كالونيا خمس نجوم
العطر الوحيد الموجود في بيتنا كالونيا خمس خمسات، هو تكوين لا يصل إلى العطر، وأكثر عبقًا من رائحة الليمون، مفيد جدًّا بعد الحلاقة.
قبل أن نتعرَّف على الكالونيا المصرية، كانت جدَّتي تغلي أوراق شجر الليمون، وحين يفور الماء، تضع كمية من «السبيرتو» الأبيض، رائحته جميلة أيضًا.
من رائحة الكالونيا نعرف أن جدِّي حلق شعر ذقنه، أو أن أبي حلق ذقنه، ورائحة بيت عمِّي تفوح حين استخدامها أيضًا.
الكالونيا لها استخدامات أخرى، فهي معقمة للجروح، بل هي العلاج الوحيد لجروح الجسد. ويا ويلك إذا وضعت القليل منه على جرحك! فلا بدَّ أن تصرُخ، وتقفز كقرد شمبانزي في الغابات الاستوائية، أنت تتألم من جرحك ولدغة الكالونيا، والكل يضحك منك.
بعد دقيقة من الصراخ، يطير ألم الجرح مع رَذاذ الكالونيا.
رجلان في الحي كانا يعشقان الكالونيا، وأينما يذهبان يحملان القنينة، أحدهما أمين المجنون. قبل الجنون كان يعمل داخل الأراضي المحتلة، وقد تعلم أن يسكر، كان يشرب كثيرًا، فوقعت مشكلة مع أصدقائه، وضربه أحدهم على رأسه، ففقد عقله لكن لم يفقد طعم الشراب. في الحي ممنوع بيعُ الكحول، فصار يشتري كل يوم قنينة كالونيا ويشربها، مع بعض كلمات تخرج من فمِه غير مفهومة، ومن رائحة الكالونيا، نقول: إن أمين مرَّ من هنا.
والآخر جواد، الشاب المقاوم، خبيرٌ في رمي الحجارة، كأنه قنَّاص أسود، وكثيرًا ما يتجمع الأطفال والناس حوله، ويقول لهم وهو يحمل حجرًا: «سوف أصيب نافذة سيارة الجيش.» وحقًّا كان بارعًا، حين يلقي الحجَر في الفضاء، يطير كالسنونو في فصل الصيف.
كنا نذهب مع جواد بالقرب من بِرَك المياه، حيث يرمي الحجر على سطح الماء، فيظل الحجر يركض دون أن يسقط في الماء، حاولنا أن نفعل مثله، لكنَّ حجارتنا تغرق في الماء قبل أن تتحرك.
جواد كان أيضًا يحمل قنينة الكالونيا دائمًا في جيبه، حين يُلقي الجيش قنابل الغاز المسيل للدموع على المدارس، أو التجمعات في الأسواق، أو في أيام الغضب والذكريات، من قوة رائحة مسيل الدموع يُغمى على الأطفال والسيدات، والدموع تصبح أنهارًا. يأتي جواد كملاك يحمل الكالونيا، ويمرِّر رائحتها على أنوفهم، فتعود الحياة إليهم.
في يوم كان جواد يجلس على حجر كبير وسط الحي، فجاء الجنود وحاصروه، وأرادوا تفتيشه، وحين أخرج القنينة من جيبه ظنَّ الجنود أنها قنبلة حارقة «مولوتوف»، فأطلق أحد الجنود الرصاص على قلب جواد، فقُتل. وصل خبر موته بسرعة إلى كل سُكَّان الحي. كان خبر موته أسرع من رذاذ الكالونيا، تجمعوا حول جواد، والقنينة بجانبه. حملوه وجاء أمين فسرق القنينة وهرب.
بُرج المراقبة في الجدار كان يراقب كل تحركاتنا، يكرهنا، أو يطمع في نصف المزرعة الآخر بعد أن غرَسْنا شتلات الكرنب في المزرعة. شعرنا بالمراقبة والملاحقة من آثار الآليات العسكرية، في أطراف المزرعة جهة الجدار. شجر اللوز القريب منه يموت، أغصانه تتناقص، ولا يكبر.
في بعض الأحيان نجد شجرةً مقتولة بعشرات الرصاصات، كأنَّ جنود برج المراقبة يتدربون على القنص بجذوع الشجر.
زاد خوفنا على شتلات الكرنب، لأن جدِّي دفع كل ما يملك من النقود في هذا الحلم، حلم جدَّتي بأن تزرع الكرنب في المزرعة، وبعد موت جدَّتي، واغتصاب الجدار لنصف المزرعة، قرَّرنا التحدي.
بعد أن غرسنا الكرنب صرنا نتجوَّل كل دقيقة بين الشتلات، نرعاها، نصفِّق لها، نغنِّي لها، نُبعد الحشرات عنها، ننام بالقرب منها. كل يوم نشعر أن غضَبَ الجدار اقترب من مزرعتنا، وحين نكون جالسين، نسمع طلقات نارية بالقرب منا، فيشير إلينا جدِّي، أن ننبطح أرضًا ولا نتحرك. ولكن الجنود يحبون اللَّعِب معنا ألعابًا ثقيلة، وفي لحظة يلقون عشرات القنابل المسيلة للدموع.
الدخان ينتشر في المكان، لا يرى بعضنا بعضًا، كان يُغمى علينا من السعال والدموع وحرقة العيون، ونحن نلاحق كل قنبلة بدلو ماء كبير نُريقه على الدخان. في أوقات كثيرة لا يتمكَّن الماء من إخماد الدخان. فكنَّا نصنع غطاءً من القماش الكبير، أُمسك أنا ومزيون طرفًا، ويمسك جدِّي طرفًا آخر، لنكون جاهزين لأيِّ قنبلة تنفجر في المكان، ونلقي قطعة القماش في الهواء باتجاه القنبلة، كمشهد الصياد حين يُلقي شبكته لصيدِ السمك القريب من الشاطئ.
غالبًا لا نستطيع إخماد الدخان، فأكثر من قنبلة تسقط في وقت واحدٍ، ويصعب علينا إخمادها، فيُغمى علينا. وحين يُغمى عليَّ، أتخيل أن جواد يحمل قنينة الكالونيا، ويُمرِّرُ رائحتها على أنفي، شكرًا يا جواد، يا فارس الكالونيا.
كان جدِّي يرشُّ عطر الكالونيا في الماء دون سبب، قبل أن نضخَّه لشتلات الكرنب.