المحاكمة
وكان الليل عاصِفًا والسحاب متكاثِفًا والظلام شديدًا، إذا مدَّ الإنسان يده لم يَكَدْ يَراها، وكان القمر لا يُشرق إلا عند منتصف الليل. فجعل القوم يسيرون في ذلك الظلام ولا ينظرون الطريق إلا إذا لَمَعَ البرق. وما زالوا كذلك حتى مروا بحيث وُضِعَ الجريح، فعطف بلانشت على شماله، وكان الحراس واللورد يكلِّمون الرجل ذا العباءة الحمراء فلا يجيب إلا برأسه، فأمسكوا عنه. وكان الرعد قد زاد والبرقُ أخذ يتتابع والهواء يعصف بشدة، ثمَّ تَبِعَ ذلك مطرٌ غزير كأنه مِنْ أَفْواهِ الْقِرَبِ. وفيما هما يسيرون إذا برجل خرج من وراء شجرة واعترض في الطريق وأشار إلى القوم بالسكوت، فعرف أتوس أنه كريمود، فقال له دارتانيان: ماذا جرى؟ هل فارقْتَ أرمانتيير؟ قال: نعم. فعضَّ دارتانيان على شفته وزفر زفرة الضِّرَام، فقال له أتوس: رويدَك فأنا صاحب الأمر وعليَّ وجدانها. ثمَّ قال لكريمود: أين هي؟ فأشار له بيده إلى مقاطعة ليس، فقال: هل هي بعيدة عنَّا؟ فهمس في أذنه، فقال أتوس لهم: إنها على مقربة منَّا وهي وَحْدَها في بيت على شاطئ النهر، فهيا بنا يا كريمود. فسار أمامَهم وتبعوه، فقطعوا نهرًا وساروا، وفيما هم يسيرون لمع البرق فظهر منه بيت منفرد له نافذة يلوح من خلالها نور، فأشار إليهم كريمود، فقال أتوس: قد وصلنا يا قوم. وفيما هم كذلك إذا برجل قد طلع عليهم من حفرة هناك وهو موسكتون، فأشار إلى النافذة، فقال له أتوس: وأين بازين؟ قال: يخفر الباب وأنا أخفر النافذة. فترجَّل عن جواده وترجَّلوا معه وسلَّموا أَعِنَّة الخيل لموسكتون، وأشار لهم أتوس أن يذهبوا من جهة الباب، وتقدَّم هو إلى النافذة. وكان البيت محاطًا بسياج، فتسلقه أتوس ودنا من النافذة وصعد على حجر هناك فرأى امرأة برداء أسود وبين يديها سراج ونار تصطلي عليها معتمدة رأسها بيديها، فعرف أنها بغيته. وعند ذلك صهل جواد من خيله فرفعت رأسها فرأت وجه أتوس في النافذة فصرخت، فوثب أتوس إلى داخل الغرفة، فهربت ميلادي إلى الباب فصادفت دارتانيان، فكانت كالْمُسْتَجِيرِ مِنَ الرَّمْضاءِ بالنارِ، فأجفلت منه ورجعت. وخاف دارتانيان من فرارها فأخرج غَدَّارته من حزامه، فقال له أتوس: رُدَّ سلاحَك إلى مكانه، فإني أحب أن أحاكم هذه الامرأة فلا نقتلها إلا عن حكم، فادخلوا يا قوم. فرد دارتانيان غَدَّارته إلى حزامه، ودخل بورتوس وأراميس واللورد ونتر وذو العباءة الحمراء، ووقف الغلمان يخفرون الباب والنافذة. فسقطت ميلادي على كُرْسِيِّها ثمَّ نظرت سلفها فصاحت صيحة الجزع وقالت: من تطلبون؟ قال أتوس: نطلب كارلوتا باكسون التي دُعيت أوَّلًا الكونتس دي لافير ثمَّ صارت لادي ونتر بارونة دي شيفيلد. قالت: أنا بغيتكم، فماذا تريدون؟ قال: نريد أن نحاكمَكِ على ما فعلْتِ من الجرائم، وأنت مطلقة في الاحتجاج ودفع الظنة عن نفسك إذا كان لك من ذلك مخرج، فتقدَّم يا دارتانيان وأعرض شكواك. فتقدَّم دارتانيان فقال: أشكو هذه الامرأة أمام الله وأمام الناس بأنها سمَّمَتْ كونستانس بوناسيه أمس. فقال بورتوس وأراميس: ونحن على ذلك من الشاهدين. ثمَّ عاد فقال: وأشكوها أيضًا بأنها أرادت أن تسمِّمَني أنا بالخمر الذي أرسلَتْه لي بكتاب مزوَّر فخلَّصني الله منها وفَداني برجل آخر. فقال الشاهدان: ونحن نشهد. ثمَّ عاد فقال: وأنا أشهد لنفسي بأنها أغرتني بقتل الكونت ويرد ولم يكن عند ذلك مَنْ يسمعها، وهذه شكايتي عليها. ثمَّ تنحَّى فتقدَّم اللورد ونتر، فقال: أشكو هذه الامرأة أمام الله وأمام الناس بأنها قتلت اللورد بيكنهام. فصاح الجميع: أوَقُتِلَ بيكنهام؟ قال: نعم، فإني عندما حذَّرتموني منها قبضْتُ عليها وسجَنْتُها، فأغرتْ أحد خدمي فخلَّصها وقتل اللورد بيكنهام، وهو يُضْرَبُ الآنَ عنقُه جزاءَ ذنبه، وليست تلك شكايتي كلها، فإنها تزوجت بأخي فمرض بمرض لم يلبث فيه سوى ثلاث ساعات ثمَّ مات وعلى جسمه آثار، فأخبريني كيف مات يا فاجرة، فأنا أطلب الانتقام منكِ لأنك قتلتِ بيكنهام وقتلتِ فلتون وقتلتِ أخي، وإلا أنتقم منك بيدي. ثمَّ تنحَّى إلى طَرَف الغرفة، فتقدَّم أتوس وقال: تزوجت هذه الامرأة وهي فتاة بالرغم عن أهلي وغمرتها بالنعم والإحسان، ثمَّ رأيتها موسومة بزهرة على كتفها الأيسر، فحاولت ميلادي التبرؤ فصاح بها ذو الرداء الأحمر وقال: صه، فإني أجيبك. ثمَّ دنا منها وخلع رداءه فنظرت إليه محدِّقة فيه بصرها، ثمَّ صاحت: لا لا، ما أنت إلا خيال جَهَنَّمِيٌّ، فلسْتَ هو، إليَّ إليَّ، ثمَّ سقطت على الحائط، فقال له الجمع: من أنت يا رجل؟ فقال: سَلُوها عني، فقد عرَفَتْني. فقالت ميلادي: هو سَيَّاف لِيل، هو سَيَّاف لِيل. ثمَّ سقطت على رِجْلَيْهِ وهي تقول: السماحَ السماحَ، والعفوَ العفوَ. فقال لها: نعم أنا سَيَّاف مدينة لِيل، وهذه حكايتي:
«كانت هذه الامرأة في صِباها بارعةً في الجمال أكثر مما تَرَوْنَها عليه الآن، وكانت مُتَنَسِّكة في دَيْر، وكان لي أخٌ راهبٌ فاستهوَتْهُ فعلقها وعزم على الفرار بها، ولما لم يكن معه مال سرق آنية الْبِيعَة المقدَّسة فباعها، ولكنه أُمسك قبل أن يسافر، وأُمْسِكَتْ معه ووُضِعَتْ في السجن، فأغرت ابنَ السجان فأطلقها، وحكم المجلس على أخي بالسجن عشر سنوات وأن يوسَم على كتفه وكنت أنا جَلَّاده، فوسمْتُه وثأرت نفسي لإمساك هذه الفتاة، فتتبعتها وأمسكتها ووسَمْتُها كما وسمْتُ أخي، ثمَّ عُدت إلى لِيل فوجدت أخي قد هرب من سجنه، فعقلت مكانه إلى أن يأتي، ومضى هو يلتمسها حتى أصابها وهرب بها إلى بري، فسكن هناك وجعلها أخته. فاتفق أن سيد تلك الأرض نظرها فعلقها ووقعت في نفسه فتزوجها من أخي، فصارت الكونتس دي لا فير. فنظرت الجماعة إلى أتوس، فأشار لهم برأسه أن الحكاية صحيحة. فعقَّب السياف فقال: ولما أخذها هذا الكونت ويئس منها أخي عاد إلى لِيل فأقام في سجنه وأُطلقت أنا، ثمَّ ضُرب عنقه في ليلة وصوله، وتلك جنايتها عليَّ أُبيِّنها لدى الله والناس. فقال أتوس لدارتانيان: أي ثأر تطلب من هذه الامرأة؟ قال: القتل. ثمَّ التفت إلى ونتر فقال: القتل أيضًا. ثمَّ التفت إلى بورتوس وأراميس: فقال أنتما الآن في مقام القضاة، فبِمَ تحكمان عليها؟ قالا: بالموت. فسقطت ميلادي على ركبتيها وهي في حالة اليأس، فقال لها أتوس: أنتِ كارلوتا باكسون والكونتس دي لا فير وميلادي دي ونتر قد اجترحت ذنوبًا ضجَّت لها الناسُ في الأرض والأملاكُ في الأفلاك؛ فقد وجب عليك القتل، فكفِّري عن ذنبك لله فإن الله غفورٌ رحيم. فنهضت وأراد أن تتكلم فلم تقدر واحتبس لسانها، وإذا بيد السياف قبضت على شعرها وأخرجتها من بيتها، فتبعها الأربعة وتبعهم خدمهم وتركوا الغرفة على حالها.»