تدبير الحيلة
ولما نزل دارتانيان من منزل دي تريفيل أخذ يفكر في محبوبته بوناسيه التي سَلَبت لُبَّه ووقعت في قلبه موقعًا لا يقوى على إيضاحه لسانُه، وحاله تنشد:
فكان ينظر إلى نجوم السماء تارةً ثمَّ يعود إلى أفكاره تارةً أخرى وهو سائرٌ يَسْتَحِثُّه الشوقُ وتَحْدُوهُ الصَّبابَةُ، غير ناظر إلى ما تستلزمه النساء من النفقات على قلة ماله وضِيق ذات يَدِهِ، بل عَزَمَ على أن يكون عشيقًا رفيقًا وصديقًا صَدُوقًا، غير ملتفت إلى زوجها وخلاصِه. ولم يَزَلْ سائرًا على حالِه تلك حتى بلغ الشارع الذي يسكن فيه أراميس، فخطر له أن يصعد إليه ويخبره عن سبب إرسال خادمه له في طلبه، وكانت الساعة الحادية عشرة مساءً وقد أقفرت الطرق وهدأ الليل، فلما صار تجاه بيت صاحبه إذا به يرى شبحًا يمشي في الطريق مُلْتَفًّا بعباءة فظَنَّه رجلًا لأول وهلة إلا أنه لما تأمله ورأى صغر قامته علم أنه امرأة، وكانت تسير وهي شاخصة إلى النوافذ في ذلك الشارع كأنها في رَيْب من وِجْهَتِها، فتلتفت وراءَها ثمَّ تعود فتمشي، فخطر للفتى أن يلحقَها فيرافقها إلى حيث تَقْصِد، ثمَّ رجع عن قصده لعلمه أنها ذاهبة لموعِد عِشْق، فجعل ينظر إليها وهي تسير حتى بلغت منزل أراميس فظن أنها عشيقته وتوارَى في زاوية الشارع، فوقفت الامرأة لدى الباب فسَعَلَتْ ثمَّ طَرَقَتِ الباب ثلاثَ طرقات، ففتح لها ودخلت، ثمَّ أقفل وراءها، فأقام دارتانيان يُحَدِّق ببصرِه في نوافذ البيت حتى لاح له نور في إحدى غرفه ورأى المرأة قد أخرجت من جيبها مِنْدِيلًا فأعطته لشخص معها وهو كالْمِنْدِيل الذي رآه تحت رجل أراميس، فأخذ يفكر فيما عساهُ أن يكون هذا الْمِنْدِيل، ثمَّ تحول إلى الجهة الأخرى بحيث قابل النافذة، فرأى أن الذي مع المرأة امرأة مثلها تعطيها مِنْدِيلًا آخر كالذي كان معها، ثمَّ خرجت ونزلت في الشارع وسارت من حيث أتت فمرت بقرب دارتانيان ولم تَرَهُ، فنظر إليها وإذا بها بوناسيه، فأخذ يفكِّر في أمرها وسبب مجيئها وهو يظنُّ أن لها صديقًا حتى خطر له أن يتبعها، فسايرها حتى أدركها وهي مبهورة تلهث من التعب والخوف، فألقى بيده على كتفها فوقعت إلى الأرض وقالت له وهي لا تعرفه: اقتلني فلا أخبرك بشيء. فأنهضها ونظرت إليه فعرفته فصاحت: هذا أنت؟ قال: نعم، فقد بعثني الله لحراستك. قالت: أفي مثل هذه الحال تتبعني؟ قال: لا واللهِ لم يكن ذلك من عزمي سوى أن الاتفاق قَيَّضَ لي أن أراكِ تَطْرُقين باب أحد أصحابي. قالت: وأيَّ أصحابِك تعني؟ قال: أراميس. قالت: إني لم أسمع قَطُّ بهذا الاسم. قال: لا تحاولي الإنكار. قالت: والله لا أعرفه ولم آتِ هذا البيتَ إلا الآنَ وأنا لا أدري أنه لأحد أصحابك الحراس، وفوق ذلك فإني لم أكن لآتية إلا في طلب امرأة. قال: أليست من ذوي قربى أراميس، فإني أراه يسكن عندَها. قالت: لا أعلم، فإن ذلك سِرٌّ لا قدرة لي على إفشائه، فإن شئتَ فرافقني إلى حيث أمضي. قال: وإلى أين تمضين؟ قالت: ستعلم متى وصلنا. قال: وهل أنتظرك إلى أن تخرجي؟ قالت: لا. قال: أتخرجين وحدَك؟ قالت: لا أدري. قال: أنا إذن أنتظر خروجك. قالت: إذا كان ذلك من عزمك فأنا أذهب لشأني وحْدِي. قال: وعلامَ دعوتِني إذن؟ قالت: دعوتُك رفيقًا لي لا محافظًا عليَّ. قال: انطلقي بنا، فأنا على ما تَرُومين. قالت: أتتركني عند الباب كما قلت لي؟ قال: نعم. فاستحلفَتْه، فأقسم لها وسار بها حتى بلغ شارع لاهارب، فتقدمت إلى بابٍ هناك وشكرت دارتانيان وقالت له: اذهب، فقد وصلْتُ. قال: وكيف ترجعين؟ أما تخشين أحدًا؟ قالت: لا أخشى سوى اللصوص، وأنا لا مال معي، فلا خوف عليَّ منهم. قالت: أراكِ قد نسيتِ الْمِنْدِيل المذهب الذي رأيته تحت رِجْلك فرددته إليك وأنت مغشيٌّ عليك. قالت: صَهْ وإلا هلكت. قال: أرأيتِ كيف أنكِ في خطر؟ أفلا تسمحين لي بالبقاء في انتظارك وأنا أعدك بكتمان سرِّك.
قالت: لو كان سرِّي لاستودعتك إياه، ولكنه سر غيري، فلا قِبَل لي بالإباحة به، فإياك والتداخل فيه، وهذه نصيحتي لك. قال: أفأراميس أحق به مني؟ قالت: ألم أقل لك أني لا أعرفه وأنت تردده، وما أظن هذا الاسم إلا حيلة استنبطتها لتقف على ما أكتم من أمري. قال: لله أنت، أما والله لو فتشت قلبي لسرَّك ما يجول فيه من غرامك، فبُثِّيني دَخِيلةَ سِرِّك. قالت: سرعان ما بدأت بالعشق. قال: لسرعة ما داخلني وأنا حدَثٌ لم أبلغ العشرين، ثمَّ اعلمي أن هذا الْمِنْدِيل قد كان سبب بِرازٍ جَرى لي مع أراميس، أفلا تخشين العقاب إذا أُخِذْتِ وظَهَرَ مَعَكِ؟ قال: ماذا عليَّ وعليه من اسمي ولقبي أولهما وهما الكاف والباء إشارة إلى كونستانس بوناسيه. قال: لا، بل إشارة إلى كاميل دي بواتراسي. قالت: بالله ألا ما سكت، فإن كنت لا تخشى على نفسي فخَفْ على نفسك. قال: وما يخيفني؟ قالت: أخشى عليك عذاب السجن ووقفة الموت إذا عرفوا أنك تعرفني. قال: إذن لا أدعك. قالت: نَشَدْتُكَ اللهَ أن تتركني، فهذا نصف الليل وأصحابي في انتظاري، ثمَّ مدَّت له يدَها قبَّلها وقال: يا لَيتني لم أرَكِ. قالت: لا تيأس من رحمة الله، فعسى أن يهدأ بالي فينالك مني نصيب وأنا لك على العهد، فدعني الآن وامض لشأنك. فودَّعها وانصرف وفُتِحَ لها البابُ فدخلَتْ.
فلما بلغ دارتانيان بيتَه قال له الخادم إن أتوس قد أتى إليك وأقام ينتظرك، وإذا برجال الكردينال الذين هربوا منك قد هجموا عليه وأخذوه وهم يحسبونه أنت، فلم يدفعهم بل همس في أذني أن سيدك أحوج إلى الإطلاق مني، أما أنا فلا يلبثون أن يُخَلُّوا سبيلي، ثمَّ أخذه اثنان منهم ولا أدري إلى أي سجن، الباستيل أم غيره، وأقام الاثنان الآخران يبحثان في متاع البيت وصناديقه حتى لم يدعا شيئًا مكنونًا. قال: وأين برتوس وأراميس؟ قال: لم أجدْهما. قال: إذا حضرا فقل لهما ينتظراني في فندقِ كذا، فإن بيتي هذا قد أصبح مَظِنَّةَ بَحْث، وإياك أن تنتقل من مكانك ولو مت. ثمَّ انطلق دارتانيان يعدو إلى منزل دي تريفيل فقيل له إنه في اللوفر، فقال في نفسه: لا بدَّ من إخباره. ثمَّ انطلق إلى اللوفر مسرعًا، وإذا هو برجل وامرأة يمشيان أمامَه، وكانت المرأة كونستانس بوناسيه والرجل يشبه أراميس وهو في لباس الحرَّاس مقنَّعًا وجهُه كأنه يريد أن لا يعرفَه أحد، فثارت الْغَيْرَة في قلب دارتانيان وأسرع حتى سبقهما، ثمَّ كرَّ راجعًا عليهما ووقف في وجه الرجل يُحَدِّق به، فتأخر الرجل منه عن إجفالٍ ورهبة، فقال له دارتانيان: ظننتك أراميس. فقال: أخطأ ظنك، وأنا أعذرك. فقال: وعلامَ تعذرني؟ قال: لأنك عارضتَني ولستُ بصاحبك ولا شأن لك معي. قال: ولكن لي شأن مع رفيقتك هذه. قال: ومن أين تعرفها؟ فقالت كونستانس: أما استحلفتك يا دارتانيان؟ فاذكر اليمينَ لا تَغْدو غَمُوسًا. فقال لها رفيقها: انطلقي بنا فقد ضاع علينا الزمان. فاعترضه دارتانيان ومنعه من المسير، فدفعه الرجل بيده ومرَّ، فشهر الشاب سيفه وقابله الرجل بسيفه وهمَّا بالقتال، فحالت المرأة بينهما وقالت: لا تفعل بالله يا ميلورد. فأجفل الفتى لهذا الاسم وقال: وأي ميلورد؟ فهمست في أذنه: اللورد بيكنهام. فقال دارتانيان — وقد نكس سيفه: عفوًا يا ميلورد، فقد ظننتك عشيقَها، وأنا أحبها وأغار عليها، فهل من خدمة أبذلها لك؟ فشكره اللورد وصافحه وقال له: اتبعني عن بعد، فإذا عارضني أحد فلا تبخل عليه بالسيف. قال: نعم وكرامة يا مولاي. وتبعه حتى دخل اللوفر هو والامرأة من باب آخر، فتركهما وعاد إلى صاحبَيْهِ، فقال لهما إنه قضى الأمر وَحْدَهُ، ووجد الامرأة ثمَّ انصرف كل منهم إلى منزله.