخامس والخمسون
دير الكرمليين في بيتين
أما ميلادي فإنها وصلت إلى بولونيا من غير أن تصادف مكروهًا، وتظاهرت أنها فرنسوية،
فلم
يشكَّ بها أحد. ولم تلبث في بولونيا إلا ريثَما كتبَتْ هذه الرسالة ووضعتها مع البريد،
وهي هذه:
إلى سيادة الكردينال دي ريشيليه في معسكره أمام روشل؛ سلام
أما بعد، فليفرح روع مولاي، فإن بيكنهام لا يسافر إلى فرنسا أبدًا.
كُتِب في بولونيا في ٢٥ مساءً
ميلادي دي
…
حاشية: «وأنا أنتظر أمر مولاي في دَيْر بيتين على نحو ما رسمه لي.»
ولما فرغت من الرسالة، وكان الليل قد أقبل، ركبت قاصدة دَيْر بيتين، فوصلته في اليوم
الثاني، ودخلت إليه فلاقتها الرئيسة، فأظهرت لها ميلادي أمر الكردينال، فوضعتها الرئيسة
في
غرفة بها، ثمَّ جاءت تزورها بعد الغداء، فجعلت ميلادي تتجمل لها وتتلطف بها وهي في موقف
حرج
بين أن تكون الرئيسة من حزب الكردينال أو من حزب الملك، فقصدت في خطابها. وكانت الرئيسة
تخشاها أيضًا فجرت معها مثلما جرت، إلا أن ميلادي رأت أن تخدعها لتقف على حقيقة أمرها،
فأخذت تلمِّح لها بالطعن على الكردينال وأنه عشق الخاتون أكويليون وماريون دي لورم وغيرهما
من النساء، فوجدتها تتبسم لأحاديثها، فعرفت أنها من حزب الملك، فقالت لها الراهبة: إنا
قلَّما نسمع بمثل هذا الكلام لانفرادنا عن الناس وبُعدنا عن البلاط، ولكنا عرفنا ظلم
الكردينال بإحدانا لأني لا أراها تستحق ما عاملها به؛ فإن هيئتها تدلُّ على الوقار
والسكينة. قالت: لا تحكمي بالظواهر، فما كُلُّ مَصْقولِ الْحَدِيدِ يَمَانِيٌّ. قالت
الراهبة: إني لأعجب من لهجتك هذه على الكردينال على حين أنت صديقة له لأنك هنا بأمرٍ
منه.
قالت: لا، فإني هنا بأمره في مثل سجن لا حُبًّا وكرامةً. قالت: ولِمَ لا تهربين؟ قالت:
وإلى
أين أمضي؟ وأي مكان أذهب إليه ولا تنالني فيه يد الكردينال؟ ولو كنت رجلًا لكان لي في
الأمر
مخرج، ولكني امرأة، فهل التي حدثتني أن الكردينال ظلمها بحبسها عندكم حاولت الفرار؟ قالت:
لا، ولكني أراها مرتبطة في فرنسا بغرام رجل. فقالت ميلادي: إذا كانت عاشقة فهي غير تعيسة.
فنظرت إليها الراهبة نظرة المرتاب ثمَّ قالت: أما أنت عدوة ديننا؟ قالت: مَعاذَ الله
أن
أكون من البروتستان أعداء الله والدين. قالت: إذن فاطمأنِّي فإنك لا تكونين في سجن يضيق
فيه
عليك بل نبذل الجهد في إراحتك ثمَّ يكون لك أنيس من هذه الامرأة التي ذكرتُها لك، فإني
أظنُّ أن لها عملًا في البلاط. قالت: وما اسمها؟ لقد سُلِّمَت لي من إنسان عظيم القدر
جدًّا
تحت اسم كاتي. فصاحت ميلادي: وهل أنت واثقة من ذلك؟ ثمَّ جال في فكرها أن تنتقمَ منها
إذ
ظنتها أنها خادمتها القديمة، فقالت الراهبة: ذلك اسمها، وهل تعرفينها؟ قالت: لا، فمتى
أقدر
أن أراها؟ فإني أشعر لها بحب في فؤادي. قالت: ترينها اليوم، ولكني أراك في حاجة إلى النوم،
فنامي. ثمَّ خرجت. فأقامت ميلادي في فراشها تُجيل في فكرها أنواع الانتقام من كاتي، ولكنها
كانت تخشى من زوجها الكونت دي لافير الذي كانت تحسبه ميِّتًا فوجدَتْه تحت اسم أتوس،
ثمَّ
نامت وهي في تلك الأفكار. وفيما هي نائمة إذا بها تستمع صوتًا ضعيفًا ففتحت عينيها فوجدت
الراهبة ومعها امرأة جميلة الوجه جدًّا، فجعلت ميلادي تنظر إليها ولا تعرفها، وهي تنظر
إلى
ميلادي فلا تعرفها، فتركتهم الرئيسة كذلك وخرجت، فأرادت الامرأة أن تتبعها، فأمسكتها
ميلادي
وقالت لها: كيف تخرجين من عندي وأنا شائقة إلى أن أراك حتى تنقضي أيامي هنا؟ قالت: ليس
ذاك
من قصدي، ولكني خشيت أن أكدِّر عليك منامك، فأنت تَعِبة. فأخذت ميلادي بيدها وأجلستها
على
كرسيٍّ إلى جانبها، فقالت: وا أسفاه، ها أنا هنا من ستة أشهر في هذا الدَّيْر لا يصلني
خبر
حتى سئمت الحياة لو لم يبعثك الله لي إلى أن أخرج من هنا. قالت: إنك إذن ستخرجين؟ قالت:
نعم، وذلك في مأمولي. قالت: علمت أنك هنا بأمر من الكردينال وهو ظالم لك؟ قالت: وهل صحيح
ما
قالته لي الرئيسة من أنك أسيرة أيضًا بأمر هذا الظالم؟ فقالت لها ميلادي: صه، فإن مصيبتي
من
كلام كهذا لدى صديقة كنت أثق بها فخدعتني ووشت بي، فهل أنت مثلي؟ قالت: لا، فإني سُجِنت
لأني مخلصة لامرأة شريفة أبذل في سبيل خدمتها حياتي. قالت: وكيف تركتك؟ قالت: كنت أظن
أنها
تركتني، ولكنها لم تتركني؛ فقد جاءني خبر من مدة أنها لا تزال تفكر بي، ولكن أنت يظهر
لي
أنك مطلقة تذهبين متى شئت. قالت: وإلى أين أذهب ولا مال ولا رفيق معي على جهلي بهذه الجهة؟
قالت: إن مثلك لا يهتم بالرفيق، فإنك بارعة في الجمال لا تعدمين رفيقًا. قالت: ذلك لا
يمنع
عن أكون وحيدة. قالت: لا تقنطي من رحمة الله، فلعلي أن أخرج من هنا فأجد لك من يأخذ بناصرك
ويخلِّصك من هذا الدير. قالت: لا تظنِّي أن قولي أني وحيدة دليل على أن لا أقارب لي ولا
أصدقاء، بل أن ليس فيهم من يقدر على أن يقابل الكردينال ويفلت منه إذا خلصني، ولو كان
الملكة نفسها؛ ولذلك قلت إني وحيدة، فإن الملكة إذا عجزت عن خلاص أحد تركته. قالت: لا،
بل
تزيد تفكُّرًا به وبخلاصه. فقالت ميلادي: نعم، فإن الملكة كثيرة الشفقة طيبة القلب. قالت:
أوَتعرفينها أنتِ؟ قال: لا أعرفها بوجهها، ولكني سمعت عنها من كثيرين ممن لها عليهم فضل
مثل
دي بيتاج وريجار ودي تريفيل قالت: أوَتعرفين دي تريفيل؟ قالت: نعم، وهو قائد حرس الملك.
قالت: إذا كنت تعرفينه فأنت تعرفين أصحابه؛ إذ لا شك أنك كنت تذهبين إليه. قالت: نعم،
كنت
أزوره في غالب أوقاتي. قالت: إذن تعرفين بعض الحراس عنده. فلاح لميلادي من ذلك وجهُ طمع
فيها وفي استطلاع أسرارها؛ فقالت أجاريها إلى الغاية، ثمَّ قالت: نعم، أعرف كل من كان
يزوره. قالت: تتفضلين عليَّ بذكر بعضهم. قالت: نعم، أعرف دي سوفيني دي وكرتيفرون ودي
فيريساك. ثمَّ أمسكت، فقالت لها الامرأة: أما تعرفين عنده رجلًا يُدعى أتوس. فوقع هذا
الاسم
في أذن ميلادي وقوع السهم في قلبها، فاصفرَّ وجهها اصفرارًا شديدًا واضطربت أعضاؤها،
فقالت
لها: ما بالك تَصْفَرِّين يا سيِّدتي؟ هل كان في كلامي ما يسوءك؟ قالت: نعم قد أثَّر
فيَّ
هذا الاسم، فإنه قل من يعرفه، وله صديقان وهما بورتوس وأراميس. قالت: إذن تعرفين لهم
صديقًا
آخر؟ قالت: إنِّي لا أعرفهم إلا من كلام الناس، وقد سمعت بصديقهم هذا وهو دارتانيان.
فقبضت
الامرأة على يد ميلادي وجعلت تحدِّق بها، ثمَّ قالت: أوَتعرفين دارتانيان؟ ثمَّ رأت منها
تغيُّرًا، فقالت: وكيف تعرفينه؟ قالت: أعرفه صديقًا لهم. قالت: لا تخدعيني، فأنت عشيقته.
قالت: لا، بل أنتِ، فقد عرفتك، أنت كونستانس بوناسيه. فأجفلت منها كونستانس وقالت: أتغارين
مني؟ ألم تكوني صديقته؟ قالت: لا واللهِ. قالت: ولماذا أجفلت من اسمه؟ قالت: ألم تفهمي؟
قالت: لا وأفصحي. قالت: ألا تعلمين أني عارفة باختطافك من بيت صغير في سان جرمن ويأسه
منك
وتفتيشه عليك هو وأصحابه، فكيف تريدين أن لا أعرفَكِ وقد طالما كلمني عنك وهو يزفر من
حبك
زفرات أحَرَّ من النار، فقد عرفت الآن أيتنا الحبيبة. قالت: العفو يا سيِّدتي، فإني أحبه.
قالت: ما أسعدني بمرآك، فدعيني أنظر إليك، فأنت أنت واللهِ لم يخطئ ظني فيك. فاغترَّت
الامرأة بكلامها ووثقت منها بالتمليق وهي لا تعلم ما وراءه من الغيظ والحقد الكامن، فقالت
لها بوناسيه: إذن تعلمين كم أقاسي لأجله من العذاب، ولكني أجد العذاب عَذْبًا في سبيل
حبه،
وقد قيض الله لي أن أراه فسأراه الليلة أو غدًا. فانذهلت ميلادي لكلامها وقالت: كيف ذلك؟
أتنتظرين منه خبرًا؟ قالت: بل أنتظره بعينه. قالت: هو نفسه يأتي إلى هنا؟ قالت: نعم.
قالت:
إن ذلك لا يكون، فإني أعرفه في حصار روشل مع الكردينال، فلا يرجع قبل أخذ المدينة. قال:
ليس
شيءٌ صعبًا على رجل شريف مثل دارتانيان. قالت: إنِّي لا أكاد أصدِّق. قالت: إذن فاقرئي
هذا
الكتاب. ثمَّ ناولتها كتابًا، فنظرت فيه فعرفت أنه خط الخاتون دي شفريز، فقرأت:
أي بُنَيَّة، كوني متأهبة للسفر، فإن صديقك آتٍ إليك ليأخذك من الدَّيْر، فبالغي
في الاختفاء والتنكر إذا خرجت واستعدِّي للرحيل. والسلام عليك.
ثمَّ قالت: أتعرفين ما معنى هذه الرسالة؟ قالت: لا، ولكني أظن أن الملكة قد علمت بمكيدة
ينصبها لي الكردينال. قالت: هو ذاك. ثمَّ سمعت وقع حوافر فرس، فهبَّت بوناسيه إلى النافذة
وهي تقول عساه هو؟ فقالت ميلادي — وهي لم تنتقل من سريرها: انظري جيِّدًا لعله هو. قالت:
لا، فإنه رجل لا أعرفه وقد وقف على باب الدَّير وهو يقرع. قالت: أمتأكدة أنت أنه ليس
دارتانيان؟ قالت: نعم، فإني أراه بزي آخر. فقامت ميلادي وأخذت تلبس ثيابها، فقالت لها
بوناسيه: لقد دخل. قالت: إمَّا لأجلي أو لأجلك، فقالت لها بوناسيه: ما بالك تضطربين؟
قالت:
نعم، فإني أخشى من الكردينال. فقالت لها: صه، فإنهم آتون إلينا. ثمَّ فُتح الباب ودخلت
الرئيسة، فقالت لميلادي: هل أنت آتية من بولونيا؟ قالت: نعم، فمن يطلبني؟ قالت: رجل لا
يريد
أن يتسمَّى ويقول إنه آتٍ من قِبَل الكردينال يريد أن يكلِّم الامرأة القادمة من بولونيا.
قالت: إذن فأدخليه يا سيِّدتي. فقالت لها بوناسيه: إنِّي أخشى عليك منه، فأنا أتركك وأذهب.
ثمَّ خرجت مع الراهبة، ولبثت ميلادي شاخصة إلى الباب حتى فُتح ودخل منه رجل، فعرفته وصاحت
عند مرآه صيحة الفرح، وكان هذا الرجل الكونت دي روشفور صَفِيَّ الكردينال وساعِدَه.