جورج فيليه دوق دي بيكنهام
فدخلت كونستانس باللورد إلى قصر اللوفر بدون معارِض، وسارت به في دهليز طويل حتى انتهت إلى باب فدفعته فانفتح فدخلت به تقوده في ظلام حالِك وهي كأنها على نورٍ؛ لمعرفتها بمخارج القصر وطُرقه؛ حتى انتهت إلى سلم فصعدتها، ثمَّ مالت إلى يمينها وسارت في نفق، ثمَّ نزلت إلى دار ففتحت فيها بابًا وأدخلت اللورد إلى غرفة مُنارة، وقالت له: أنْظِرْنِي حتى أرجعَ إليك، ثمَّ خرجت وأوصدت الباب عليه، فأقام في تلك الغرفة بقلبٍ يَخْفِق لِقُرْب اللقاء، ولا أثر فيه للخوف لِمَا تَعَوَّده من اقتحام الأخطار وخَوْض الْمَهالِك، ثمَّ دنا من مرآة في الحائط وأخذ يُصلح من شأن ثيابه، وكان أجملَ رجال عصره وأشجعهم في فرنسا وإنكلترا، وأوفرهم ثروةً وأوسعهم كرَمًا وأكثرهم تقدُّمًا في الدولة؛ حتى عشقته حنة دوتريش ملكة فرنسا. وفيما هو كذلك وإذا ببابٍ ضيق قد فُتح في الجدار ودخلت منه الملكة بوجه كالبدر جمالًا وقدٍّ كالغصن اعتدالًا، يقطر من وجهها ماءُ الملاحة والظَّرْف، بعينين قال الله كونا فكانتا، فَعُولَيْنِ بالألبابِ ما تفعل الخمر. فدُهش اللورد لجمالها ولاحت له بثوبِ التَّفَضُّلِ أجملَ وأبهَى مما كان يراها عليه في مراسح اللهو والطرَب، تَرْفُل بالدِّمَقْسِ وبالحرير، وتَخْطِر في الحلي والجواهر. وكان عمرها يومئذٍ خمسًا وعشرين سنة، وهي في ريع الشباب ومقتبل العمر ودولة الجمال، فجَثا اللورد أمامَها وقبَّل طَرَف ثوبها، فأنهضته وقالت له: إنك تعلم يا لورد بأني لم أكتب لك بالمجيء. قال: لا وحياتِك ما دعاني إلا شدة العشق وحَرُّ الصبابةِ ونارُ الشوق، وأَهْوِنْ بما أقاسيهِ في طريقي إليكِ عندَ مَرْآك. قالت: نعم، إنِّي لم أفسح لك في زيارتي إلا لأقول لك أن مقامك في هذه البلاد على خطر الموت لك والفضيحة لي، ولستَ تجهل كم يحول دونَنا من موانع اللقاء بين لُجَّة البحر وتَنافر الملوك وبُعد النزعة وكثرة الرُّقَباء، وهو ما دعوتُك لأظهرَه لك وأُعْلِمَك أنْ لا لقاءَ ولا اجتماع، فقال: تكلمي أيتها الملكة ما شِئْتِ، فإن لِينَ لفظِك يمحو قساوةَ مَعْناه، فهو كالسيف في لِينِ صَفْحَتِه ومَضَاءِ حَدِّهِ. قالت: كأني بك قد نسيت أني لم أَقُلْ لك قَطُّ أني أحبك. قال: نعم، وهو كلام يحطُّ من وفائك في جانب عِشْقٍ أنا منه بين الْجُنونِ والْمَنُونِ، لم تَصُدَّني عنه رَهْبةٌ ولم يُرْهِبْني صَدٌّ، حتى كان واحدًا من يوم رأيتُكِ أولَ مرة من نَيِّفٍ وثلاث سنين، حتى إني لَأَقْدِرُ الآنَ أنْ أَصِفَ لكِ هيئة ثيابك؛ لشدة رُسوخ صورتك في ذهني وانطباعها على قلبي، فكأني بكِ وأنتِ لابسة ثوبًا من الحرير الأخضر مطرَّزًا بالذهب، وعلى كتفيك جوهرتان وعلى رأسِكِ قبعةٌ مُوَشَّاة، وأنا أراكِ الآن في ثوبك هذا أحسن وأجمل مِنْ قَبْلُ. فقالت الملكة: لله ما هذا الجنون في عشق لا فائدة منه إلا ذكراه؟! قال: نعم، وإنما هي ذكرى تغلو بها الأرواح إذا رخصت ويَخْضَرُّ منها عُودُ الشباب إذا ذَوَى، بل إنما هي ذكرى ألذُّ من أَلْف بُشْرَى، وما هي إلا أثَر نظراتٍ ثلاث، أُولاها ما ذَكَرْتُ لكِ والثانيةُ عند الكونتس دي شفريز والثالثة في حديقة أميان. فقالت الملكة وقد صَبَغَ الحياءُ خَدَّيْها: بالله يا لورد لا تذكر تلك الليلة. قال: كيف لا أذكرها وهي زهرة حياتي ونضارة عمري.
حيث بَثَثْتِني سركِ وشكوتِ إليَّ همك ويدك في يدي وغدائرُكِ ينشرها النسيم على وجهي، فهي والله وقفة ما أظن جنة الخلد بأحسن منها، وقد تَرَكْتِني وأنا أنشد:
وأنَّى لي بها ورَدُّ الفائتِ أَيْسَرُ منها! بل نَوال النجم أقربُ من نَوال أمثالها! فما أشك واللهِ أنك فيها كنتِ تحبينني. قالت: نعم، لقد كان ذلك إذ كان النسيم باردًا والجو صافيًا والأرض بارزة في أثوابها القشب، وأنت توحي إليَّ من الحب آيات بَيِّنات ومن العشق سُوَرًا مُفَصَّلات، ولَحْظُك يغازلني وكَفُّك تَغْمِزني، وما أظنُّ أنثى يُصيبها ما أصابني ولا تصبو. إلا إنِّي لما عرفت من كلامك أنك خضعت لبعض الشيء وسوَّلت لك نفسًا أمرًا غَلَبَتْ عِزَّةُ الْمُلْكِ على سَكْرَة الْهَوَى، فاسْتَصْرَخْتُ جَوارِيَّ وكان ما كان. قال: نعم، وهو ما زاد لي غرامًا فأنقصَنِي صبرًا ورفعني هيامًا فخفضني قدرًا. وأنت تحسبين أنك تُفْلِتِين مني أو تقعد بي عنك وَزارة الملك وعبء الأعمال ومعاناة الحكم، وأَهْوِنْ بها وبملوك الأرض جميعًا في سبيل نظرة من جمالك، فإني لم أَغِبْ عَنْكِ ثمانية أيام حتى رأيتني عائدًا إليك لا أَقْدِر على الدُّنُوِّ منك، ولسان حالي ينشد:
ولعل ذلك يحمِلُكِ على بعض الرِّضَى عني. قالت: أَوَلَا تعلمُ أن السعاية خالطَتْ أمرَنا وأبعدَتْ ذات بَيْنِنا فجفَّ ثَرَانا ووَهَتْ عُرانا وثار الكردينال بالملك فصنع بي ما صنع من طرد الخاتون فرني ونفي يوتانج وفضيحة دي شفريز؟ ثمَّ لما عزمَتْ على الرجوع إلينا في سفارةٍ، قام الملك بنفسه يعارض في الأمر، وإنه لشأنٌ لو تعلم عظيم. قال: نعم، وهو ما ستثور به الحرب في فرنسا على قدَمٍ وساقٍ، تَطْحَنُ الْهَامَ بِرَحاها، وتعجن بالدماء ثَراها. وقد رأيت أن أسمعك بذكري إذا لم أقدر على مرآك، وما ظنُّك بدواعي بعثة جزيرة ري وحصار روشل وثورة البروتستان إن لم تكن.
ولا أَكْذِبُ اللهَ أنِّي لا أملَ لي بالدخول إلى باريز دَخْلَة فاتحٍ شاهر سيفَه، سوى أني أعلم أن لا بدَّ من أن تكون هدنة على أثر تلك الحرب، فأُرسل أنا في سفارة الصلح فأنظر إليكِ نظرة يرخص لديَّ في جنبها دماء رجال وأرواح أبطال تسيل على ظُبَى الْمُرْهَفَاتِ وشَبَا الْأَسِنَّة، ولا إخالُ الْمَلِك عند ذلك يرفضُ سِفارتي لأني:
قالت: أفما تعلم أنها أفعال تعود عليَّ بالْوَبال إذا عادت عليكَ بالهناء والسعادة؟ قال: ذلك لأنك لا تحبينني، ولو فعلتِ لكان لي مُنْصَرَفٌ عن هذا الأمر إلى ما يكون أَسْلَمَ عاقبة وأهون مِراسًا، فوالله إن دي شفريز لَأَرقٌّ منكِ وأرحم، وقد عَشِقَها هولاند فأجابته إلى هواه، وكان بها منه مثل ما كان به منها. قالت: أتذكر أن دي شفريز لم تكن ملكة يا ميلورد؟ قال: إذن ما يمنعك عني إلا رفعةُ مقامك حتى لو كنت دي شفريز لَأَجَبْتِني، فللـه دَرُّكِ ما أحلى كلامك وأعذب معانيك، وهل في العشق ملوك أيتها الملكة؟ قالت: وا سوءتاهُ، لقد أسأت الفهم وما هذا قصدت. قال:
ولقد عذرتك غير معتذرة، وما أصنع بالدنيا بعد نفسي؟ فإني أرى حياتي ستصير في سبيل غرامك إلى مصير لا ترجع أُولاهُ على أُخْراه، ولا يلحق أقصاهُ أَدْناه، وإني لتنذرني نفسي بأني مُلاقٍ مَنِيَّتِي، وعلى الدنيا بعد ذلك السلام. فقالت الملكة وقد داخَلَها الرَّوْع: وَيْلاه يا لورد، ما هذا الكلام؟ قال: ليفرخ روعك، فما قصدت إرهابك، وما أنا ممن يعتقدون بالأوهام والأحلام، وما ألذَّ الموت بعد إذ أسمعْتِني ما أسمعْتِني، فقالت: وَيْلاهُ يا دوق، فقد رأيتُك في منامي طريحًا مخضَّبًا بدمائك. قال: أوَليس في خاصرتي اليسرى؟ قالت: نعم مجروح بِمُدْيَة، فمَنْ أنبأك بحُلْمي، فإني لم أُناجِ به إلا الله في صلاتي؟ قال: إنك تحبينني إذن؟ قالت: أنا أحبك؟ قال: نعم أنتِ، ولولا ذلك ما توافق حُلمانا؛ وهو دليل على اتصال القلوب وامتزاج الأرواح، وما أراك إلا نادبة عليَّ إذا صحَّت أحلامنا، إن كان جفنك بالدموع يجود. فقالت الملكة: وا كَرْباهُ، لم أَعُدْ أُطِيق، فبالله ألَا ما ذَهَبْتَ فإني ما أعلم هل أحبك أم لا، فأنشدك اللهَ أن تذهب، فوالله لئن نَفَذَ فيك مكروهٌ في فرنسا بسببي ما وجدت عزاءً عنك ولو سَلَوْتُ إلا بالجنون أو بالْمَنون، فارحل بحياتك عني. قال: لله أنت ما أحلاك، وما ألَذَّ عذابي فيك. فقالت: ارحل يا لورد بالله، ثمَّ عُدْ سفيرًا أو وزيرًا تَحُفُّك جنودُك تمنعك من أعدائك حتى لا أخشى عليك، فأراك فرحة مسرورة. قال: أحقٌّ ما تقولين؟ قالت: نعم وأبيك. قال: فهل من شاهدٍ على ذلك يحقق وقفتي معك حتى لا أعودَ أظن أني كنت في حُلم، فهل من خاتم أو سلسلة أو عِقْد أحمله؟ قالت: أتسافر في الحال إذا أعطيتُك ما تطلب؟ قال: أفعل واللهِ. قالت: إذن فانتظرني إلى أن أعود. وذهبت ثمَّ عادت وفي يدِها عُلْبة، فأعطته إياها وقالت: خُذ هذا واذكرني به. فأخذها من يدها ووقع على قدميها، فقالت: لقد وعدْتَني بالرحيل يا لورد. قال: نعم، وأنا على وعدي، فهاتي يدَكِ. فأعطته يدها، فقبَّلها وهو يلتهب شوقًا، فاتَّكأت الملكة على جاريتها أصطفانة خوفًا من أن تسقط لانحلال قُواها، فقال لها اللورد: أراكِ بعد ستة أشهر إذا فسح الله في أجَلي، ولو آل ذلك إلى خراب الأرض. ثمَّ خرج من حيث دخل فصادف كونستانس في الدار، فأخذته إلى خارج اللوفر.